"ما أجمل تلك الصدفة"
رددها سعيد في نفسه بينما هو جالس إلى جانب والدته في القطار المتجه إلي أسوان، رددها عندما علم أن الفتاة الأنيقة الجالسة إلى جانب والدتها في المقعد المقابل له، إنما هي شقيقة زوجة أعز أصدقائه دكتور حسن الذي يعمل في أسوان
و ما لبث سعيد أن قال: حضرتك آنسة ميرفت!
فانعقد حاجبيها في دهشة وقالت في استنكار: كيف عرفت اسمي؟
ارتبك سعيد واحمر وجهه وكأنه خجل من نطق اسمها قبل أن يعرفها صلته بزوج أختها، ولكن أمه أنقذت الموقف فقالت وهي تبتسم:
-إن الدكتور حسن زوج أختك من أعز أصدقاء ابني المهندس سعيد منذ صغرهما، ولقد حكى لنا كثيرًا عنكِ ووالدتك وعن أصالتكما وكرم أخلاقكما.
فابتسمت ميرفت ابتسامة تنم عن رضاها وتقبلها لهذا التفسير وإن كانت تحمل في طياتها دهشة لما بدا علي سعيد من ارتباك وخجل.
ومضى الوقت سريعًا في حوارات بين العائلتين، لكن بالنسبة لسعيد وميرفت فقد كانت تلك الساعات القصيرة سنوات طويلة ارتبطت فيها عيناهما فعرف كلاً منهما الآخر و كأنه يعرفه منذ سنوات.. بل أحس كلاً منهما أنه خُلقَ من أجلِ الآخر..
عجبًا لأمر هذا الحب الذي يسري في القلوب من نظرة أو كلمة سريان النار في الهشيم..
..عندما وصل القطار إلي أسوان كان الدكتور حسن وزوجته في انتظار ميرفت ووالدتها، واندهش الدكتور حسن عندما رأى سعيد ووالدته يساعدان ميرفت ووالدتها في إنزال الحقائب
فيل للأقدار فها هو سعيد الذي كان حسن قد حدثه عن ميرفت كعروسة "باعتباره ولي أمرها" يقابلها و بدون سابق ترتيب, فعلا رب صدفة خير من ألف ميعاد.
وأفاق حسن من دهشته على صيحة ابنته: "جدتي..... خالتي".
فقام بالترحيب بالعائلتين وهمس في أذن سعيد و هو يعانقه: ما رأيك؟
فأشار سعيد بإبهامه إشارة خفية تدل علي شدة إعجابه ثم قال له:
-انتظر مني اتصالاً هاتفيًا.
وافترقت العائلتين، و لكنه كان افتراق أجساد فقط أما قلبيّ سعيد وميرفت فقد امتزجا ببعضهما البعض حتى أنه يصعب أن نميز ما في صدر أيا منهما.. ففي كل صدر جزأين، جزء من قلبه و جزء من قلب الآخر..
وبالفعل.. اتصل سعيد بحسن وحدد معه موعد لزيارته، ليتقدم سعيد ووالدته لخطبة ميرفت. وفي غضون أيام تمت الخطوبة
***
ما أحلى تلك الأيام التي يشعر فيها الخطيبان بأن كل منهما لم يعد وحيدًا علي تلك الأرض وأن هناك من يكمله ويساعده علي بدء رسالة
جديدة.. رسالة الإنسانية وهي تعمير الأرض.
وما أجمل تلك الأيام عندما تكون في مكان كأسوان، فيه النيل الجميل يشهد عليها ويبعث في كل من الحبيبين الرغبة في العطاء بلا مقابل، والرغبة في غد جميل كجمال النيل وسهل يسير كانسيابية أمواج النيل.
وهناك في النيل كان سعيد وميرفت في أحد المراكب الشراعية يشعران بتلك الأحاسيس التي جعلت من مركبهما الصغير سفينة فضاء تسبح بهما فوق السحاب.
وبعد أن انتهيا من رحلتهما النيلية خرجا إلى الشاطئ "الكورنيش" وكل منهما يضع يده علي كتف الآخر ليحضنه وهو يمشي في سعادة غامرة فها هي الدنيا بين يديه ما دام حبيبه بين يديه.
