دخلت العربة الكارو مسرعة، في أناقة بالغة ومحسوبة، أتقنها البغل والعربجي -تمامًا- لدرجة أنها كانت شبيهة بعربة رمسيس الذهبية. كان البغل مزدانًا بجرس ووردتين. الجرس على غرته والوردتان على جانبي الأذنين. معروفًا كان -البغل- هجينًا تزوجت أمه المهرة ذات الحسب والنسب في إسطبلات الأعيان، مع ذكر حمار فقير في غفلة من الجميع، وبترتيب من فلاح لئيم أصبح هو المالك للبغل الأنيق فيما بعد. كان البغل يشبه أبواه إلى حد ما في أذنيه الطويلتين وعرفه القصير، ذيله الذي توجد به خصلة شعر طويلة في نهايته كما عند الحمار أبيه، وأخذ من أمه بعض سمات مالكيها من عنجهية وصلف وكبرياء، ومن أبيه بعض صفات مالكه من تخطيط ولؤم وإعداد محسوب للمستقبل في سرية تامة، كما ورث عن أمه الفرس قوتها وضخامة جسمها، لونها وشكلها، وعن أبيه الحمار صغر رأسه، دقة قوائمه، وصغر حوافره، فصار هجينًا متميزًا بصحته وبصره وقوته. ورغم كل ذلك -ربما- أحس البغل بعقدة نقص بالغــة من كل من الحـمار و الحـصـان، ربما لأن الحـمـار كان حمارًا خــالصًا، ســـلالة نظيفـة لا تشوبها شائبة، وربما أيضًا لأن الحصان تحكمه عقدة التفوق لأنه خيل، يتبع الفرسان والأمراء، وعربجية الحناطير المنتشرين في مناطق البرج والنيل والجزيرة، يفسّحوا السيّاح والعشاق وأسر الريف الميسورة في زيارتها الشهرية إلى القاهرة.
دخلت العربة الكارو، وكأنها عربة الملكة إليزابيث، تزهو بتميزها، ألوانها وحرفة صناعتها، دخلت مسرعة سرعة محسوبة قدرها العربجي والبغل بإتقان.
فتح العسكري بهيئته الريفية وبزته البيضاء، أزراره النحاسية وشارته الصفراء المكتوب عليها بخط ردئ (شرطة المرافق). فتح البوابة الحديد المطلية حديثًا بلون أبيض روتيني حكومي غطى على الصدأ وعوامل الزمن. جرّ نصفها الثاني أمامه موظف أمن في ملابس مدنية (بدله صيني شعبية)، عادة ما يلبسها السعاة ورجال الدولة أيام عبد الناصر تعبيرًا عن التزامهم بالاشتراكية.
وقفت العربة الكارو في المنتصف تمامًا، أمام الفتحة الممتدة بين الأعمدة والساحة المؤدية إلى المسرح العريق (هكذا قالت المذيعة الضابطة حروف الكلمات)، على الرغم من أن المسرح كان حديثاً بنته بلاد الوطواط في إطار ما بنته بعد أن التهمت النيران دار الأوبرا العتيقة، أوبرا الخديوي إسماعيل التي احترقت منذ ثلاثين سنة احترقت في بضع ساعات وعلى بعد خمسة أمتار منها كان مركز الإطفاء في القاهرة وفي مصر كلها، بنت المسرح العريق بلاد الوطواط وكأنها تعوض دولتنا العظيمة عن إهمالها....
دخل الرجال والنساء الأرستقراط. (همس أحدهم مستنكرًا التعبير: هوّ لسّه فيه أرستقراط)، دخل الحشد (النوفو ريتش)، ومعهم مذيعات وممثلات ونجوم مجتمع، رجال أعمال وشخصيات هامة، ضحك أحدهم وكان قصير القامة يرتدي باروكة تخفي صلعته تمامًا، ضحك وهو ينفض ذبابة حلّت على وجه البغل، تمشى منتشيًا مع امرأته المستقيمة العود والملامح، الصلبة القوام:
ــ بكره هنبني لأمريكا مسرح في لويزيانا ذكرى لإعصار كاترينا.... هه هه هه.
نظرت إليه امرأته شزرًا، لوت بوزها في تعجب وقالت:
ــ لا وانت الصادق بكره طماطماطيا العظمى تبني دار تعرض عليها كل الفرق مسرحية:"من منا حديقة حيوان".
كتم السائر إلى جوار الزوجين ضحكته وسأل من جاوره الطريق:
ــ من منا الحيوان...؟!
