أماه أرسل في البريد رسالتي
بحروفها.. ونقاطها
سترينَ غزةَ دمعةً
بغمامةِ الإعصار تغمسُ سرَّها
وتدوِّنُ الأسماءَ في سِفْر العبورِ!
سترينني متغلغلاً بين الرصاصةِ والقذيفهْ
أروي لها قصص الشظايا في دمي
فالكونُ يرفضُ أن يغازل غزّةٍ
إلاّ ببركانٍ منَ النيران يزحن جنَّتي
أماه هذي حصتي من غصَّتي
أنعي بها صمت المحابر في دفاتر أمَّتي
أنعي روايةَ أمّةٍ سهواً ستسقط من فمي
أنعي بقايا أمّةٍ
كانت ملامح خافقي وغدتْ نزيفهْ!
أماه أكتب قصتي
وقذائف الصاروخ تشعل مقلتي
تُفني جزيئات الهواءْ .
ويعربد البارود فوق ربوعها
فيئنُّ نبض الريح من بركِ الدماءْ
ويُغيِّب الأيَّام في وجع السوادِ!!
أمّي.. أراهم من هنا
طفلاً يعاقر يتمهُ
فيغصُّ من أنّاته صخرُ الجليلْ
وينوء قبرٌ للخليلْ
وبقربه أطلالُ جثةِ طفلةٍ،
في الأرض تغرس نسغها
والأرض تحمل بوحها صوب المدى،
لتحوك من جثمانها
أزهارَ نارٍ كالمحال ِ!
يا أمّها..
يا دمعةً مسحوقةً بلظى العروقْ
مصعوقةً لدم الغزالِ
تنعي بقايا طفلةٍ
ما أورقتْ في غصنها قصصُ الرحيقْ..!!
أماه هل تبكي سمائي
أم أنَّها بعضُ احتراقات الشتاءِ.. ؟!
دوّت طبولُ!
وبكتْ طبولُ..!
أمَّاه ينفجر المدى قيحاً وينفطر العويلُ!!
ماذا أقولُ؟!
والبوح عندي ضائعٌ مابين عادٍ أو ثمود!
ماتت مطايا أمَّتي
مابين رنَّات الكؤوسِ وبين أكوام النهودِ!
غاب الصدى وقضتْ فحولُ!
غابوا .. فليس يهزُّهمْ موت الحريرِ،
وليس يجلدُ قفرهمْ جمرٌ أسير!
وسماؤنا حقدٌ وريحٌ زمهريرْ
يغتالها لصٌّ وغولُ
ماذا أقولُ؟!
والنزفُ ينشر جنحه بمدينتي
وملامحي ورقٌ يقصقصه المغولُ!!
ماذا أقولُ؟!
وصوتكم ... صمتٌ عتيقْ!
وحكايتي دهرٌ كسيحٌ لا يفيقْ.. !
يا أمَّتي .. ماذا أقولُ؟!
أمَّاه.. أرسل قبلةً من طفلةٍ
نهشوا طفولتها على رمل الطريقْ
صلبوا براءتها وما تركوا لها إلاَّ الحريقْ!
لكنهم لم يطفئوا وحيَ الشروقْ ،
لم يزحنوا فيها البريق!!
فعلى مروج عيونها وعدٌ جميلْ
سيرمِّم الأميال ميلاً بعد ميلْ
ويُزيلُ أرتالَ الوحولْ..!
يهمي كما تهمي نبوءاتِ الفصولْ
ويمدُّ أيديهُ المليئةُ بالعطايا كالرسولْ
ليجدِّدَ الزمنَ الجَسورْ ..!
لا تجزعي!
فمعي جوانحُ طفلةٍ
لو غرَّدتْ ينمو لها زمنُ العبور!
لو غمَّستْ أحلامها بأصابعي.. تصحو النذور!
لو أمسكت بزنادها.. تهوي صقور!
ما همّها؟!
هي طفلةٌ تنمو بظلِّ النار والحجر الصديقْ
تنمو بظلِّ الجوع ِ والنكران والقصف الصفيقْ
تنمو بظلِّ رصاصةٍ منذورةٍ لرحيقها
ما همّها؟!
هي طفلةٌ.. وُئِدَتْ مع البوح الغريقْ..!!
الله يا أمي معي.. لا تفزعي!
فلها غدٌ.. وليَ الغدُ
ولنا هنالك موعدُ!!