وفي طريقهما رأيا إحدى العرافات تنادي: أبين زين.. أبين.
فقالت ميرفت وهي تبتسم: ما رأيك في أن نرى حظنا؟
قال سعيد مبتسمًا:
-أنا أعرف حظي ما دمت معي.
فقالت في دلال يعجز معه الرفض:
-ولكني أتشوق إلى هذه التجربة.
فاستسلم سعيد لرغبتها ونادى علي العرافة التي اتجهت نحوهما وهي تردد نفس الكلمات: "أبين زين.. أبين"، ثم جلست إلى جوارهما وناولت ميرفت أحد الأصداف وقالت لها:
-وشوشي الودع يا هانم.
فأخذت ميرفت الودع وهمست فيه بين يديها ثم ردته إلى العرافة.
فقالت العرافة: ارمي بياضك.
فأعطاها سعيد نقودًا، أخذتها في سرور ثم ما لبثت أن قالت:
-رملك زين.. وطريقك زين.. وأمامك شاب زين.. بينك وبينه خطوة واحدة بعدها تكونا تحت سقف واحد.. قولي إن شاء الله.
قالت ميرفت وهي سعيدة بتلك التجربة التي لم تكن تراها إلا في أفلام السينما:
-إن شاء الله.
ثم طلبت من العرافة أن ترى حظ سعيد الذي رفض في البداية مبديًا عدم اقتناعه بهذا الأسلوب من الدجل، ولكنه وافق في النهاية مستسلمًا لرغبة ميرفت فهي تجربة لن تخسره شيئًا ما دامت ستسعد حبيبته.
و تكررت نفس الخطوات مع سعيد
-"..تحت سقف واحد ... ولكن .." قالته العرافة وانعقد حاجباها وكأنها رأت شيئًا خطيرًا لا تريد أن تخبر سعيد إياه
فقال سعيد في تهكم:
-لكن ماذا ؟!
فغمغمت العرافة:
-إنه القدر والمكتوب.. والمكتوب لا يمكن الهروب منه.
قال سعيد في حدة وعصبية:
-ما هذا المكتوب أيتها المجنونة؟
-مكتوب أن تنجبا ولدًا و بنتًا.. يكونان آية في الذكاء.. ولكن الويل منه..
فازدادت عصبية سعيد و قال في حنق:
-الويل ممن؟
قالت العرافة:
-ها هو الولد أراه أمامي يقتل أباه بيديه..
فاستشاط سعيد غضبًا وركل للعرافة حاجياتها وهو يقول:
-وما أدراك أنت بالغيب يا دجالة.
ثم جذب ميرفت وانصرفا معلنًا رفضه لهذه الخرافات..
و لكن هناك شيء ما قد استقر داخله.. إنه ذلك الخوف.. الخوف من المستقبل.. الخوف من المجهــــــــــول.
***
"وبعد سنوات ثلاث"
سقطت ميرفت منهارة علي مقعد الأنتريه في شقة الزوجية بأحد الأحياء الراقية بالقاهرة، وقالت لسعيد وهي تبكي:
-"ألا يوجد أمل؟.. ألن أستطيع الإنجاب أبدًا.." وانهمرت دموعها.
مسح سعيد بيده علي رأسها في حنان وهو يقول:
-لا يجب أن نيأس أبدًا يا حبيبتي.
فازداد بكاؤها وهي تقول:
-وهل من الممكن أن يكون هناك أمل.. لو كان هناك أمل لكان قد ظهر في السنوات الماضية.. يجب أن أجري العملية ولو كلفني ذلك حياتي.
فهدأ بكاؤها ونظرت في عينيه وكأنها تريد أن تنهل من هذا النهر الذي في عينيه.. نهر الحب الذي لا يعرف الجفاف أبدًا.
فابتسم ابتسامة حانية وضمها إلى صدره وتنهد بارتياح وكان استسلامها لعدم القدرة على الإنجاب قد أزاح من على صدره همًا كبيرًا قد
أثقلته به تلك العرافة في تلك الأيام البعيدة.
***
و في أحد الأيام..
