يداه ترتجفان في عصبية، لا يكاد يثبت تحتهما شيء، يضغط على أضراسه بلا وعي، ويغلق عينيه بين الفينة والأخرى، يشعر كأنهما تُمْلآن رملا من شدة الإرهاق، دقت الساعة الناطقة في الغرفة الباردة الضيقة محدثة صدى عاليًا، أعلنت الثانية عشرة، مؤذنة ببداية اليوم الثالث عشر من شهر أكتوبر لسنة ألفين وسبعة وخمسين من الميلاد!
ارتد إلى الوراء قليلا، تمطى وأخذ نفسا عميقًا، عاد لجلسته ثم مدَّ يمناه وتناول منديلا مسح به حبيبات العرق المتناثرة على جبهته العريضة، أدركها قبل أن تسقط لتوها على الجهاز الرابض بين يديه.
إنه اختراعه الذي ظل طيلة الأعوام الثلاثة الماضية يطوِّر فيه في عزم وإصرار، مانحا إياه جلَّ وقته، مستهينا في سبيله بكل ما يمكن أن يحدث له!
حدَّث نفسه.. ها قد آن الأوان لتنال المنزلة التي تستحقها، بعد سنوات من الإهمال وسوء التقدير.
حوَّم بذاكرته قليلا، تذكر أمه وأبيه اللذين لم يرهما منذ أمد، وتذكر زوجته الرقيقة وابنتهما الرائعة الوحيدة ((سلمى))، كم أهمل حقهما طيلة تلك السنوات المنقضية، إن ابنته لا تكاد تعرفه! بل إنها تتشبث بوالدتها مرتعبة إذا ما حاول الاقتراب منها!
أما زوجته الجميلة التي مثلت تجربة الحب الوحيدة في حياته فقد زادت الفجوة فيما بينهما واتسعت الهوة، بعد أن فقدت كل أمل من وراء النقاش معه حول أوضاعهما المقلوبة.
أفاق مرة أخرى، نظر إلى جهازه، حدثه كأنما هو ابن له أثير: ارقد يا عزيزي في هدوء، ما زال أمامك ليلة أخرى واحدة؛ لتبهر أعين الناس وعقولهم بما يمكنك تحقيقه لهم، ستكون ثورة في تاريخ العلم لا تدانيها ثورة!
سحب عليه غطاء رماديا يظهر فيه بعض الاتساخ، اتجه مباشرة ناحية باب الشقة التي استأجرها خصيصًا من أجل ذلك الغرض، كان حريصًا على أن تكون في الدور السادس تحت الأرض بعيدًا عن الضوضاء والضجيج! ركب سيارته، أدخل إلى الكمبيوتر الخاص بها البرنامج رقم واحد، الذي يجعلها مبرمجة على الاتجاه نحو بيته، لم يكن البيت يبعد كثيرا ورغم ذلك برمج السيارة على السرعة القصوى؛ فقد كان شديد الإرهاق.
ضغط زرًّا في باب البيت، أضاء له مربع صغير في مقابلة عينه مباشرة، كان عبارة عن شاشة ليزر، وضع حدقته في مقابل الشاشة، انفتح الباب..
كالعادة.. صمت مميت، كأنما يدخل مقبرة، اتجه ناحية غرفته مرهقا، خلع ثيابه في عجلة، انتبهت زوجته فنظرت إليه بنصف عين، انقلبت على الجانب الآخر، تحسست غطاء ابنتها بعناية، ثم غطت في نومها مرة أخرى مدركة أنها ستستيقظ في الصباح فلا تجده.
في الصباح استيقظ في موعده رغم إرهاقه، كان يمتلئ تصميما على أن ينتهي من اختراعه في هذا اليوم، قبل أن يخطو خارج البيت تذكر أنه لم يقبِّل زوجته وابنته كعادته، قبَّلهما في رفق ثم انطلق مسرعا نحو معمله.
كانت تزداد حدة الارتعاشة -التي لم تعد تفارق يديه- كلما قارب الانتهاء منه، وتتابع ضربات قلبه في قوة، أخذ يربط المسمار الأخير وهو لا يكاد يصدق أنه انتهى!
جاء وقت الاختبار.. قال لنفسه وهو يزيح الهواء الثقيل الذي كتمه في رئتيه.