هزّ البغل رأسه؛ فاهتزت الوردتان ودق الجرس على جبهته دقة أشبه بالإنذار أو الإعصار؛ فانتظم القوم السائرون في بذلاتهم وفساتينهم في اتجاه المسرح العريق، يثرثرون ويتفكهون، يميلون على أكتاف بعضهم البعض، ويكونون في مجموعهم كتلاً من الدهن، أصواتًا متنافرة كحشرجات المرضى في القصر العيني القديم ممتزجة بوشوشات الأجهزة اللاسلكية لرجال الأمن.
****
ظن رجال الأمن المنتشرون في الثنايا والكواليس، المرتدون أزياء مدنية، ملكية، رسمية وعسكرية. ظنوّا أن العربة الكارو والبغل والعربجى جزءًا من العرض المسرحي، (حاجة كده أوريجينال). تثري المكان والزمان، وتزيد روعة ملكات الجمال ووصيفاتهن، عارضات الأزياء وكذابين الزفة، وهكذا، كان -رجال الأمن- يظنون دائمًا أمرًا أخر، لكن حرم ذلك المسرح العريق كان مثل حرم البحر، وحرم النيل و .. حرم الجامعة أيام زمان، لا يجوز ولا يمكن أن يقف فيه بغل أو حمار أو حصان أو عربجي أو عربة كارو أو عسكري، توهموا رغم إدعائهم الدائم أنهم لم يتوهموا، وهموا أن المسألة مجرد ديكور، أو أن الموضوع وقتي وسيزول.. نعم، مثلما ظن الشعب بعد احتلال إسرائيل لسيناء سنة 67 أن اليهود سيرحلون في الصباح الباكر، لكنهم قعدوا على قلبنا 15 سنة .. المهم. انتبه رجال الأمن. أمن المسرح العريق إلى أن العربة الكارو قاعدة، والبغل قاعد.. نزل العربجي في هدوء شديد، أخرج بعض العلف من كيس أبيض مطرز بورد منظوم الشكل متفتح الهيئة وبدأ يؤكل البغل.
تقدم بعض رجال الأمن من ذوي البذلات الإفرنجية والكرافتات البمبي اللامعة المخططة منها فيها، بوجوههم المضوية في هدوء يحسدون عليه، توجهوا إلى البغل أولاً، ربتوا على عنقه، ثم إلى العربجي الذي كان أنيقًا على غير العادة يرتدى جاكت كاكي نظيف مكوي على جلابية زاهية ناصعة كأنها بلا لون، كان نادر الكلام ... إذا تكلم كان حديثه المقتضب منمقًا ومختصرًا ودالاً، أحيانًا ما كان لا مباليًا وأحيانًا أخرى متعمد الاستعباط، كانت علاقته بالبغل والعربة الكارو خاصة جدًا، فيها حميمية شديدة، بدا وكأنه أتى من داخل كل رجل في البلد كلها، وكأنه كان يجاهد لإخفاء رقته ورُقيه، خشية أن يظنوا فيه ضعفًا، لكنه في كل الأحوال كان منسجمًا مع نفسه، مع البغل ومع العربة الكارو، كان ابنا بارًا لثقافته، ولكن بشكل جديد (نيولوك Newlook)، أخرج البايب و أشعله، ثم نفث الدخان في الهواء ونظر إلى محدثيه، وكأنه ممثل عبقري في لحظة تأمل إبداعي، قالوا له في صوت خفيض، و كأنهم خائفون، يستحون النطق في حضرته، وكأنها تلك الكاريزما الخاصة به قد أخذت لُبّهم وسحرتهم فاستمروا واستمرأوا لعبة الحلم والحالة الذهنية بين النعاس والنوم، أدركوا أن كل شيء لابد وأن يتم في هدوء.. (مادام دخل لغاية هنا يبقى فعلاً بغل مهم وعربجي أهم )، ربما كانت العربة الكارو أثرية، أو علّها كانت فعلاً عربة رمسيس الذهبية متنكرة في صورة شعبية، وقد تكون حاصلة على شهادة الإيزو أو جائزة الدولة التقديرية أو.. قد، وقد، وقد يكون لدى العربجي تصريح من وزارة الداخلية أو الآثار أو الثقافة.. وربما -أيضًا- كان كل هذا غير صحيح. وأن البغل والعربجي والعربة الكارو قد دخلوا خلسة أو صدفة أو خدعة!!...
