يومها خرجت عابرة للشارع الطويل، بعد أن أديت الامتحان، أتحدث مع صديقاتي فمنهن الواجمة ومنهن من كست وجهها السعادة، لنصل إلى نهاية الشارع، وأقرر الذهاب إلى هذا المحل الذي تدافع إليه وفود الناس، ليطفئوا حر ظمئهم، أدفع النقود، أنتظر بلهفة هذا الكوب اللذيذ، يتسلل إلى أذني صوت خافت ضعيف قائلا: ممكن تديني جنيه علشان أجيب ساندوتش؟، أنظر إلى يساري، لأجد سيدة عجوزًا قد كسا جسمها الهزيل الضعف، وارتسمت على وجهها بشدة خطوط الزمان، فما كان مني إلا أن أعطيتها إياه على الفور، وأمرت لها بكوب عصير لعله ينعش هذا الجسد الميت الذي أراه أمامي: ممكن تديني جنيه علشان أجيب ساندوتش؟، أنظر إلى يساري، لأجد سيدة عجوزًا قد كسا جسمها الهزيل الضعف، وارتسمت على وجهها بشدة خطوط الزمان، فما كان مني إلا أن أعطيتها إياه على الفور، وأمرت لها بكوب عصير لعله ينعش هذا الجسد الميت الذي أراه أمامي..
ومن جديد يتسلل بضعف صوتها الخافت إلى أذني قائلة: أصل أنا لوحدي وبقالي أسبوعين في المعهد ومش معايا فلوس، فسألتها أي معهد؟ قالت: معهد الأورام وهم خدوا مني دم علشان التحليل، فنظرت إلى يدها المتيبسة مستغربة أي دم أخذوه، فليتركوا لها هذه القطرات من الدم لعلها تحييها، ثم سألتها أين أولادك؟ فردت والدموع تملأ عينيها أصل أنا مش من هنا أنا من أسيوط وعيالي بنات ومتجوزين وأبوهم مات من خمستاشر سنة...
وما منعها عن الاستمرار في الحديث إلا اندفاع هذه الدموع مغادرة عينيها، متخللة الدروب التي تملأ وجهها، فتحاول التماسك بما يسمح لصوتها المتهدج المكلوم أن يقول: والله مش عارفة هاروح ازاي، لحظتها أحسست بكلماتها كأنها سكينٌ صوب إلى قلبي، وتكاثرت في رأسي الأفكار، أن أبقى معها، أن أوصلها إلى بلدتها، أن أفعل أي شيء، ولكني تذكرت أنه يتحتم علي أن أمضي لأذاكر من جديد وأجتاز الامتحان الجديد -امتحان الغد-...
وبعد أن رواني كوب عصير وأحياها آخر، استأذنتها في الانصراف، ملقية عليها السلام، وصوتها الهزيل مازال يردد: الله يخليكِ يا بنتي، الله ينجحك ويكفيكِ شر المرض:
فمشيت هائمة، شاردة الفكر، يخترق صوتها أذني، لا أفهم ما تتبادله صديقاتي من كلام، فقط أجد نفسي وقد بدأت في ترديد كلمات هذه الأغنية التي صاحبتني طوال رحلة العوده إلى بيتي "ياعيني علينا منك يامدينة مجنونة ورزينة وفيك البدع ماشين بالتكالة تايهين بين ألف حالة الزيف والأصالة وضرب الودع .............."
واقرأ أيضا:
العودة من المنفى: درويش، ذلك الشعر الآخر/ حتى آخر الصلصال/ كوفاد/ حيث في كلّ خطوة قمر مكسور/ محاولة أخيرة لقهر الزمن/ نصف روح! / قصص قصيرة جدا