((ناجي علام)) شاب في الثلاثينيات من عمره، واسع الاطلاع، مثقف الفكر، وسيمة ملامحه، له سحر خاص لا يُدرى كنهه، يمنحه تأثيرا واضحا فيمن حوله، رغم ذلك فإنه يرى من نفسه إنسانا "منحوس"، وله طلعة تلفت النظر، وتأسر الناظر، رغم أنه لا يختلف في مظهره عن كثير من أبناء طبقته، الراقصة على السلالم، التي لا هي فقيرة فقرا تستحق به الصدقة، ولا هي مستغنية عنها!
تراه دائما يحمل أوراقا بين يديه، يسعى بها في كل مكان، يحاول أن يثبت في كل محفل أنه مبدع، وأنه لا يقل كفاءة عن هؤلاء الذين تملأ وجوههم وأسماؤهم شاشات التلفاز وأوراق الصحف. يخرج من صحيفة فيدخل إلى مجلة، ومن عند الفنان ((فلان)) إلى المبدع ((عِلاَّن))، يقابل أناسا كثيرين، بعضهم يبتسم في وجهه، يقول له كلاما حلوا، ويمدح صفاء ذهنه وتوقُّده، ثم تتوقف فاعليتهم عند عتبة المدح الأجوف، والابتسامة الدبلوماسية.
أما معظمهم فقد اعتاد منهم على التجهم والعبوس، يقلبون أنظارهم في الأوراق بين أيديهم بينما يتحدثون؛ لعل هذه الطريقة تفلح في التعبير عما لا يستطيعون قوله، وتفلح معه هذه الطريقة لحساسيته المفرطة، فتقول له بلسانين لا بلسان: لا تعطلنا، وراءنا أشغال كثيرة!
سئم من كثرة المواعيد، تراكمت في ذاكرته الوجوه، سببت زحاما أشبه ما يكون بزحام شارع رئيسي، في عاصمة مكتظة، ساعة ذروة!
وضاقت به الأبواب؛ حتى انغلق على نفسه، فأكثر من لوم الناس والمجتمع من حوله، كلما مر بموقف لم يعجبه ردد المقولة التي تحلو له دائمًا: "ذهب الناس وبقي النسناس"! أثر حفظه منذ صغره، بل راح أيضا يجلد ذاته ويوبخها، فكره حياته، ولم يعد يستمتع بشيء فيها.
كان يشعر دائما بأن هناك شيئا ما ناقص في حياته، فهو ينتظر أن يأتي ولكنه لا يأتي! شيء ما قد انكسر بداخله ولا يدري ما هو حتى يحاول إصلاحه، يشعر كأن الآلية التي يمنطق بها مخه المواقف ويدرك بها الأسباب من حوله قد أصابها العطب! افترسه الاكتئاب، بل أصبح على حافة الاكتئاب الجسيم، هناك.. حيث يُسلب الإيمان، حتى إنه ليسأل الله: أين أنت؟ ولماذا خلقتني؟!
أدركته رحمة الله وبقية من إيمان.. فاستغفر.
اعتاد الجلوس على إحدى ((القهاوي))، حيث الأدمغة الفارغة، التي لا تقول ولا تفعل، فهم في رأيه أحسن مجالسة من هؤلاء الذين لا تفتأ ألسنتهم صاعدة هابطة بينما هم في الحقيقة لن يفعلوا شيئا! كان ينتحي بنفسه جانبا، لا يحاول أن يختلط بأحد، وتمنع سيماؤه الناس من الاقتراب منه.
ذات يوم لفت انتباهه رجل اعتاد التحديق في وجهه منذ فترة، لم يعره انتباها قبل ذلك، لكنه صمم اليوم على أن يكشف سر نظرته المريبة تلك، لم يوح له منظره بسوء، لكن ضايقه تركيزه عليه دون الحاضرين، فأحدَّ إليه البصر، أشار الرجل إليه بيده محييا، لم يجد بدا من الرد، فأشار إليه في فتور وكأنه لم يشر، رفع الآخر كرسيه، حمله في يده، اتجه ناحيته، جلس هو متحفزا، سأله: هل يمكنني مجالستك؟ تردد لوهلة، ثم أذن له.