تقدم المسئول الأول عن الأمن وطلب من العربجي تفسير دخوله إلى هذا المكان، فلم يرد، أمسك العربجي بالبايب في عوجة طبيعية، ثم نفث الدخان مرتين، فمرّت سُحبه أمام وجهه أكسبته هيئة غير عادية، وعلى الرغم من أنه كان يلبس لبدة الفلاحين المعروفة، إلاّ أنه كان اقرب إلى (جيمس دين) أو (بيل كلينتون)..... تقدم أحد رجال الأمن المساعدين إلى البغل، هَزّه فلم يتحرك ولم يتبرّم ولم يهتز. توجهت ثلة من موظفي الأمن المحترفين إلى العربة الكارو، فحصوها من كل الجهات، بالكلب الشمام ومجسّات المتفجرات، وضعوا المرآة الخاصة ذات الذراع الطويلة والانحناءة الخاصة تحت مؤخرة البغل، فبانت لهم تداوير خصيتيه وجزء من عضوه الذكرى، لم يستمر الأمر كثيرًا حتى تبرز البغل تبرزًا محسوبًا متكونًا غطّى يد الحارس الكشاف وذراعه وذراع المرآة فابتعد إلى الخلف ومضى يبرطم ويشتم ويلعن.
أحدث تبرز البغل المفاجئ هرجًا ومرجًا، علت همهمة الجوقة الأمنية ووشوشاتها اللاسلكية وصارت زعيقًا وصياحًا ومناداة، استدعوا الشرطة الرسمية ذات المركبات الداكنة اللون والبوكسات المقبضة للروح بلوحاتها المعدنية الزرقاء الخاصة بمركبات الحكومة، صاح أحد رجال الأمن نافرًا عروق رقبته، ضاّمًا شفتيه كالمنافقين عندما يهتفوا، وكشهود الزور وهم يحلفون كذبًا وبهتانًا:
ــ يا جماعة.. يا جماعة.. هاتوا الونش .!!
أحمر وجهه، نفث العربجي الدخان المعطر مرتين ولم يحرك ساكنًا، فانتفض قائد الجوقة الأمنية قائلاً:
ــ هو يعنى الونش هيشيل إيه ؟! هنكلبش إيه ؟؟ رجلين البغل واللا عجل الكارو ؟!
تساؤلات شتى دارت في رءوس الحشد، اشتعلت المناقشات الحامية، انشغل بعض الجمع الراقي الداخل إلى المسرح العريق بالحدث، وتكونت مجموعات بدأت باثنين وانتهت بحوالي عشرة، انتهت كلها بأن تقدم كبير رجال الأمن إلى العربجي وهو منشغل بنفث دخان البايب والطبطبة على رأس البغل وكتفه، اللعب بالوردتين على جانبي أذنيه، شخللة الجرس، بالجلبة والضوضاء، والهيصة، والاهتمام... وأيضًا بالمكان (حرم المسرح العريق)، كان يمضغ العلف في متعة وكأنه يمضغ الكافيار، يلوكه في سعادة وكأنه يلوك اللبان (التشيكليتس) المستورد .. همس كبير رجال الامن في أذن العربجي (ممكن تتفضل تخرج إنت والبغل ده، والعربية الكارو، زي ما دخلتم وإلاّ..). أطرق العربجى ناظرًا بعيدًا عن عينى محدثه، متجاهلاً إياه بحق، تظاهر بالصمت، لكنه كان يدندن بأغنية قديمة تقترب من الموّال وتدور حول معنى (والندل له عوزه).. استفز المشهد أحد مساعدي الكبير، وهم دائمًا أكثر حماسة وأكثر حماقة، أصغر في السن وفي الخبرة، زغد العربجي في كتفه وشتمه.. لم يحرك العربجي ساكنًا، أخرج من جيبه موبايل حديث جدًا -آخر موديل- بكاميرا .. سرعان ما التقط لمهاجمه صورة ثم أجرى مكالمة قصيرة لم تتعد الثلاث كلمات!! تراجعوا خطوات إلى الخلف، خطوات لم يعدّوها ولم يحسبوها، نعم، تراجعوا جميعهم إلى الخلف ولم يتقدموا.
14 أكتوبر 2005
ويتبع >>>>>>>: البغل والعربجي.. والعربة الكارو..! (2)
واقرأ أيضا:
شادي عبد الموجود/ قـُبَّعة الخواجة / طنجة الملفات الحساسة