الآلة والإنسان في عمارة يعقوبيان(3)
فساد القيم
كارثة الفساد الأساسية حين يتحول إلى ظاهرة، ومن ثم يضرب في عمق القيم فيتحول إلى منظومة تعيد ولادة نفسها بنفسها، وتتحول قيم الفساد إلى قيم بديلة رغم نشأتها استثناء وفي ظل ضغوط قد تكون اقتصادية مثلا. والمشهد الأهم هنا، هو تلك الصورة التي أصبحت عليها العلاقة بين "بثينة السيد" ساكنة السطح الفقيرة بأخوتها ووالدها المتوفى، وبين طه الشاذلي ابن البواب الحالم بحياة مختلفة وزواج.
فبعد أن خاضت بثينة تجربة الحصول على المال من أجل إخوتها مضحية بجسدها "في حدود" وبعد أن استطاع "طلال" أن يستدرجها إلى المخزن فيستبيح جسدها مقابل 10 جنيهات في كل مرة، أصبحت تتخيل لديها خبرة في الحياة تفوق خبرة حبيبها طه، واتضح لها ذلك الأمل البسيط في حياة طبيعية على حقيقته حيث رأته حلما رومانسيا بلا معنى ولا أساس، وتملكتها الرغبة في السخرية من حبيبها والشجار معه.وهي محاولة –قد تكون- للتخلص من ذلك الجزء الطاهر الذي يذكرها بدنسها.
وامتدت تجربة بثينة إلى زكي الدسوقي في ظل خطة لانتزاع توقيعه على ورقة بيضاء لصالح "ملاك خلة" ليرثه من خلالها، وتحصل بثينة على خمسة آلاف جنيه!
أما "ملاك خلة" نفسه بطمعه ونظرته الاستعمارية لكل ما يحيط به، فقد قابل قيما مختلفا مع جيرانه الذين بادروه بالهجوم والضرب والشكاوى رغبة في الخلاص منه –بلا مناسبة تقريبا-وكأن الأمر عدوانية مستدمجة داخل السلوك من قبل ذلك المدير بمصلحة المجاري والمنقول رغم أنفه من المنصورة، وعلى السواق المخمور دائما بأردأ الأنواع.
وإذا كانت هذه القيم قد انتقلت بالجوار أو ابتدعت بالظروف والغرائز فإن كمال الفولي (الفاسد السياسي الاقتصادي) لم يكن يمارس أنشطته إلا مرافقا لابنه المحامي ياسر الفولي المتواطئ والوارث للقيم والمال معا، وهو ما حدث أيضا مع محمد عزام الذي كان يرافق ابنه بل ويكلفه بمهام ويورثه سلوكه المحكوم بقيم بديلة.
ولم تكن الزوجة السكندرية للحاج عزام بمعزل عن الأمر فقد كان قبولها بالزواج إيذانا بقيمة بديلة خاصة أنها في ظل هذه الشروط التي وضعها عزام تصبح "محظية" من العصور الوسطى أو "مومس" في إطار شرعي، وحتى في ظل هذا الوضع كانت تطمع فيما هو أكثر، ولم تترك نفسها للحمل إلا طمعا في مال "عزام" وليس في وضع أكثر إنسانية من كونها امرأة للجنس ساعتين يوميا مع عجوز متهالك.
إذن فمنظومة القيم في المجتمع على كافة المستويات تم الطرق عليها ووضعها تحت ضغوط ودرجات حرارة جعلتها ضعيفة وهشة لدرجة تحطيمها أو تشويهها أو إعادة تشكيلها ببساطة ومن ثم إحلال الجديد محل القديم بمنطق مرحلة جديدة وضمن الفساد الطلب المستقبلي عليه بتوريث قيمه ومعطياته والظروف التي يعتبر خلالها حماية للجميع من الجوع أو السجن أو الفقر!