قال له مباشرة: هل يمكنني أن أسألك: لماذا تبدو دائمًا حزينًا مكتئبًا؟
شعر أن الرجل ودون استئذان قد اقتحم عليه واقعا بدا له أنه كان خافيًا، فأجابه غاضبًا: ليس معنى أني سمحت لك بمجالستي أن تتدخل في خصوصياتي!
تردد الرجل خجلا.. أنا آسف، كنت أتمنى مساعدتك.. بعد إذنك.
حاول القيام، أمسك ((ناجي)) بذراعه، كان حساسا، شعر بخطئه في حق الرجل، فقال له: لا تعتذر، لم تخطئ أنت، ولم تفعل ما يستوجب الأسف، لكنها نفسيتي أنا السيئة.
تلقف الآخر الخيط الذي ألقاه له ((ناجي))، قال: ألم أقل لك؟ إن وجهك يفضح ما بداخلك بوضوح.
نظر إليه ((ناجي)) متضايقا ولكن بصورة أقل حدة، سأله: وهل تستطيع حقًّا أن تساعدني؟
قال له الآخر: ربما! من يدري؟ ثم تابع واثقا: أخبرني بصراحة عما يضايقك..
قال ((ناجي)) وما زال يعتريه بعض التردد: عندي شعور عارم بالظلم، أشعر أن المجتمع كله يقف ضدي! وأن الحياة تسير بي حتما نحو قدري الأسود المظلم، فما الجدوى منها إذن؟ دندن بصوت يُسمع بالكاد:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادِ
ثم قال حزينًا: نعم.. رحم الله شيخ المعرة؛ أبا العلاء.
نظر إليه الآخر وقد قطب جبينه، قلب عينيه في ملامح وجهه قليلا، ثم قال: اسمح لي سيدي بأن أقول: إن لقولك وجهين؛ وجها هو حق، ووجها لا يعدو أن يكون باطلا صرفا، فالحق هو ما بداخلك، والباطل هو ما أنت صانعه!
نظر إليه ((ناجي)) مستغربا: لم أفهم منك شيئا!
قال الآخر: بطريقة أكثر وضوحا فإن الحق هو ما تشعر به داخلك، فأنت تشعر بالظلم والهضم؛ وأنت مصيب؛ بغض النظر عن مفهومك لهذا الظلم واختلافنا المحتمل حوله، ولذا فقد حق لك أن تشعر بالحزن، ولكن الباطل الصرف هو ما تحاول أن تصبغ به الحياة من حولك، فالحياة ليست بهذا السوء، وليس الناس أيضا كلهم بهذه الصورة القاتمة، بدليل أنني وغيري أيضا ربما لا نراها ولا نراهم بتلك الصورة التي تراها أنت.
أجابه دو ن مبالاة: وماذا يعنيني غيري، إذا كنت أنا أراها كذلك؟!
فقال بصورة حازمة: يعنيك سيدي أن تعرف أن واقع كل منا هو من صنعه هو، وناشئا عن رؤيته، صحيح قد يكون للآخرين يد في تشكيل واقعك، ولكن يؤسفني أن أخبرك أنه أنت من يقرر ذلك!
بدا عليه بعض الاقتناع لوهلة، لكنه ما لبث أن عاد لطبيعته، فقال متهكمًا: حسنا يا سيدي الفيلسوف، علمني إذن كيف أصبغ واقعي بتلك الصبغة السحرية التي تتحدث عنها، والتي ستجتاز بي حتما ذلك الواقع الأليم!
تبسم الرجل حين نعته بالفيلسوف، قال له: ليس قبل أن أعرف ذلك الواقع.. إذا لم يكن عندك مانع بالتأكيد..
بدأ ((ناجي)) بعد أن ارتاح للرجل قليلا في سرد مأساته، وما واجهه من الإهمال تارة والتعسف أخرى، ثم تعرض لفقدانه شيئا فشيئا لهمته ورغبته، حتى آل أمره إلى ما يراه عليه الآن.
كان يحكي كل ذلك بينما الرجل منصت له باهتمام بالغ.
حينما انتهى ((ناجي)) من حكايته، أخذ الرجل نفسا عميقا، ثم قال له: نعم.. أنا معك في أنها مأساة، لكن لعلك لم تأخذ بكل الوسائل المتاحة..