عاد سعيد من عمله وقد أثقل الهم كاهله حتى إن قدميه تكاد لا تستطيع أن تحمله، فما لبث أن دخل الشقة حتى رمى نفسه على أقرب مقعد وجلس غارقًا في همومه ولم يدرك وجود ميرفت التي اندهشت من حالته وتوجست خيفة من أن يكون هناك مكروه قد أصابه وجلست إلى جواره محاولة معرفة ما حدث ولكن سعيد لم يكن ليشعر بها لأن ذهنه لم يكن هنا في الحاضر، بل كان شاردًا.. شرودًا بعيدًا.. في المستقبل، فها هي الدنيا من حوله خاوية لا يوجد له فيها ولد يحمل اسمه بعد موته ويكون امتدادا له ولآبائه فما حاجته إلى هذه الدنيا إذًا، وما فائدة سعيه فيها، فهل سيكون حاله أفضل من حال زميله حمدي الذي توفي اليوم وليس له ولد أيضًا، وهل سيكون حال الناس عند موته أفضل من حالهم في جلسة عزاء زميلهم المتوفى وهم يتهامسون فيما بينهم من بين حسرة وشماتة من أن حمدي المسكين كالشجرة التي اقتلعت جذورها ولم يعد لها أثر على ظهر الدنيا.
-"كلا.. الحال هي الحال" قطع سعيد شروده بهذه الكلمات وهو يلتفت بوجهه الذي يحمل مرارة الأسي والألم.. إلى ميرفت التي ازدادت دهشتها وقالت:
-ماذا حدث يا سعيد؟.. أخبرني بالله عليك.
فحكى لها سعيد ما بداخله وقد غص حلقه فكانت الكلمات تخرج متقطعة متباكية مما جعل ميرفت تبكي.. و لكن بلا صوت فلقد احتبست بداخلها صرخة ألم لا تستطيع أن تخرج من حلقها حتى كادت أن تنفجر في صدرها.
وسـاد الســكــــــــــون..
كل منهما شارد بذهنه يحاول أن يجد حلاً لمأساتهما، وقطع السكون صوت ميرفت وهي تمسح دموعها بيدها وهي تقول في قوة وصرامة بعد أن استجمعت كل ما بداخلها من قوة:
-إنك يجب أن تتزوج.
فهز سعيد رأسه المتدلية على صدره يمينًا و شمالاً دليلاً على عدم موافقته على هذا الرأي الذي لم تكن ميرفت أول من فكر فيه. بل قد سبقها إليه سعيد ولكنه لم يقتنع به أبدًا فليس هو ذلك الشخص البهيمي الذي يتزوج من أخرى لمجرد الإنجاب منها دون أن يرتبط بها بأحاسيسه ومشاعره التي قد وهبها لميرفت من أول يوم رآها فيه..
ولكن.. ما الحل؟
***
في عيادة أحد أطباء النساء والولادة المشهورين، قالت ميرفت للطبيب بعد أن انتهي من الكشف عليها وقد جلس يفحص بعض الأشعة والتقارير الخاصة بها:
-هل هناك أمل يا دكتور؟
أجاب الطبيب مبتسمًا:
-دائمًا هناك أمل، ما دام هناك ثقة في الله سبحانه وتعالى.
قالت ميرفت في لهفة وكأن هذه الإجابة فتحت لها بابًا للحياة:
-و لكن الأطباء أخبروني من قبل أني أحتاج إلى عملية جراحية وأن هناك خطورة و..
قاطعها الطبيب وتلك الابتسامة لا تزال علي شفتيه:
-نعم.. حالتك تحتاج إلى جراحة حتى يتم الحمل ولكن الخطر لا يكمن في الجراحة فهي سهلة جدًا ونجاحها مضمون بإذن الله ولكن الخطر يكمن في استمرار الحمل من عدمه ومضاعفاته التي قد تودي بحياتك.
فقالت ميرفت في إصرار:
-يجب أن أحاول مهما كلفني ذلك.. حتى ولو كان الثمن حياتي.
ثم استطردت:
-متى يمكنني إجراء الجراحة؟
قال الطبيب:
-اليوم إن أحببت.
فتهللت أساريرها وقالت في فرح:
-أنا مستعدة.
ثم سكتت برهة قالت بعدها في استجداء:
-أرجوك لا تخبر زوجي بخطر الحمل.
-ولكن يجب أن أخبره ليشاركك المسئولية.
فقالت في عناد:
-أنا المسئولة الوحيدة عن حياتي.