تهافت كمال الفولي ابن الفقراء الحاد الذكاء الفلاح أيضا دفعه جوعه إلى النجاح والسلطة إلى القمة على جماجم الآخرين فضلا عن أطلال بيوتهم، أما "عزام" فماسح أحذية مازال الكثيرون يتذكرون جلوسه على الرصيف، ثم اختفائه إلى عالم الجريمة مستوردا من قيمه الهاوية إلى الظلام ما استعمله في سرية أحيانا وفي العلن أحيانا أخرى لتحقيق طموحا بلا حدود وهو لمنتمي إلى عالم سفلي لأقصى درجة ولنفس الفئة ينتمي "ملاك خلة".
أما القيم الأسرية للأرستقراطية المصرية القديمة فقد دمرت في عمقها، وتحولت العلاقة بين زكي الدسوقي وأخته دولت إلى حرب لا يحكمها سوى هدفها وهو السطو على ميراث الأخ الذي عاش بدوره بين الخمر والنساء فاقدا الهدف بعد أن حطمت الثورة حياته و حياة أبيه، وبقى تقريبا بلا هدف ولا قيمة سوى لأهل الشارع الذي يستفتونه في أمور الفراش.
(4) المتحولون
ثمة علاقات لا يمكن النقاش حول أنماطها في الرواية، ومنها علاقة زكي الدسوقي بخادمه "أبسخرون" فهي أشبه بعلاقة سيد بعبده، وبالتالي فان استيعاب الخادم لغضب سيده وعدم قدرته على الرد عليه لا يمكن إدراجه تحت بند حسابات المصلحة والأضرار الناتجة عن الرد على الإهانة، ورغم ذلك تبقى العلاقة آلية بشكل يرقى بها إلى مستوى الإنساني في إطار "علاقة طبقية" خاصة أن أبسخرون كان يفهم جيدا أسباب غضب سيده والتي لا تتعلق به في أغلب الأحيان ولكنها تفريغ لغضب آخر قادم من خارج المكتب (من هنا لم يغضب أبسخرون عندما أخذ البك يعنفه بلا سبب لكنه هز رأسه بطريقة من يتفهم الأمر)
وبالمنطق نفسه يمكن تفسير ردود فعل طه الشاذلي في المرحلة الأولى من حياته فهو ابن البواب وبالتالي ينتمي لطبقة أبسخرون والاختلاف هنا أن طه ابن البواب وليس البواب نفسه وهو متفوق دراسيا (بما يعنيه ذلك من إمكانية للحراك الطبقي لأعلى) ولديه طموح وحلم بالانتماء إلى طبقة أخرى يتحول فيها إلى شخص محترم
هذا الطموح وذلك التفوق الدراسي هما السبب المباشر في الموقف الذي اتخذه سكان العمارة(البهوات)من هذا الشاب باعتباره يطمح للتساوي معهم وهو ما دفعهم لتوجيه الإهانات له في كل مناسبة تسمح بذلك لكن طه الذي تسلح بنموذج فكرى ديني مكنه من استيعاب هذه الإهانات وان لم يبدى رضاه عنها(كان يقابل ثورتهم بصمت وإطراقة و شبه ابتسامة وكان وجهه الأسمر الوسيم عندئذ يعطى الانطباع بأنه لا يوافق على ما يوجه إليه، أما بثينة فينقسم تاريخ الغضب ورد الفعل لديها إلى مرحلتين الأولى هي تلك التي عاشت خلالها (كإنسانة) تغضب لكرامتها وشرفها والثانية هي تلك التي تحسب خلالها ردود أفعالها وما ستكسبه منها وما ستخسره!
(تركت بثينة كل أعمالها السابقة لنفس السبب بعد أن تكررت الحكاية عندما يصر الرجل الكبير على أن يقبلها عنوة أو يلتصق بها أو يشرع في فتح سرواله ليضعها أمام الأمر الواقع فتهدده بالصراخ والفضيحة ليتوقف ساخرا) ....... وينتهي عملها في المكان
ويتبع >>>>>>>>: الآلة والإنسان في عمارة يعقوبيان(5)
واقرأ أيضاً:
يا ويلكو من غير شور أبوكو نجم / تعديل المادة 76من دستور عمارة يعقوبيان / عمارة يعقوبيان.. بصقة على الذات