قال له ((ناجي)) مبتسما: هل عندك وسيلة أخرى لم أتطرق إليها؟
قال له الرجل بعد أن سكت قليلا: اسمع.. هل تعرف الكاتب الكبير ((رأفت حسيب))؟
قال ((ناجي)): بالتأكيد.. أليس هو صاحب مجلة ((السنبلة)) الشهيرة؟
قال الآخر: نعم، هو بعينه.. لقد بلغني أنه يساعد كثيرا من الشباب الصاعد أمثالك، فهل جربت أن تذهب إليه؟
قال ناجي: لا، بصراحة لم أذهب إليه أبدا..
قال الرجل: فلا مانع إذن من التجربة.
في الصباح كان ((ناجي)) قد عزم على أن يأخذ بنصيحة الرجل، اتجه ناحية مقر المجلة، سأل البواب القائم على بوابة العمارة:
مجلة ((السنبلة)) إذا سمحت..
أجاب البواب بصورة آلية مقتضبة: الدور السابع، شقة 31.
شكره ناجي، لم يرد عليه الرجل، بعد أن جاوزه بقليل قال له البواب بطريقة شامتة أو هكذا بدت له: المصعد معطل يا أستاذ، خذ السلم.
تشاءم ناجي، رآها بداية سيئة، دفع عنه خاطر التشاؤم واتجه ناحية السلم، ردد في نفسه قول الشاعر:
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
قال متهكمًا بينما يصعد درجات السلم:
لا تحسب المجد ((مصعد)) أنت راكبه
لن تبلغ المجد حتى تصعد الدرجا
بعد أن بلغ الدور الرابع رأى أن جملة: ((تقطع النَفَسَا)) ستكون أكثر مناسبة من قوله: ((تصعد الدرجا)).
حين بلغ الدور السابع وقف يلهث قليلا، تلفت حوله، اتجه إلى باب مفتوح، سأل الرجل بصوت منخفض: مجلة ((السنبلة))؟
التفت إليه الرجل بنصف عين، أشار بيده إلى أعلى دون أن ينطق، علم ((ناجي)) أنه أخطأ العد من شدة تعبه، صعد الدور الباقي، رأى لوحة مضيئة باسم المجلة تشير ناحيتها، دخل بخطى مترددة، يتلفت حوله، كمن دخل موضعا وصفت له علاماته ثم تاهت منه فهو يبحث عنها جاهدا.
توجه ناحية موظف الاستقبال، وقف أمام مكتبه منتظرا أن ينتهي من مكالمته الهاتفية، كان الموظف ينظر في ناحيته بين تارة وأخرى مبتسما، يرد عليه بابتسامة ظانًّا أنه يبتسم له، لا يلبث أن يعلم أنه إنما يبتسم لمن يواجهه على الخط، يتوقف عن ابتساماته!
لما طال وقوفه، وشعر من كلمات الموظف أنها مكالمة شخصية، رفع إليه يده مستسمحًا أن يرد عليه ثم يعود لحديثه، أنزل الموظف السماعة من على أذنه متجهما، وقال في حدة: نعم يا سيدي.. هل أترك العمل الذي في يدي من أجلك؟ ماذا هنالك؟ ألا تستطيع أن تصبر قليلا؟ هل أنت أفضل من هؤلاء جميعا؟
نظر خلفه فوجد ما يزيد على سبعة أشخاص، لم تعطه الطريقة التي يسأله بها فرصة للإجابة، شعر بالعجز فصمت متجها ناحية أحد الكراسي، جلس وهو يردد في سريرته: قتلت أرض جاهلها!
أخذ يحدق في وجوه الجالسين، ما بين نائم وقارئ في صحيفة ومحدث لمن بجواره، طال انتظاره ولم تصب موظف الاستقبال بهم شفقة، تذكر قول الشاعر الجاهلي:
ولا يقيم على ضيم ألم به
إلا الأذلين عير الحي والوتد
ردد بصوت منخفض متعجبًا: هذا الذي نسميه شاعرًا جاهليًا؟! لهو أكثر حضارة منا! قام منتفضا، صرخ في وجه الموظف: ما هذا الذي تفعله؟ أليس لديك إحساس؟ هل جاؤوا بك هنا وأعطوك راتبا على هذا الهذر الذي تفعله؟! إما أن ترشدني إلى غرفة رئيس التحرير وإما أن أدخل أنا بنفسي..