ثم عادت إلى لهجة الاستجداء فقالت:
-أرجوك لا تخبره فقد يعمل على عدم إتمام الحمل.. أنا سوف أخبره عندما يتم الحمل، وأنا واثقة من أن الله سبحانه وتعالى سوف ينجيني.
فقال الطبيب:
-كما تشائين.
وفعلا تمت العملية بنجاح، وما إن أفاقت ميرفت من أثر التخدير وعلمت من الطبيب بنجاح العملية حتى طلبت الهاتف من الممرضة، وما أن أتت لها به حتى رفعت ميرفت السماعة واتصلت بسعيد الذي ما أن سمع جرس التليفون حتى هرع إليه في لهفة وقلق ورفع سماعة الهاتف في حدة وهو يقول:
-أين أنت يا ميرفت؟
أجابت ميرفت دون دهشة من أنه عرف أنها من يتكلم دون أن يسمع صوتها لأنها كانت تتوقع قلقه:
-لا تقلق يا حبيبي.. أنا بخير.
لم تهدأ حدة سعيد وهو يكرر نفس السؤال:
-أين أنت؟
أجابت بصوت يلمع فيه بريق الأمل:
-في المستشفى.
ازدادت حدة سعيد و ارتباكه وهو يقول:
-في المستشفى!.. هل حدث مكروه؟
فأجابت بصوت حنون:
-لقد انكشف كل مكروه في حياتنا يا حبيبي.. لقد أجريت الجراحة ونجحت.
فارتفع حاجبا سعيد واتسعت عيناه في ذهول وكأن ما سمعه خيال يراوده في حلمه.. وأي حلم؟ إنه حلم مستحيل تحقيقه، فلم يسعه أن يسألها:
-هل أنا أحلم؟
فابتسمت ميرفت و هي تقول:
-كلا يا حبيبي.. لقد تحقق الحلم وأصبحت الآن قادرة علي الإنجاب.
وفي هذه اللحظة فقط أدرك سعيد أنه لا يحلم فتهللت أساريره وتمنى أن يكون كلمة فيصلها كالبرق عبر أسلاك الهاتف ثم ما لبث أن سألها عن العنوان ووضع سماعة الهاتف وهرع إليها تغمره السعادة، فها هي الدنيا قد حيزت له بعد أن جمعت له زوجته وولده القادم في الطريق.
***
ومرت الأيام..
حتى ظهرت علامات الحمل على ميرفت فتأكدت سعادتهما وقال سعيد لميرفت والسعادة تملأ عينيه:
-يجب إن نذهب إلى الطبيب لمتابعة الحمل.
فقالت ميرفت وقد احتبست في عينيها دمعة لا تدري هي نفسها أهي دمعة فرحة أم دمعة خوف:
-نعم يا حبيبي..
ثم همت بأن تخبره بالحقيقة ولكن صوتها احتبس في حلقها، وفي هذه اللحظة وجدت الدموع المحبوسة في عينيها طريقها إلى خديها.
فسألها سعيد في دهشة:
-ما الخطب يا حبيبتي:
فأجابت بصوت امتزجت به دموعها:
-لا أبدًا.. إنها فقط دموع الفرحة.
***
وفي عيادة الطبيب الذي أجرى لميرفت الجراحة
وبعد أن انتهى الطبيب من فحص ميرفت قال:
-ألف مبروك.
فقال سعيد و قد توهج وجهه بحرارة الفرحة:
-باركك الله يا دكتور.. الفضل لله ثم لك.
فنظر الطبيب إلي ميرفت والتي ما أن نظر إليها الطبيب حتى خفضت رأسها و نظرت إلى الأرض، ففهم الطبيب أنها لم تخبر سعيدًا بالحقيقة، فهز رأسه وقد ظهرت علامات صعوبة الموقف على وجهه وقال لسعيد:
-هناك أمر مهم يجب أن أخبرك به.
فقال سعيد وقد شابت سعادته الدهشة:
-خير يا دكتور!.
-إن إجراء العملية لم يكن حل نهائي، بل كان مجرد إجراء بسيط حتى يتم الحمل، وأما استمرار الحمل من عدمه فهو في علم الله تعالى.