وضع الجهاز أمامه باهتمام، ضغط زر التشغيل، أضاءت لمبة صغيرة ذات لون أحمر، أخذ يضغط بعصبية على لوحة المفاتيح أمامه، أدخل تاريخًا عشوائيًا: 2/ 11/ 2055م، الساعة 5 مساء، ضغط زر قبول الأمر، ظهرت أمامه رسالة: من فضلك انتظر قليلا بينما يقوم الجهاز بالتحميل.. كان ظهور تلك الرسالة في حد ذاته يمثل له انتصارًا!
لاحت أمامه شاشة بيضاء مشعة باهتة، أخذ يحرك كاميرا الجهاز في بطء، صرخ صرخة مكتومة، لم يكد يصدق نفسه، إنه يعمل.. إنه يعمل.. ردد في ذهول!
كان الجهاز يعرض أمامه في دقة واضحة ما حدث في تلك الحجرة في نفس التاريخ ونفس الساعة!
أخذ ينظر بتمعن:
ما هذا الشبح؟! إنه أنا بالتأكيد، لا يدخل هنا أحد سواي..
ماذا يفعل؟! إنه يحني رقبته كأنه ينظر في شيء أمامه.. لابد أنه أنت أيها الاختراع العظيم قبل أن تولد!
أخذ يلاحظ الشبح بشغف.. يقوم من مكانه، يتجه ناحية ركن من أركان الغرفة، كأنه يحمل بين يديه شيئًا.. لابد أنه كوب الشاي المعتاد!
كان مصابا بالذهول، يتلمس أنحاء جسده والأشياء من حوله، يحاول أن يثبت لنفسه أنه في يقظة!
شعر أن أيام شقائه قد قاربت على الانتهاء، وأن نجم سعده قد بدا، لم يعكر نشوة انتصاره سوى أن الصورة لا تظهر واضحة الملامح تمامًا، وإنما تظهر في هيئة ما يسميه المصورون بالعفريتة، لكن لا بأس -قالها لنفسه- فبحسابات بسيطة يمكن التعرف على صاحب الصورة.
حدث نفسه في اهتمام: الآن أعد مفاجأة لزوجتي، وأظن أن تلك المفاجأة ستمحو آثار ما قد مضى من جفاء، خاصة حين تعلم أن زوجها العنيد لم يكن يلعب طيلة السنوات الماضية، وإنما كان يعد لهما ولابنتهما مجدًا لا يفنى على مر الزمن.
حمل اختراعه في لطف مبالغ فيه، وضعه في حقيبته، لم ينتظر المصعد، صعد عبر السلم المتحرك، وضع الجهاز ببطء في سيارته، لم يقد عبر البرنامج في هذه الليلة، وإنما تولى القيادة بنفسه، قاد بحرص بالغ على غير عادته، كأنما يحمل معه أرواحا غالية عليه فهو يخشى أن يفقدها!
تعجب.. لم يكن يفعل ذلك مع زوجته وابنته!
دخل بيته في هدوء كالعادة، اختلس الخطوات، اتجه نحو أقرب مقعد، وضع الحقيبة وأخرج الجهاز، ضغط زر التشغيل في تردد، كان كأنه في حلم جميل يخشى أن يستيقظ منه! أضاء اللون الأحمر مرة أخرى.
أدخل يوما آخر عشوائيًا: 15/ 2/ 2048م، الساعة 10 مساء، ضغط زر القبول، ظهرت نفس الرسالة، خفق قلبه متلهفًا، شعر بوخز في صدره سرعان ما امتد عبر جسده.
أخيرًا ظهرت الصورة، ابتسم.. شبح أنثوي يسير في دلال، لابد أنها زوجته، ها هي تسير بدلالها المعهود، تذكر الأيام السعيدة التي قضياها في بداية زواجهما.
في لحظة خاطفة امتُقع لونه، تتابعت ضربات قلبه، شعر أنه سيقفز من موضعه بين ضلوعه.. ما هذا؟!
إنه شبح آخر يبدو أنه لرجل يسير خلف شبح زوجته، كانت تتلفت إليه بين لحظة وأخرى، كأنما يقولان شيئًا، ودَّ لو استطاع أن يسمع ما يقولانه، دخلت حجرة النوم، دخل الشبح وراءها، كأنها تخلع ثيابها، وكذلك الشبح.. لم يصدق عينيه..