أغلق الموظف الخط، فغر فاه كالأبله، حدق في الوجه الأحمر المتورم والجسد المنتفض أمامه، قال في انهزامية: ماذا حدث يا أستاذ؟ هل غضبت مني؟! أرجو ألا تكون غضبت! تعال.. تعال، سأقودك بنفسي إلى غرفة رئيس التحرير..
قاده الموظف عبر رواق طويل ممتد، وانحنى به حنيات متعددة شعر معها أنه قد ابتعد كثيرا عن الموضع الذي دخل منه، وقف الموظف أمام باب على يمينه، طرقه بلطف، قال ((ناجي)) في نفسه: إذن هاهنا يربض الشريف المرجَّى.. ازداد توتره.
أدخله الموظف ثم تركه ومضى، ربما ليعود إلى مكالمته مرة أخرى! وجد قبالته سكرتيرة حسناء، ابتسمت له، كانت الابتسامة الأولى التي عُني بها منذ الصباح، قالت له في رقة: تفضل يا أستاذ.. سألته عن الموضوع الذي يريد من أجله الأستاذ رأفت.. قبل أن يجيب رن الهاتف، أشارت إليه بأصبعها لينتظر، بلع ريقه وصمت بعد أن كان تحفز للكلام.
بعد أن انتهت أمرته أن يكمل بطريقة لا مبالية، قال لها: أريد أن أعرض على الأستاذ بعض أعمالي.
قالت له: هل هناك موعد سابق؟
أجابها: لا يا سيدتي.. ولكني لن آخذ من وقت حضرته كثيرًا، أرجو أن تستأذني لي عليه.
رقت له بعض الشيء، طلبت منه أن ينتظر.
فتحت الباب لتدخل، في اللحظة التي فتحت فيها التقط ((ناجي)) صورة سريعة للمكان، اشتم رائحة الفخامة والثراء، بعد برهة وصلت إليه لفحة البرودة المندفعة من مكتب الأستاذ، ازداد قلقه، وأخذ نفسا عميقا.
بعد قليل خرجت عابسة، قالت: آسفة يا أستاذ، الأستاذ ((رأفت)) مشغول اليوم جدًا، لن يستطيع مقابلتك..
كأنما ألقت عليه قنبلة، قام مندفعا ناحية الباب كمجنون أثارته ثائرة، بينما صرخات السكرتيرة تلاحقه، فتح الباب دون أن يطرقه، وقعت عينه في عين رئيس التحرير، راعه مظهره الأنيق، وقف ساكنا كآلة نفد وقودها! بينما أشار الرجل إلى السكرتيرة أن تذهب وتغلق الباب.
أغلقت السكرتيرة الباب بينما ما زال ((ناجي)) واقفا في ذهول، قال له الرجل مبتسما: تفضل يا أستاذ... ما اسمك؟
قال ((ناجي)) خافضا صوته: ((ناجي)) يا سيدي.
قال له: تفضل يا ((ناجي)).. ماذا تشرب؟ سأطلب لك ليمونًا حتى تهدأ.
لم يجب ((ناجي))، راعه الأسلوب المتأنق الذي تحدث به الرجل، قال في نفسه بسذاجة: يا للحاشية الفاسدة التي تسيء إلى رؤسائها! لابد أنه رجل محترم!
قطع الرجل عليه أفكاره: ها يا أستاذ ((ناجي)).. ما الموضوع الذي أردتني من أجله واقتحمت علي المكتب بسببه؟ قالها وهو يبتسم.
شعر ((ناجي)) بالخجل، جفَّ ريقه، فشعر أن الأحرف التي ينطق بها خطافات تمزق حلقه، قال: أنا.. أنا يا أستاذ أكتب بعض الخواطر، وكنت أتمنى أن تساعدني في...
قاطعه لأول مرة: نعم.. نعم، هل معك نماذج من تلك الأعمال؟
قال ((ناجي)) فرِحا كأنما انشقت له طاقة القدر: نعم يا سيدي، ها هي..