قال سعيد وقد تحولت سعادته إلى قلق:
-هل يعني ذلك أن احتمال عدم استمرار الحمل احتمال كبير؟
أجاب الطبيب وقد بطئ كلامه وكأن الكلمات تثاقلت في حلقه:
-بل يعني أن هناك خطرًا أيضًا على حياة الأم.
جحظت عينا سعيد وكأن صاعقة أصابته ثم التفت في حدة إلى ميرفت التي كانت لا تزال تنظر إلى الأرض تتساقط دموعها من عينيها وقال وقد تحولت كل سعادته إلى غضب:
-لماذا لم تخبريني يا ميرفت؟.. لماذا لم تخبريني؟
لم تجب ميرفت إلا بدموعها التي ازداد تدفقها من عينيها.
فقال الطبيب:
-لقد أخفت عنك الحقيقة وطلبت مني ألا أخبرك بها خشية من أن تمانع فكرة الحمل وتستخدم أحد الوسائل الطبية في منع الحمل.. وعلى كل حال الأمل في قدرة الله سبحانه وتعالى كبير.
التقط سعيد يدي ميرفت وهو يقبلها بين يديه التي تضغط علي يديها وكأنه يخشى أن تفلت منه وتضيع، فها هي الدنيا بعد أن حرمته من الأمل في المستقبل عادت فوهبته الحاضر والمستقبل ثم ها هي من جديد تعلن غدرها وأنها في أي لحظة من الممكن أن تأخذ منه كل شيء وتحرمه من كلاهما فلا مستقبل.. ولا حاضر.
***
ومرت أيام الحمل ثقيلة متباطئة وكأن الساعات قد تحولت إلى أيام. والأيام إلى سنوات طويلة امتلأت بالخوف والقلق في كل لحظة منها فأصابت كلاً من سعيد وميرفت بشيخوخة القلب في بنيان الشباب حتى كانت اللحظة الحاسمة في أوائل الشهر السابع من الحمل عندما أحست ميرفت بالتعب ففزع كلاهما وهرع سعيد بها إلى المستشفى وما إن وصلا حتى قام الأطباء بتجهيزها لإجراء جراحة عاجلة، وعند باب غرفة العمليات أمسك سعيد بيدي ميرفت ثم مال عليها فقبل جبينها ولم ينبس أحدهما بنبت شفة فإن عيناهما كانتا تتحدثان باللغة التي تليق بهذا الموقف.. ألا وهي لغة الدموع.
وما أن دخلت ميرفت غرفة العمليات حتى جلس سعيد أمام الغرفة غارقًا في همومه، وكان أشد همه سؤال دار في خلده:
"يا ترى.. هل هذه اللحظة هي التي عاش يخشاها طيلة سبعة أشهر حيث يكون فيها الوداع؟ أم أنها اللحظة التي عاش يتمناها سنوات طويلة حيث ينعم بالحبيبة والولد؟"
ولم تكن هناك إجابة، ولم يكن هناك مفر من السؤال إلا في الدموع التي انهمرت من عينيه وكأنها تنزل علي صدره فتطفئ النار المشتعلة فيه. وأخذ يدعو الله سبحانه و تعالى أن لا يحرمه من حبيبته ولا من الولد الذي طالما عاش يحلم به، فالله سبحانه وتعالى هو المعطي الوهاب وهو علي كل شيء قدير.
وبعد ساعات مرت وكأنها سنوات طويلة خرج الطبيب من غرفة العمليات فانتفض سعيد واقفًا وقال بصوت يرتعش:
-خير يا دكتور؟
أجاب الطبيب مبتسمًا:
-لقد نجى الله الأم والولد.
فقال سعيد وقد تبدَّل خوفه الذي كاد أن يودي به إلى المشيب سعادة غامرة عادت به إلى سن الشباب بل إلى سن طفل يكاد يقفز على الأرض من الفرحة:
-ولـد!
فقال الطبيب:
-ألف مبروك.. و إن كنا اضطررنا إلى استئصال الرحم.
لم يسع سعيد إلا أن يعانق الطبيب غير مبالٍ بما ذكره من استئصال الرحم، فهو لا يريد من الدنيا أكثر من ذلك، فها هو من جديد ينعم بالحاضر والمستقبل، ثم قال الطبيب:
-متى يمكنني أن أرى ميرفت؟
-بمجرد أن تفيق من أثر التخدير.
