إنهُ الثاني من ماي، عيد ميلادها الذي يسبق عيده بيوم واحد. ما كان ليسمح بمباركة سنيّ الحزن فيه على ولادة سنة جديدة، لكن عيدها كان عالمًا آخر ومعايير أخرى. كانت عنيدة ومصممة على رفضه الغريب، ويبدو أنها تتصرف وكأن الزمن لن يرهل جسدها الممشوق، أو يغبش عينيها المثيرتين. ارتدى بذلته السوداء وقميصه الأسود وحذاءه الأسود، للسواد شاعرية خاصة عنده، ومن ثم عقد ربطة العنق الحمراء فبدا كـ"طالع العريفي" برواية "الآن هنا". وما إن قفز إلى رأسه هذا الخاطر حتى غلف هديتها بورق الجرائد والشريط اللاصق الشفاف، كانت روايتين لديكينز ومنيف. تأمل نفسه بالمرآة للمرة الأخيرة وصعق لرؤيته نقطة حبرٍ على أنفه لكتابته لبطاقة المعايدة. غسل أنفه بقسوة وهو يتخيل حجم الكارثة إن هي رأت وجهه متسخًا، وكان عليه أن ينشف وجهه جيدًا استعدادًا لوضع العطر. بخ بخات سريعة على ياقته وعنقه، ومن ثم بخ بداخل راحتيه وفركهما بالذقن والشارب الحليقين، وكخاتمة غلغل أصابعه المُعطرَة بجانبي رأسه لتترك لمسة عطرٍ بشعره. تأمل وجهه المُحمَر، جراء حرق الكحول لمسامه، وتمتم بصوت راضٍ: وسامة مقبولة، رغم أنها لا تبالي بالمظاهر.
أقفل باب غرفته بالبطاقة الإليكترونية الممغنطة، وبطريقه لبوابة الفندق الرئيسة ابتسم برسمية لموظفي الاستعلامات، وهذي ظاهرة عادية لمن يعرف طباعه الدمثة المغايرة لصرامة مبادئه. كانت ابتسامة رصينة لا تبدو بأنها مرحة قط، بل أشبه ما تكون بتحية عسكرية يؤديها ضابط لآخر.
لا شك بأنها ستُذهل لهذه المفاجئة الظريفة! فبالوقت الذي تحسبه نائمًا بقارة قَصية هاهو يقف أمامها بقمة أناقته ليحتفل بعيد ميلادها. لقد دُهش حقًا لمشاعر السرور التي تفتك بوقاره، وألفى نفسه يعاني من أزمة اللاسيطرة على ابتسامته، التي راحت تزعج ركاب الترام الذي يستقله. نزل بمواربة بوابة الشركة التي تعمل بها، سأل الفرّاش بحذر لمعرفة القسم الذي تَشغله. بعد قطع مسافة الأدراج البيجية المتسخة والمثلمة الجوانب -أدراج مؤسسة حكومية- وقف عند بوابة مكتبها المتواضع، عانقها بنظراته المسترخية بينما انهمكت هي بحل فوضى الأرقام. وباختلاجة حب تمنى أن يتلقف يديها ويشبعهما لثمًا أو أن يسطو على القلم الذي تضع نهايته بين شفتيها ويحفظه بجيب سترته الداخلي إلى الأبد. كان قد اعتزم الدخول، وسمعت هي وقع الخطوات المُتسلطة. لم ترفع رأسها إلا بعد أن توقف أمامها بقامة مستقيمة، موشومة بابتسامة صغيرة لا تكاد تُلحظ. انتصبت بسرعة على حذائها ذي الصناج العالي عند رؤيته، إلا أنها لوت كاحلها برفق وعادت ملقية نفسها إلى الكرسي الخيزراني والدهشة تحتل وجهها. لم يدم الصمت طويلاً على أي حال. سألته بلهجة سَرَت فيها ريبة متوجسة:
- لمَ أنت هنا؟
= لقد أتيت لأزورك و..
- تأتي من كندا لزيارتي؟
= نعم
قالها مع ابتسامة خفيفة، وقد دب في قلبه الخوف.
شعرت هي بذلك فدعته للجلوس.
- ما مناسبة الزيارة؟
= أنه عيد ميلادك.
- آه .. شكرًا.
بدت غير مكترثة، لكنه تابع بلهجة جادة رققت من جفاها ابتسامته:
= وبهذي المناسبة سألتقي بوالدك.
- العفو؟
= لأخطبك.
رمقته بصرامة واضحة هذه المرة، وقالت كلماتها بعصبية حاولت جاهدة أن تخفيها:
- قلت لك ومنذ سنوات بأنني لن أتزوج ممن يصغرني بثلاث أعوام.
= أنا أكبرك تجربة، العمر ليس سوى رقم بهذه الحالة و...