ناوله الملف الممتلئ الذي يضم إنتاجه، حاول أن يعرض عليه ما بداخله فقاطعه مرة أخرى: حسنا.. اتركه لي يا (( ناجي)).. حين أنتهي من قراءته سأترك لك خبرًا مع ((هند))..
قال ناجي متعجبا: ((هند))؟
قال له: نعم.. السكرتيرة التي بالخارج.
قال كلماته الأخيرة بينما وضع الملف جانبًا، وبدأ يقلب في أوراق بين يديه.
قام ((ناجي)) مادًّا يده: شكرا لك يا أستاذ على الوقت الذي منحتني إياه، شكرا لمنحك الفرصة لي.
هزَّ الأستاذ ((رأفت)) رأسه دون أن يرفعها، فسحب ناجي يده خجلا، مسح العرق المتناثر على وجهه، والذي يوحي بأنه خرج
لتوه من معركة حامية، ثم انفلت خارجا.
في الخارج ابتسم إلى ((هند))، قال لها: هلاَّ تكرمت بإعطائي رقم الهاتف لأتصل بك؟
نظرت إليه مستغربة طلبه.. فبادر قائلا: سيترك معك الأستاذ خبرًا، وطلب مني أن أتصل بك.
أعطته الكارت وقالت بطريقة لا مبالية: تفضل يا أستاذ..
قال في سره: أستاذ يلهفك!
في طريق خروجه وجد نفس الرجال الذين رآهم جالسين وقت دخوله، لم يختلف شيء سوى أن طويت بعض الصحف وزاد عدد النائمين، بينما كان الموظف المغوار ما زال ممسكا بالهاتف بين يديه.
أخذ ((ناجي)) يهبط درجات السلم كأنه طائر يحلق، يشعر بفرحة غامرة تملك عليه نفسه، وتعيقه عن التفكير في شيء سوى ذلك المجد الذي ينتظره!
حين وصل إلى مدخل العمارة وجد البواب في مواجهته، سأله متعجبا: لماذا لم تنزل في المصعد يا أستاذ؟ لقد أصلحناه!
التفت ناجي ناحية المصعد ثم نظر إلى الرجل: هز كتفيه وقال له: لم أنتبه لذلك، ثم شكره ومضى.
في طريق عودته وحين مروره على ((القهوة)) التي يجلس عليها ودَّ لو يرى الرجل الفيلسوف؛ حتى يشكره على نصيحته الغالية.
بدأ يعد الأيام والليالي، وبعد أسبوع اتصل على موظف الاستقبال، قال له: الآنسة ((هند)) إذا تفضلت، بعد انتظار تم تحويله،
جاءه صوتها الأنثوي الناعم: نعم..
تعجب من المفارقة بين صوتها الرقيق وطريقتها الجافية في الرد.
قال لها: كيف حالك يا آنسة ((هند))؟
قالت بطريقة لا تخلو من خشونة: بخير، من أنت؟
فقال لها: ألا تعرفينني؟! أنا ((ناجي))..
قالت وقد بدأ صبرها ينفد: من ((ناجي))؟ من فضلك أسرع أمامي عمل كثير؟
قال وقد شعر بالخجل والضيق: ((ناجي)) يا آنسة ((هند))، كان الأستاذ ((رأفت)) سيترك لي خبرا معك
عن...
قاطعته: نعم. نعم.. لم يترك الأستاذ شيئا بعد.. اترك لي هاتفك لأتصل بك إن جدَّ شيء.
أعطاها رقم هاتفه ثم أغلق الخط مستاء.
أخذت منه الرقم، كتبته في ورقة صغيرة، ووضعتها في درج مكتبها، أو مخزن المهملات كما كانت تسميه!
مر شهر وراء شهر، لم يسمع خبرا، ازداد ضيقه، وعاد سيرته الأولى، لم يكن يرى الفيلسوف في تلك الأيام، ودَّ لو أنه قابله؛ فكسَّر نظريته الحمقاء فوق أمِّ رأسه!