-والولـد؟
-سوف تراه مع والدته بإذن الله.. بالمناسبة ماذا ستسميه؟
أجاب سعيد وقد لمعت عيناه وامتلأ صدره وكأن الكلمة التي ستخرج من فمه قد جمعت كل ما بداخله من مشاعر:
-عـزيـز.
***
وتمر الأيام..
وفي كل يوم يكبر فيه عزيز وتظهر علامات ذكاؤه يكبر معه الأمل في المستقبل وتزداد سعادة الأسرة الصغيرة وارتباطها ببعضها البعض وخاصة ارتباط سعيد بولده الذي أصبح كل شيء في حياته وأصبح الحلم الوحيد الذي لا يفارقه هو أن يري عزيز ينجز ما لم يستطع هو انجازه ويصبح طبيبًا مشهورًا تتهافت الصحف على أخبار أبحاثه في الطب الحديث.. هذا الطب الذي لعب دورًا كبيرًا في قدومه إلى هذه الدنيا.
وكان سعيد كلما راوده هذا الحلم ازداد سعادة وابتهاجا فها هو الحلم في طريقه إلى أن يصبح حقيقة فعزيز كل يوم يحرز تقدمًا في دراسته.
وها هي ليالي الثانوية العامة تشهد لعزيز باجتهاده وصبره وإصراره على التفوق، وترسم في ذاكرتها صورة تدل على ارتباط الأمل بالعمل والحب بالتضحية، فلم يكن عزيز وحده هو الذي يسهر الليالي بل كان دائمًا إلى جانبه والده سعيد الذي كان يضحي براحته ويسهر إلى جانب ولده ليعد له الشاي والوجبات الخفيفة التي تساعده على السهر وليساعده في فهم ما يتعثر عليه فهمه.
ولم يكن لأي منهما أن يشعر بالتعب أو الملل فقد ارتبط حلمهما حتى أصبحا كيانًا واحدًا في جسدين يجب علي كل منهما أن يفعل كل ما بوسعه لتحقيق هذا الحلم، وما تلك الليالي التي جمعتهما بالسهر والحب إلا خطوات نحو تحقيق هذا الحلم فتزداد به سعادتهما.
ولكن كان هناك دائمًا صوت بعيد مخيف ينادي سعيدًا فتهتز له أعماقه "ها هو الولد.. ها هو الخطر في الطريق" ولكن في كل مرة كان سعيد يسد أذنيه محاولاً عدم سماع هذا الصوت الذي يعكر عليه صفو سعادته ويذكره بما يحاول نسيانه.. نبوءة العرافة.
ولكن الصوت لم يكن ليفارقه حتى يصرخ سعيد:
"لا.. لا" وكأنه يصرخ في وجه صاحب هذا الصوت الذي لا يراه، ولكنه يعرف أنه هو.... الشـيطـان.
***
مرت امتحانات الثانوية العامة واقتربت النتيجة من الظهور، ولا يمكن لأحد أن يتصور ما يكون عليه المرء في هذه الأيام فهو أبدًا لا يكون أحسن حالاً ممن قامر بكل ما يملك.. إما أن يكسب كل شيء أو يخسر كل شيء.
وفعلاً كانت هذه هي حالة تلك الأسرة الصغيرة التي كانت تغمرها السعادة عندما تطمع في أن يحرز عزيز تفوقًا كعادته ثم لا تلبث تلك السعادة أن تزول ويحل مكانها القلق عندما ينتابهم الخوف من مكر الثانوية العامة.
وفي ذات ليلة..
دخل عزيز البيت والقلق يتملكه فبادره سعيد قائلاً:
-هل هناك أخبار عن النتيجة؟
أجاب عزيز:
-سوف تعلن غدًا.
فارتبك سعيد وكأنه لم يتوقع تلك الإجابة ثم ما لبث أن حاول السيطرة على نفسه حتى لا يزيد ارتباكه من قلق ولده فقال مبتسمًا:
-لا تقلق يا ولدي.. إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولقد أديت ما يجب عليك عمله، والنتيجة حسب إرادة الله سبحانه وتعالى.