تحركت زوجته بدلال نحو الفراش، تبعها ذلك الشبح اللعين! اندمجا كصورة واحدة، جفَّ ريقه وشعر برأسه ثقيلة تدور، أغلق اختراعه ثم أسند جسده إلى الحائط.
الخائنة.. كانت أول ما نطق به بعد أن أفاق!
وضع الجهاز جانبًا، دخل حجرة نومه في ضيق بالغ، نظر ناحية زوجته، نظرت إليه نصف مغمضة، لحظت في نظرته شيئًا غريبًا، انتبهت للحظة: هل ثمة خطأ؟ قالتها في فتور..
حدَّق فيها قليلا.. لا شيء، فقط أريد كوبا من الشاي من فضلك، أشعر كأن رأسي سينفجر، قامت متباطئة, تعجبت.. يمكنه أن يجهزه في ثوان، كانت المرة الأولى –ربما– التي يطلب منها ذلك, لم تشأ أن ترد طلبه، أخذت تسير في بطء مستندة إلي الحائط، اتجهت نحو جهاز صغير في أحد أركان المطبخ، ضغطت أمرًا لإعداد كوب شاي ثم انتظرت في سكون.
نظر إلى ابنته نائمة في فراشها، أشفق عليها، لم يردعه إشفاقه، توجه في شبه غيبوبة إلي حيث تقف زوجته، انتبهت لدخوله، نظرت إليه ثم التفتت مرة أخرى، تعلم أن هذه طريقته حين يريدها، كانت تحدث نفسها: هل تنصاع له أم لا؟
شعرت بيديه تلتفان حول عنقها، ظنتها مغازلة، لم تقاوم، زاد ضغطهما، تنطبقان علي حنجرتها، التفتت إليه غير مصدقة، قاومت بلا جدوى، ضعفت مقاومتها وما زال ممسكًا بقوته، سقطت بين قدميه، حمل شايه ثم اتجه نحو حجرة مكتبه.
رشف قطرات الشاي في برود، خرج من حجرته، أحضر جهازه ثم وضعه علي مكتبه، أخرج منه الاسطوانة التي قام الجهاز بتسجيلها.
بقي دورك أيها الملعون.. قالها في تصميم. أدخل الاسطوانة في جهاز الكمبيوتر الخاص به، كان ماهرًا في اختراق الشبكات، اخترق شبكة وزارة ((شؤون المواطنين))، حيث تجمع كل البيانات الخاصة بأفراد الشعب.
نسخ صورة الشبح الأول، كان متأكدًا أنها زوجته، لكن لا بأس، أدخل الصورة على الشبكة، جاءت النتيجة أسرع مما تصور.. ها هي الخائنة بنظرتها الرقيقة الخادعة!
نسخ الصورة الأخرى، أدخلها علي الشبكة، نظر في ترقب.. ابتلع ريقه.. جحظت عيناه.. شعر كأن حرارة جهنم تنبعث من وجنتيه!
مستحيل.. مستحيل.. لا يمكن.. أبدًا!!
دار في الحجرة كالثور الهائج، حمل جهازه اللعين، ضرب به الحائط في عنف، تناثرت شظاياه في أنحاء حجرته، خار كالذبيح، ثم سقط علي الأرض!
في الجزء الثاني من التقرير الذي أعدته النيابة عن مسرح الجريمة سُطِّرت هذه الكلمات: ((حجرة المكتب: الجاني ساقط على أرضية الغرفة، في مرحلة التيبس الرِّمِّي، سبب الوفاة صدمة عصبية وهبوط حاد في الدورة الدموية، وجهاز كمبيوتر محمل عليه الصفحة الخاصة بالجاني، وفي أنحاء الغرفة أجزاء متناثرة من جهاز لم يتم التعرف عليه))!!
واقرأ أيضا:
نعم / يومُ الفتحْ!! / نقش على لوح قصيدة مطرية: لا معذرة / ما ذنبي؟!! / ..صمود.. / اللص المحترم / أمةٌ عجب! / إذا الشعبُ.. / رثاءُ روح.. / شبه أسيرةِ العرب..