- لا يهم..آسفة وأرجو أن تتفهم. أنت رجل رائع وهناك الكثيرات من..
لم يتركها تكمل إذ نهض وهو يقاطعها "لا بأس ولا داعي للأسف". قال ذلك وعيناه تجثوان على الأرض بضعف. الحق أنها دُهشت لحاله، فلطالما بدا لها قويًا وصلبًا كفاية ليهضم أعتى الإهانات بكبد قوي، إلا أنها لم تعرف من يكون هذا الذي لا يجرؤ على النظر لعينيها حتى! تمنت حقًا أن تسأله عن هذا الضعف الذي يخلخل كثيرًا من مقاييس صراعهما، عن سر الملابس الجنائزية، وتأريخ شعيرات الشيب المتفرقة؟ لكنها انسحبت عن حياته سلفًا، لم يعد يحق لها سؤاله عن كهن هذا التغيير الذي سيؤجج عقدة الذنب فيها، إن هي أعملت فيه مخالبها مرة أخرى. لقد بدا لها صارمًا وعنيفًا بالماضي، وكانت تكسب من حروبها معه قوة تواجه فيها تهاوي واقعها الاجتماعي، كانت موقنة بأنه أصلب من أن تدهسه بعجلات غضبها، لذا لم تترك لتقريع الضمير فيها مقامًا. الأمر اختلف الآن حتمًا، فلم تعُد تعي أينَ خبأ جَبروت الماضي، ومنذ متى؟ ولمَ صار وجهه يحمر خجلا هكذا؟ وكيف تعلم بأن يصمت بين كل جُملة وأخرى، كأنه ينتقي كلامه بحذر؟ هل هذا يعني بأنه مهتم لمشاعر المقابل؟ التهت بحديقة الأسئلة التي أزهرت فجأة، ولم تلتفت لموقفه إلا بعد أن ترك هديته على مكتبها ومضى بوجه متصلب، بينما رفعت هي يدها خلفه كي تناديه وتعيد له الهدية، لكنها صمتت حتى لا توغل أظافرها بجرحه بأكثر مما فعلت. زفرت الهواء بحزن وتمتمت بأعماقها "ياللرجل المسكين!" وتذكرت بأن هذه الجملة قد صادفتها برواية كان قد أخبرها بأنه سيهديها إليها بعد أن يوقعها بقلمه. ولم يرسلها بريديا كما وعد، ولا بأي طريقة أخرى، لأن عشرات المشاكل قد ولدت آنها، لكنها لم تكن ستصدق بأن الرواية ماتزال عنده، وما يزال الإهداء إليها مخطوطًا على صفحتها الأخيرة وممهورًا بتوقيعه الإمبراطوري! مزقت غلاف الهدية الهش بأصابع متعرقة قلقًا وقرأت عنوان الروايتين بشفاهٍ مسالمة. في رواية "قصة مدينتين" لديكينز كان قد دس بطاقة زهرية تحت دفة البداية، كتب فيها: "كلما تمادينا بأوار الصِراع، أكتشف ذاهلاً بأنني أعجزُ من أن أكرهك، وأكتشف أيضًا بأن حبك حالة قدرية لا يد لي بها ولا قوة لي على دفعها". غرزت طرف البطاقة بشفتها السفلى برفق، وفكرت فيه لا بهيئة زميل الدراسة الذي يصغرها، بل بهيئة الرجل الخجول ذي الصوت الهادئ والقد المتناسق والحُب الراسخ. بعد ساعة كاملة من التفكير وضرب الفرضيات وطرحها، وجدت نفسها مهرولة على أدراج المؤسسة، مقتفية آثاره بصعوبة بعد أن دلّها الفراش بوجهة رحيل الرجل ذي الملابس الجنائزية الأنيقة، والشعر الأسود المتناسق مع بريق البشرة البابلية البيضاء.