ظهرت علامات الاطمئنان على وجه عزيز وكأن تلك الكلمات كانت بمثابة السحر، وما أن لاحظ سعيد ذلك حتى استطرد محاولاً زيادة اطمئنان ولده:
-سوف تصبح جراحًا مشهورًا بإذن الله.. وسوف ابني لك مستشفي خاصًا على قطعة الأرض التي اشتريتها من أجل ذلك.
-ولكني لن أدخل كلية الطب.
قال سعيد وقد تحول كل قلقه إلى غضب:
-ماذا تقول؟
-لقد غيرت رأيي، لئن وفقني الله فسوف أدخل كلية الصيدلة.
-ولكني أراك منذ طفولتك طبيبًا.
-هذا ليس ذنبي، سوف أدخل كلية الصيدلة مع أصدقائي.
احتدم النقاش بين سعيد وعزيز الذي أنهى هذه المناقشة الملتهبة بأن توجه إلى باب البيت وفتحه في عصبية معلنًا أنه سيبيت الليلة عند أحد أصحابه ثم خرج وأغلقه من ورائه بشدة غير مبالٍ بنداء أمه له والتي ما أن خرج عزيز حتى اتجهت نحو سعيد وقالت له في إشفاق من حالته التي أصبح عليها من التوتر:
-هدئ من روعك يا حبيبي.. إنه فقط القلق والتوتر الذي وضعكما في هذا الموقف.. ولسوف يدخل كلية الطب كما تريد إن شاء الله.
قال سعيد وقد تجمدت ملامحه وكأنها قد فارقتها الحياة:
-لقد أعلن التمرد يا ميرفت.
-لا ليس بتمرد.. إنما هو مجرد تدلل.
-أنت محقة.. لقد دللته أكثر من اللازم .
ثم استطرد:
-لو سمحت اتركيني الآن.. أريد أن أجلس وحدي.
فقامت ميرفت لتستكمل أعمال المطبخ وتركت سعيدًا جالسًا و لكنه لم يكن و حيدًا.. لقد كان جالسًا معه.... الشيطان.
وها هي الفرصة قد سنحت له ليوسوس لسعيد بأفكاره الخبيثة فأخذ يعرض له الشريط من الأول: (نبوءة العرافة "ولد وبنت أذكياء.. الولد يقتل أباه".. وها هو الولد يعلن تمرده وعصيانه)
(فلم يتبق إلا خطوة واحدة) أخذ يردد الشيطان هذه الجملة في نفس سعيد الذي كلما سمعها وضع يديه علي وجهه وانهمر في البكاء.
وأخيرًا تتوقف دموع سعيد في لحظة أدرك فيها الحقيقة كيف يبالي بنبوءة العرافة.. وهي لم تتحقق أصلاً، "فهو لم ينجب بنتًا كما تقول النبوءة ولا يمكن أن ينجبها في المستقبل لأنه تم استئصال رحم ميرفت".
ولكن الشيطان لم يكن ليعجز عن أن يشغله عن تلك الحقيقة التي إذا استقرت في نفس سعيد أبطلت كل خططه التي أعد لها سنوات طويلة وحان وقت تنفيذها.
فاستدرج سعيد من هذا الاطمئنان إلى القلق على مستقبل عزيز والخوف من النتيجة وبذلك تمكن من أن يسيطر على سعيد ويصيب تفكيره بالشلل فيسهل عليه توجيهه كما يريد، وعاد به إلى نفس النقطة: "لم تبق إلا خطوة واحدة".
***
وفي صباح اليوم التالي..
اتجه عزيز إلى التليفون أمام المدرسة تملؤه السعادة وقام بالاتصال بوالدته في العمل، وما أن رفعت سماعة الهاتف حتى قال في سعادة:
-لقد ظهرت النتيجة.. وحصلت على المركز الأول على المحافظة.
تهللت أسارير ميرفت وكادت تطير من فوق المقعد الذي تجلس عليه وقالت بصوت امتزجت به دموع الفرحة:
-ألف مبروك يا حبيبي.
-سوف أتصل بأبي في الشركة لأخبره.
-إنه لم يذهب إلى الشركة اليوم من شدة قلقه.. اذهب إلى البيت وأخبره بنفسك.
-ولكني يصعب عليَّ مواجهته بعد ما حدث ليلة أمس.
-لا عليك يا حبيبي.