في نهاية أحد أيام العمل وبينما كان الكاتب ((رأفت حسيب)) يشعر بالفراغ والملل أخذ يقلِّب في درج مكتبه، لفت نظره ملف ذو لون أحمر، سحبه، نظر فيه باستغراب، ضمَّ وجهه وأرجع رأسه للوراء، ألا زال ذلك الملف هنا؟!
وضعه أمام ثم أخذ يقلب فيه دون اهتمام، بدأت العناوين تلفت انتباهه، اختار عنوانًا لرواية؛ ((اللص المحترم))، بدأ في قراءتها، بدا منجذبا لها..
بينما يقرأ قاطعته طرقات ((هند))، رفع رأسه ببطء، وجدها أمامه، سألته: هل تريد شيئا يا أستاذ؟
أجابها: أريد شيئا! أين تذهبين؟
قالت له: سأنصرف بعد إذنك؛ لقد بلغت الساعة الحادية عشرة، وأنا في انتظارك منذ ساعة.
نظر في ساعته، ثم نظر في ساعة الحائط قبالته، التفت إليها متعجبا من مرور ذلك الوقت دون أن يشعر، ثم قال لها: ((هند)).. هل تتذكرين الولد الذي جاء إلي منذ عدة أشهر واقتحم علي المكتب؟
قالت له: نعم يا أستاذ، لقد اتصل بي منذ فترة، وأخذت منه هاتفه.
قال لها: حسنا، أريدك أن تتصلي به، اجعليه يحضر إلي في أقرب وقت.
خرجت لتبحث عن الرقم وقلبها يدق؛ خشية أن تكون أضاعته، فرحت بشدة حين وجدته، طلبت الرقم، جاءها صوت متناوم، سألت: الأستاذ ((ناجي)) موجود؟
أجابها الصوت: أنا ((ناجي)).. من معي؟
قالت له ممازحة: أين أنت يا رجل؟
قال وقد بدأ النوم يطير من عينيه: يا رجل! من حضرتك؟
سألته: ألا تعرفني؟! أنا ((هند)).. هل نسيتني؟!
قال لها: ((هند))! من ((هند))؟! أرجوك ليس لدي وقت للمعاكسات، مع السلامة..
قالت صارخة: لا.. لا.. انتظر، أنا ((هند)).. الأستاذ ((رأفت حسيب)).. مجلة ((السنبلة)) يا أستاذ..
شعر ناجي أن عينيه قد ازداد اتساعهما؛ حتى لتكادان تنفجران، قال لها: أهلا.. أهلا.. هل هناك جديد؟
قالت له: نعم.. يريدك الأستاذ أن تقابله غدا العاشرة صباحًا.
أخبرها ((ناجي)) بأنه سيكون هناك في الموعد، ثم شكرها، وأغلق الهاتف.
لم يستطع ((ناجي علام)) أن يكمل نومه في تلك الليلة من الفرحة، ولم ينم كذلك ((رأفت حسيب))، فقد كان يكمل الرواية التي بدأها مبهورا!
في الصباح كان ((ناجي)) في المجلة قبل موعده، طلب من السكرتيرة أن تستأذن له على الأستاذ ((رأفت))، خرجت السكرتيرة ثم أشارت له لكي يدخل، قام منتصبا، عدّل من هندامه، ثم دخل مبتسما: أهلا أستاذنا الكبير، لا تعلم سعادتي برؤيتك مرة أخرى...
نظر إليه ((رأفت حسيب)) كأنه لا يعرفه، ثم قال في رسمية واضحة: ذكِّرني باسمك إذا سمحت!
فقال له ((ناجي)): أنا ((ناجي)) يا سيدي.. ألا تذكرني؟!
قال له: نعم.. نعم، أهلا يا ((ناجي)).. تفضل، انتظر قليلا حتى أنتهي مما بين يدي.
انتظر ((ناجي)) في سكون، بينما راح هو يقلب في صفحات بين يديه.
بعد قليل سأله بينما ما زال يقلب في صفحاته: كيف حالك يا ((ناجي))؟ أرجو ألا تكون قد مللت من الانتظار.
قال ((ناجي)) مجاملا: أبدا.. أبدا يا أستاذ، بل أنا سعيد جدا بوجودي معك.