أما هو فقد نزل من مكتبها دونما كلمة، وما كانت هي التي تشغل باله وإنما حجم الاحتقار الذي عرّض نفسه إليه. مشى بشوارع المدينة مطأطأ الرأس، وتذكر فجأة بأنه يرتدي ربطة عنق حمراء، نزعها بأصابع حزينة ودسها بجيبه فيما يمد بصره بتعب لجانبي الشارع كي يعبره. تابع مسيره دون شعور متكامل، وهو يتأمل المحال التجارية المختلطة على جانبي الرصيف، خطر له أن يتوقف أمام مكتبة صغيرة تخيل بأنها تشتري كتبها منها، لكن ما الفائدة؟ غادرها ببطء وهو يستشعر رطوبة الدموع على مقلتيه، كانت فتاة شابة ترنو إليه بوجه حزين عند اجتيازها للشارع المزدحم. شعر بالخجل، نشفَ بلل عينيه بظاهر كفه، ثم شرد بالبصر المرهق حتى حط على بائع سندوتشات متنقل، وكان هذا يضع عبارة "كوكتيل بطاطس" على عربته. لم يكن على علم بماهية هذا الطعام، إلا أنه تذكر بأنها كانت تأكل شيئا كهذا حين يصادفها الجوع. فكر بالأكل تيمنًا بها، لكنه كان عاجز من أن يلوك بفمه شيئًا عدا الحزن، ولذا فقد تابع المشي لعشرة دقائق أخرى حتى أكتشف بأنه قد أضاع معالم طريق العودة. وبخطوة نحس من خطواته الذاهلة، داس على حذاء شرطي كان يعاكسه بوجهة سيره، ولم يستمع الأخير للاعتذار الخافت إذ ضربه على جبهته بعصاه فأرداه أرضًا. وبلحظة خاطفة التحق به شرطيان آخران وأشبعوه ركلاً بأحذيتهم. لم يفهم من رطانتهم الغاضبة الكثير سوى أنه تعمد الدوس على حذاء الشرطي. غريب أنهكته الوحدة، الضياع، الرفض، وكذلك كدمات الأحذية الثقيلة. تركوه ممددًا أرضًا، بينما راحت الأحذية الفاخرة تجتازه بعجلة أثناء بقائه طريحًا لدقائق قصيرة. انتصب على قدميه بصعوبة، دون أن يمسح دماء جبهته، وبدلاً منها انهمك بنفض التراب -بضربات منهكة وعشوائية- عن حلته الأنيقة. فكر بأن يعود إليها كي تساعده، لكنه نفى الفكرة بإشارة رمزية من يده، وبعد حالة اتزان أولية، أوقف أول سيارة أجرة قابلاً للسعر الانتهازي الذي عرضه سائقها. دخل لبوابة الفندق بنظرات تتحاشى الأسئلة، وكيف لا؟ سأله أحد الموظفين عما حل به، فأجابه بمرارة السُخرية "إنه الثاني من مي.. يوم مميز دومًا". ورغم حالته المزرية وجد نفسه يبتسم فيما بحث عن بطاقته الممغنطة، ولم يعثر عليها، فطلب أخرى من الموظف الذي ساعده بارتقاء السلالم متوجهًا لغرفته.
كانت قد تعبت من السير خلفه، ولم يكن بوسعه أن يسمع مناداتها الخافتة لبعده عنها، أنظار المارة الكثر تخيفها إن هي صاحت فيه بصوت أعلى. لما قاربت منه بمسافة وافية كان الشرطي قد هوى عليه ضربًا لسبب لم تفهمه، وقد ساعده آخران بضربه حتى تركاه ممددًا لثلاث دقائق كاملة. توقفت خلفه دون أن تقترب منه، ومسحت دموعها بمنديل، والحقيقة أنها كانت تخشى أن يكون غاضبًا منها. لكنه نهض بحركة مسالمة وسار لمترين، أوقف سيارة أجرة ومضى، دون أن يستشعر بأنه سهى بطاقته أرضًا. التقطتها بحذر وسرعة قارئة عنوان الفندق بفرحة خافقة، ووجدت نفسها تؤجر سيارة أجرة، رغم أنها لا تفعل شيئًا من هذا عادة، وتسابق الدقائق لرؤيته، وقد رجت السائق أكثر من مرة، أن لا يسلك شوارع جانبية ذات سرعة بطيئة. وصلت بأنفاس مقطوعة ومشاعر مكدرة لتلميحات السائق البذيئة بحقها طيلة الطريق، سألت موظف الاستعلامات عنه بصوت جاف بلهفة الشوق، فأخفض الأخير رأسه بأسف وتمتم:
- البقية بحياتك.
= هل تهزأ بي؟
- لا، مات متكهربًا منذ عشر دقائق جراء محاولته لإنارة ضوء الحمام.. كنت قد سمعت صرخته وأنا أهم بإغلاق باب جناحه و..
= وماذا؟
- وجدته متيبسًا على الجدار.. ليرحمه الله
= محال.. لا يمكن له أن يموت.. غدًا عيد ميلاده.. غدا سيكمل عقده الثالث..
- البقية بحياتك يا أختي.
لم تجبه، خرجت مذهولة وقد تركت الدموع تسيل على وجنتيها الورديتين، وتمنت لو تعود لتلقي نظرة أخيرة على الجثة المتيبسة، لكنها فضلت أن تتذكره بالصورة التي أحبته فيها منذ ساعة.
واقرأ أيضاً
مازلتُ أذكركِ../ مذكرات العراقي الشريد: أنا و ليلى/ كفرتُ/ إلى من تعلم.../ كراهية/ عندما تتحطم الأحلام/ تتهاوى أوراقي