-إني أحب أبي كثيرًا.. وسوف أدخل كلية الطب كما يريد.
فازداد سرور ميرفت وقالت:
-ألف مبروك يا حبيبي.. اذهب إلى أبيك وأخبره.. وسوف أنهي بعض الأعمال وآتي على الفور.
وضع عزيز سماعة الهاتف وأسرع إلى البيت في سعادة غامرة، فها هو اليوم يجني ثمار تعب العام كله. وما أن دخل عزيز إلى البيت ووجد أبيه جالسًا على الأريكة يتملكه القلق ويكاد ملل الانتظار أن يقتله.. حتى نزلت الدموع من عيني عزيز.. لقد كانت دموع الأسف علي ما بدر منه ليلة أمس.
ولكن تلك الدموع لم تنجح أن تصل بهذا الأسف إلى سعيد الذي ما إن رآها حتى ظن أن عزيز قد أخفق في الثانوية ولم يصل إلى ما يصبو إليه فانخفضت رأسه على صدره في انكسار، فها هي آماله تتحطم على صخرة الثانوية العامة.
ولكن عزيز لم يتركه يعيش تلك اللحظات البائسة طويلاً فبمجرد أن فطن إلى ما ظنه أبوه حتى قال بأعلى صوته وفي سعادة غامرة:
-لقد حصلت على المركز الأول على المحافظة.
وقعت تلك الكلمات علي مسامع سعيد وقع قطرات المياه علي النبت الذي أوشك علي الذبول فأعادته إلى الحياة، فتهللت أساريره وانتفض واقفًا على قدميه وهرول إلى عزيز.
هرول كل منهما تجاه الآخر.. وتعانقا.. و أخذا يدوران وهما متعانقان وقد بسطت لهما السعادة جناحيها فأحسا وكأنهما يطيران في سماء الغد.
ولكن ها هو يأتي من جديد يريد أن ينتزع منهما سعادتهما.. ها هو يأتي هذه المرة وينوي أن ينتهي من تلك المهمة التي عاش من أجل تحقيقها.. ها هو........ الشيطان
فمع دوران سعيد وهو يعانق ولده في فرحة وسعادة جاء الشيطان وهو يبرز لسعيد على جدران البيت صورًا يراها سعيد واحدة تلو الأخرى مع دورانه
فكانت الصورة الأولى هي صورة العرافة في تلك الأيام البعيدة وما قالته عن ولده
أما الثانية فهي صورة عزيز في طفولته وذكاؤه يلمع يومًا بعد الأخر
أما الثالثة فهي صورة عزيز وهو يعلن تمرده وعصيانه بالأمس القريب
وأما الأخيرة فهي صورة عزيز وهو يقتل سعيد ويغمس يده في دمه، ولقد عمل الشيطان على أن يعيد تلك الصورة أكثر من مرة حتى أصبحت تحيط بسعيد في كل البيت وخيل له أنها حقيقة يعيشها.
وهنا.. تبدلت السعادة على وجه سعيد إلى جمود أقسي من جمود الصخر وارتعش جسده الذي أصبح تحت سيطرة الشيطان رعشة قوية، التقط بعدها سكين الفاكهة على الطاولة المجاورة ولم يشعر إلا والسكين قد استقرت في قلب ولده بعد أن طعنه بها في ظهره. وتوقف الدوران.........
توقف على إثر شهقة لعزيز جحظت بعدها عيناه وسقط غارقًا في دمائه بين يدي سعيد الذي تخلي عنه الشيطان في هذه اللحظة فأدرك بشاعة ما فعله و أدرك أنه سقط.. سقط إلى الهاوية بعد أن قتل أغلى ما في حياته من أجل أكذوبة.
ويا لبشاعة هذا الإحساس ويا لفظاعة عواقبه فها هو سعيد يتحسس عزيز الغارق في دمائه بين يديه وهو يصرخ:
-عزيز.......... عزيـــــــــــــــــز.
وبينما كانت صرخات سعيد تدوي في المكان، كانت هناك أيضًا ضحكات تدوي في المكان، إنها تلك الضحكات............... ضحكات الشيطان.
واقرأ أيضا :
كذب المنجمون.. وإن صدقوا / ومن يتوكل على الله فهو حسبه / مجنون على الطريقة المصرية