سأُغمِّس الأنواءَ من أنواءه
وأُشرِّعُ الأبوابَ في أضلاعه..
ليعبِّدَ النبضات بالصبَّارِ... والألغامُ فيه تعربدُ
الله يا أمي معي..
لكنْ بني قحطان ما كانت تعي!
إنَّا هنا.. شرعُ الدماءْ
قدرٌ أمرُّ منَ الفناءْ!!
وحين تزأر تحت أرجلنا الرياحُ
سنعودُ طيَّ نبوءةٍ.. أو لعنةٍ ،
أومثلما تهوى الجراحُ
سنعود.. إنَّ قلوبنا رهن الولادهْ!
نجترُّ من قطراتها.. وجعُ الإبادهْ!!
ويصوغنا حبقُ الشهادهْ
الله يا أمِّي معي..
يا أمَّتي كوني معي!!
أمَّاه قد تُهدى إليك رفاتنا
غنِّي لها..
مدِّي نواحك كي يعتِّقَ نسغها
قولي لهم ((هذي الرفات حبيبتي
وغوايتي من أرضنا!))
أماه.. لا تبكي عليَّ
بل زغردي
فالأرضُ تسقي نسغها من مقلتيَّ
قولي لهم:
(ولدي غدٌ.. ونبوءةٌ ترمي الشررْ
ولدي هنالك بقعةٌ للنور ينقشها القمرْ
ولدي هنالك كعبةٌ للملتقى
تنمو عليها كرنفالات الحجرْ!
ولدي هنالك سدرةٌ للمنتهى
والله يجدل غصنها بدم الدررْ
ولدي هناك جهنمٌ من نارها تصلى سقرْ
ولدي أبابيل السما بأكفِّها جمر القدرْ
ولدي همى من غيمة الأمل الوريقْ
بجذوره تمتدُّ غابات الحنينِ
منسوجةٌ من غزةٍ بعوالمٍ من ياسمينِ
ولدي أكاليلٌ منَ الغار العريقْ
فله المدى.. وله الطريقْ) .
أمّاه قوليها لهم:
(لمّا هويتُ على ثراها ، زغرد
الزيتون وانفجرتْ تراتيلُ السحابِ) .
هذا وجودي.. والصلاةْ
هذا التراب له الحياةْ..!!
نُسُكي له.. وله المماتْ
وبرغم موت الأمنياتِ
في فوهة البارود أو عتم الحياةِ
وبرغم وردة ما تبقّى من رفاتي
إني هنا غابات شيحٍ تستعرْ
إني هنا.. وشمُ القدرْ!
حيٌّ أنا...
وليَ الوعودُ!
حيٌّ أنا..
وهمُ الشهودُ!
بضلوعهم وعروقهم
تطغى حرابي!!
ها أنتِ ذي أهزوجةٌ..
تشدو وتشعل عرسنا نوراً ونارْ
وتزيّنين سفوحنا بمواسم ٍمن جلنارْ
وتوزِّعين على المدى
بقعاً تضيءُ بطهْرِ حبَّات الندى
وطناً.. فتستعرُ الحجارةُ والحديدُ
وتقضُّ مضجعهم على غصصٍ تفجِّرها الرعودُ
من حائط المبكى إلى أقصى الديارْ
أماه قوليها لهم:
((ولدي هنا حيٌّ شهيدُ..!!))
ثمّ انحتيني جملةً في صخرة الأحياءِ يسكبها الوريدُ!!
يا أمَّتي.. هذي بقايا من بقايا قصّتي
هي غصَّةٌ من ألف غصَّةْ
فمتى يصير لدمعها أطيافَ قصَّةْ..؟!
ومتى.. متى..؟!!
ويردِّدُ الطوفانُ صرخةَ غزّةٍ
وتردّدُ الغربان أنْ :
((ماتت خيولك خيبةً يا أمَّتي
ماتتْ سدى..!!
فالعقم جرَّح بوحها بالمرِّ وانتحبَ الصدى
ماتت خيولك أمّتي
وانسلَّ من أصواتنا رجْعُ المدى!!))
واقرأ أيضا:
رباعية التراب / إنفلونزا رباعية / نشال! / لو كان بإيدى / شهيد العلم! / تصريحات الكبار! / مدارس الموت / العدالة / جنون البقر/ يوم الخلاص