يمتاز التنوع الجغرافي العربي بالكثير من الخصوصيات والتمييزات, سواء باللهجة والصفنة والكلام. ومن جملة هذه الإمتيازات هي الأسماء النسائية التي يتغزل بها شعراء تلك المناطق, ففي مصر يتلألأ أسم "فاطمة" المأخوذ من عظمة الدولة الفاطمية, وفي الشام هناك "سلمى", ومن منا لم يعرف "سلمى كرامة" حبيبة جبران الأسطورية؟ أما بالعراق, فالاسم دوما كان- وسيبقى- ليلى. "ليلى", تُقال و كأن كارثة من المفاجآت المبهجة والمفطرة للقلوب وراءه. عليّ أن أقول, أنني من المدمنين على صوت كاظم الساهر, وإنه لعصيّ على أذني ألّا تصغي لأغنيته الأسطورية "أنا وليلى" مرة بالأسبوع في أقل التقديرات, وكان كلما وصل لهذا الجزء من القصيدة أجد نفسي أردده معه بحماس, و يشترك أي صديق لجانبي بالغناء, فلا أعتقد أن هناك كائن شرقي لا يهتز للحن وقوة الكلمات:
فراشة جئت ألقي كحل أجنحتي
لديك فاحترقت ظلما جناحاتي
أصيح والسيف مزروع بخاصرتي
والغدر حطم آمالي العريضاتي
وأنتِ أيضا ألا تبّت يداكِ
إذا آثرتِ قتلي واستعذبت أناتي
من لي بحذف اسمك الشفاف من لغتي؟
إذن ستمسي بلا ليلى حكاياتي.
والقصيدة لشاعر من بغداد أسمه "حسن المرواني", وهو رجل شاءت الأقدار أنني تعرفت على صديقه الشاعر "حسن النصّار", الذي تربطني به صداقة فولاذية. يحدثني أبو نور (حسن النصّار) عن حسن المرواني, فيصف شيب شعره والفقر الهائل الذي يحيط به كجيوش عارية وسط منفاه بليبيا. نفاه صدام حسين, فحتى هذا الشاعر البائس قد وجد به نوعا من التهديد على عرشه فوق بحر النفط المسمى عراقا. حسن المرواني أحب امرأة (يالسوء حظ الرجال) كان اسمها ليلى وكانت ترتاد جامعة بغداد قسم المحاسبات, أما حسن المرواني فكان فقير الحال إلا أنه متشبث بالجامعة. جنّ بجمال ليلى البابلي المريع, جن بغنجها ودلالها البغدادي الذي تضرب به الأمثال, والتي وجدت بحسن شاعرا غضا يرضي غرور الأنثى فيها. وهكذا بادلته الحب أو أدعت أنها فعلت, إلا أنها تزوجت من رجل ثري كان قد تقدم لها. انهار حسن المرواني, كجبل كصاعقة كمارد كمحيط . . انهار, صار يهذي بالمشفى باسمها "ليلى .. ليلى", وتوسل أهله لليلى لكي تأتي للمشفى كي يموت وقد تلبت رغبته الوحيدة بالحياة. لكن ليلى ترفض, تتحجج بالشرف, تتنكر لحسن الرائع, لحسن الجميل, لحسن الطيب القلب. لا, أنها الآن تحمل بذرة جنين بأحشائها, ولن تضرب مستقبلها لأجل مهووس أبله كحسن المرواني. هكذا قال حسن بذات القصيدة التي خطها فور خروجه من المشفى:
أضعت في عرَض الصحراء قافلتي
وجئت أبحث في عينيكِ عن ذاتي
وجئت أحضانك ِ الخضراء منتشيا
كالطفل أحمل أحلامي البريئاتِ
غرستِ كفكِ تجتثين أوردتي
وتسحقين بلا رفقٍ مسراتي
وعاش حسن وحيداً بمدينة الضياع والقسوة والحنان, لقد ابتلعته بغداد كملايين مثله وملايين كثيرين قد سبقوه. انتهى به الأمر وحيدا بليبيا, منذ زمن لم يعد يهمه, لكنما كل قلقه أن يموت يوما دون أن يهمس ليلى بآخر "أحبك".
كلما ضاع بصري أمام بحيرة "آركنساس" التي أرتادها, كلما أدركت أن الحب لا يموت وإنما نميته نحن لكي نعيش. الحب, هذا الإحساس اللذيذ المسالم, يتحول لأعتى أعدائنا حينما يرحل المحبوب. وهنا ينشب صراع أليم بين الحب وبين ذواتنا, بل بين "الأنا" الجريحة تحديداً, وهنا تضطر الذات لنصرة طرف على آخر لكي يبقى الطرف المنتصر حيا. فإما العيش مع الأنا المخذولة أبدا, أو أن ينتهي الحب ويخنق بسريره ليلا. هنا, نبدأ بتذكر ما يزعجنا عن الحبيب, نتذكر أكاذيبه الصغيرة ونضخمها, وتتراجع تلك الأعذار التي آمنا بها على حماقاته بحقنا, لتبدو الحماقات كجرائم من المحال أن تغتفر. العيوب الجسدية تظهر, ونتحول لبشر انتقائيين, فربما لن يعود الشاب وسيما ذا وجه رجولي لمن أحبته, وربما أصبحت المحبوبة هزيلة بلا علامات أنثوية بنظر من تحب. "ما الحب سوى طرف يعاني وآخر يتململ" كما يقول آرنستو ساباتو بروايته "أبطال وقبور", وهكذا تزرع القسوة إلى الأبد بذاك الجانب الذي عانى. قد يحب, قد يهوى, لكن أبداً- إنما أبداً أبداً- لن يحب بتلك البراءة والمصداقيّة التي أعطاها للتي لم تقدرها ولم تستحقها. سيكون حبا عاقلاً, لكنه وللأمانة فإن أمتع أنواع الحب هو المقترن بالجنون.
لكنما دوماً يبقى هناك شيئا أهم مما قبله
واقرأ أيضاً:
مازلتُ أذكركِ.. / كفرتُ / إلى من تعلم... / الثاني من ماي.. عيد ميلادها / كراهية / عندما تتحطم الأحلام / تتهاوى أوراقي