فجأة وبينما كان ((ناجي)) قد سرح بخياله قاطعه صوت الأستاذ قائلا: أنصت جيدا لما سأقوله لك يا ((ناجي))، أنت موهبة جيدة يا بني..
شعر ناجي أنه سيطير محلقا من بين يدي الأستاذ، تاركا إياه يحدث نفسه.
تابع الأستاذ وقد خلع نظارته فبدا أكثر وضوحا لـه: ولكن يا ((ناجي))..
في هذه المرة شعر ((ناجي)) كأن يدا قوية امتدت إليه، اجتذبته من علو شاهق، فأنزلته إلى الأرض، ثم أخذت تشق به طبقات الأرض شقا، حتى استقرت به في أسفل سافلين!
ولكن يا ((ناجي)) أنت تحتاج إلى صقل شديد لمهاراتك، أنت تحسن الطبخ يا بني، لكن ينقصك ضبط الملح والبهارات، تحتاج إلى مقبلات ومشهيات، أنت تفتقد ((النفس)) يا ((ناجي))!
أحس ((ناجي)) أنه واقف في مطبخ شديد الحرارة، تخيل الأستاذ ((رأفت)) بطرطور الطباخ، والمريلة التي يربطها حول وسطه، لو كان في موقف غير هذا لضحك ملء فيه!
أنت تحتاج يا ((ناجي)) إلى من يساعدك، وقد قررت أنا أن أساعدك.
شعر ((ناجي)) بفرحة مشوبة بالقلق.
ما رأيك أن تبدأ من غد في العمل هنا معي في المجلة، سوف أمنحك راتبًا كبيرًا، بالإضافة إلى مكافأة كبيرة عن كل عمل ننشره لك في المجلة، بعد أن أعيد صياغة تلك الأعمال بصورة مناسبة للنشر، وبالمقابل سوف تطبع تلك الأعمال تحت اسمي، مؤقتًا فقط، حتى يحين الوقت الذي تستطيع فيه الاعتماد على نفسك، سوف أمنحك فرصة عمرك؛ فماذا تقول يا ((ناجي))؟
حدق فيه ((ناجي)) ثم سأله مغضبًا: ماذا أقول في أي شيء بالضبط؟ في أن أعمل معك.. أم في أن تسرقني؟!
نظر إليه ((رأفت)) وقد اتسعت حدقتاه واحمر أنفه: أسرقك! ما هذه الألفاظ السوقية يا ولد؟! ألا تعرف مع من تتكلم؟!
هل تقف هنا في السوق؟!
قام ((ناجي)) من أمامه ثم قال مستهترا بغضبه الأجوف: سوق! يفتح الله يا أستاذ! يا أيها اللص المحترم!
ألقى عليه تلك القنبلة ثم خرج منفلتا، بينما وقف هو يرغي ويزبد: لص! انتظر يا ولد.. اطلبي الأمن فورًا يا ((هند))..
كان ((ناجي)) يسير في طريقه نحو بيته مقهورا، مر على القهوة التي اعتاد الجلوس فيها، فمال عليها، وجد الفيلسوف قاعدا هناك،
اتجه ناحيته جامد العينين، متصلب الجسد، حين رآه وقف مبتسمًا مستقبلا له، رفع ((ناجي)) قبضته وهوى بها على فكِّه! اندفع الرجل للوراء، وضع يده على فمه، ونظر إليه مندهشا، خرج ((ناجي)) بينما انقطع الصوت في القهوة ووقف الناس يشيعونه بنظراتهم متعجبين.
بعد شهور قليلة كانت هناك رواية تملأ المكتبات، وتتحدث عنها الأوساط الأدبية، كانت الرواية بعنوان ((اللص المحترم))، للكاتب المبدع ((رأفت حسيب))، بينما كان ((ناجي علام)) متقوقعا على ذاته، رابضا في حجرته المظلمة، يعاني نوبات الاكتئاب المزمن، غائبا عن الواقع!
واقرأ أيضا:
نعم / يومُ الفتحْ!! / نقش على لوح قصيدة مطرية: لا معذرة / ما ذنبي؟!! / ..صمود.. / الشبح القاتل! / أمةٌ عجب! / إذا الشعبُ.. / رثاءُ روح.. / شبه أسيرةِ العرب..