مدخل نفسي في تحليل عمل أدبي
لعل أهم أسباب النجاح الكبير والمفاجئ لرواية عمارة يعقوبيان للكاتب الطبيب علاء الأسواني هو ذلك الاقتصاد الشديد في الإبداع الدرامي فكل ما حدث من الراوي هو إدراك ذكى لدرامية الواقع التي تجاوزت الفن بمراحل لذلك لم يكن عليه سوى فك وإعادة تركيب الواقع وجذوره القريبة زمنيا بحيث يتخذ العمل شكلا روائيا بدلا من الشكل التاريخي.
ولعل السبب الثاني لاستبعاد الشكل التاريخي هو موت التاريخ نفسه الأمر الذي أصبح معه هذا الشكل بلا مبرر حيث انتهى البشر إلى آلات في نهاية الرواية وبقيت الكتابة حكرا على الفنان لا المؤرخ. وقبل أن يقضى الراوي على الإنسان في العمارة ساق كل المبررات التي تجعل القارئ يتعاطف معه ويساعده في جريمة الإبادة الجماعية لعمارة كاملة دون أن يهتز له جفن وفي الأحداث التي أخفاها الراوي أودع كل هذه المبررات وأنهى روايته برعب لا يصدق حيث انقرضت كل الكائنات المندهشة والغاضبة والتلقائية لتحل محلها آلات لا تتخذ من المواقف إلا ما تجده مربحا حتى لو كان الأمر يتعلق بالشرف والكرامة والوطن
(1) الشذوذ
حاتم رشيد في عمارة يعقوبيان شاذ جنسيا ويعمل صحفيا (رئيس تحرير)...يدير صحيفة نخبوية كانت تخاطب الفرنسيين المقيمين في مصر وحدهم حتى تولى رئاسة تحريرها فقام بتطوير هام جدا أدى إلى ارتفاع أرقام التوزيع بشكل كبير وهو ما اعتبر نجاحا كبيرا فقد قرر أن يرفق بالجريدة الفرنسية ملحقا باللغة العربية فأقبل عليها (نوعان من القراء) !
في حياته الشخصية (السرية)يرغب في الجنس المثلى كنتيجة غير مباشرة لطفولة غير سوية تركه خلالها الأب والأم لخادم وتفرغا لانشغالات أخرى فزرع فيه ذلك الخادم بذرة الشذوذ وكبرت معه وعشقها ثمة شذوذ من نوع مختلف تعرض له طه الشاذلي الشاب البسيط ابن البواب المتفوق دراسيا والذي تعرض أولا لاغتصاب حلمه في الالتحاق بكلية الشرطة ومن ثم انسحب إلى التطرف الديني ليثأر من الذين سرقوا حلمه لصالح آخرين يملكون مبالغ مالية تدفع رشوة فيلتحقون بكلية الشرطة، وساق التطرف طه الشاذلي إلى المعتقل وهناك اغتصب عشر مرات كانت كافية للتأكيد على شذوذ الطرف المغتصب أيضا/السلطة
من الصعب النظر إلى شذوذ حاتم رشيد باعتباره سلوكا فرديا نتج عن انحراف مزاجي لدى شخص فقط فثمة أطراف أخرى هي كونه صحفيا بكل ما ترمز إليه الصحافة في علاقتها مع السلطة ومع القارئ/الشعب وأيضا الأب "اللامنتمي" لمجتمعه، والذي كان أستاذا للقانون، ويعيش حياة باريسية كاملة (بكل ما يعنيه ذلك من تبنيه لمنظومة قيمية لا تعبأ كثيرا بالأخلاق وهي تلك التي ورثها الابن وسمحت بمرور السلوك الشاذ داخل نفسه دون رادع قيمي).
كان الدكتور حسن رشيد من أعلام القانون في مصر والعالم العربي وهو مثل طه حسين وعلى بدوي وزكي نجيب محمود وغيرهم، واحدا من مثقفي الأربعينات الكبار الذي أتموا دراستهم العليا في الغرب ليطبقوا ما تعلموه هناك في الجامعة المصرية، وبالنسبة لهؤلاء كان التقدم والغرب كلمتين بمعنى واحد تقريبا بكل ما يعني ذلك من سلوك إيجابي وسلبي كان لديهم جميعا تقديس للقيم الغربية العظيمة: الديمقراطية والحرية والعدل والعمل الجاد والمساواة وكان لديهم أيضا ذلك التجاهل لتراث الأمة وعاداتها وتقاليدها باعتبارها قيودا تشدنا إلى التخلف وواجبنا أن نتخلص منها حتى تتحقق النهضة.........
لا يذكر حاتم أنه رأى أباه الدكتور رشيد يصلي أو يصوم كان الغليون لا يفارق فمه والنبيذ الفرنسي دائما على مائدته، وأحدث الاسطوانات الصادرة في باريس تتردد في أنحاء البيت ..والفرنسية لغة التخاطب الغالبة .
وكان هذا الأب يتعامل مع ابنه على أنه (لعبة) أو (تحفة) ينظر إليها في أوقات فراغه القليلة، والطرف الأخر هو تلك الأم الفرنسية القادمة من أصل "منحط" لذلك لم تتورع عن خيانة زوجها بمعرفة ابنها الذي كانت تتركه مع السفرجي المغتصب "أدريس".
لدينا هنا إذن نموذج كامل يخرج عن كون الأمر شذوذا فرديا، فالصحافة التي تنتمي إلى أب (مستغرب براجماتي لا يهتم إلا بمصالحه) وتنتمي إلى أم متعالية على الأب رغم أصلها المنحط وخائنة ولا تنتمي للبلد الذي تعيش فيه (التقطها الأب من حانة).
ويتبع >>>>>>>>: الآلة والإنسان في عمارة يعقوبيان(2)
واقرأ أيضاً:
يا ويلكو من غير شور أبوكو نجم / تعديل المادة 76من دستور عمارة يعقوبيان