خفضت وجهها في خضوع، رفعه بيده، تمعَّن في عينيها، تترقرق فيهما دمعتان صافيتان توشكان على السقوط، يبرق فيهما شعاع لامع أخَّاذ، سقطتا مختلطتين بذرات الكحل التي ملأت به عينيها، مسح وجنتها بظاهر أصابعه بلطف، كم هي رقيقة! كراحة وليد قد فارق رطوبة الرحم لتوِّه، أطلق يده يتحسس شعرها الأسود الحريري المسترسل، أحست بقشعريرة تخترق جسدها، لذة غريبة، ضمَّها إلى صدره، ارتاحت بذقنها على كتفه، قرَّب شفتيه من أذنها وهمس إليها: صدقيني يا جميلتي، إنها ليست سوى أيام معدودة.
فاجأها بخبر سفره، كانت شديدة التعلق به، شأن كل محب بحبيبه، وزيادة أنه يمثل كل شيء بالنسبة لها، فليس لها غيره في تلك الحياة القاسية، منبتَّة هي من جميع الصلات؛ لا أب ولا أم، ولا أخ ولا أخت، ولا صديقة، فكَّرت فيما ستفعله هي وابنهما الصغير بدونه، غمرها القلق، أحست بوخز في صدرها، وانكتم حلقها كأنما التفت عليه قبضة صُلبة! ازدادت تشبثا به، حاولت إبعاد فكرة فراقه عن ذهنها؛ لعلها تستطيع التقاط أنفاسها الطريدة.. لم تفلح.
همس إليها مرة أخرى وما يزال يعبث بيده في شعرها: صدقيني.. إنها أيام معدودة، ستمر سريعًا، أسرع مما تظنين، سأكون معك يوميًّا على الهاتف، صدقيني.. لن تفتقداني طويلاً.
نطقت بعد صمت طويل، تنتفض كأنها محمومة، ترتعد الكلمات بين شفتيها: ألم يكن هناك غيرك لتلك المهمة؟! أليس في الشركة سواك؟!
أجابها بعد أن رفع وجهها من على كتفه وأمسكه بإحكام بين يديه: لا يا صغيرتي، هناك غيري كثيرون، ولكنك بالطبع تعلمين كفاءة زوجك ومهارته العالية؛ لهذا أرسلوني من بين عشرات المهندسين بالشركة، هل هذا شيء يحزنك؟!
نزعت وجهها من بين يديه المتشبثتين بطريقة تنم عن عدم اقتناعها، ابتسم لها ثم سحبها من يدها، أقامها على قدميها ثم احتضنها بقوة: هيا دعينا لا نفسد تلك الليلة اليتيمة في المحاورات والجدال، ما رأيك في أمسية شاعرية من أمسياتك الرائعة؟! ستكون ذكرى جميلة لي قبل أن أغادر!
نظرت إليه في عتاب واستغراب، زمَّت شفتيها، داعبها، تحولت نظرتها الحزينة إلى دلال واستعطاف، محاولة أخيرة يائسة لإثنائه، لعله يلين لها. لم تفلح، ازداد هو تصلبًا، قال لها وهو يجرُّها من يدها، بينما تتثاقل هي وتحتكُّ بقدميها في الأرض واعية: هيا يا حبيبتي، هيا لا تضيعي الوقت. مشت وراءه مستسلمة.
في الصباح اصطنعت النوم وحرصت على ألا يقلقه شيء؛ لعله يظل غارقًا في نومه، فيتأخر عن موعد طائرته! قبل الموعد الذي اعتاد الاستيقاظ فيه قعد منتصبًا على سريره، تلفَّت حوله، رفعت نظرها إليه ثم نهضت من نومتها قاعدة بجواره، سألها قلقًا: كم الساعة؟ أجابته دون اهتمام متضايقة من فشل خطتها: ما زال أمامك الوقت طويلاً.. هل أنت متعجِّل لهذه الدرجة؟! تبدَّد قلقه، انتقل في سرعة فجلس أمامها، أمسك بذقنها وقال ممازحًا: لقد سألتك: كم الساعة؟ هل سؤالي مغضب لتلك الدرجة؟! نزعت ذقنها من بين يده، نظرت إليه بنصف عينها في ضيق، ولم تُجب.
كان يعلم الإجابة!
على مائدة الإفطار لم يتوقف عن الحكي، يحاول تسليتها، كانت هي تجيبه باقتضاب، يبدو على وجهها التفكير، لم تنفعل معه كعادتهما حينما يتحدثان، شعر بالملل فتوقف عن الكلام.
بدأ في الاطمئنان على استعداداته للسفر، يستعرض ورقة في يده بحاجياته، يخرج من غرفة فيدخل أخرى، تخرج وراءه وتدخل بلا اهتمام، تشعر أنها في حلم سيئ، تود لو أنها تستيقظ منه فتراه نائمًا إلى جوارها في السرير.
دخل إلى غرفة ابنه «عمر» ذي السنوات الثلاث، نظر إليه في سريره، قبَّله برفق خشية أن يوقظه، خرج إلى الصالة، حمل حقيبته وتوجه ناحية الباب، سارت خلفه وقد بدأت الدموع تنهمر من عينيها في صمت، فتح الباب، نظر إليها، مسح دموعها بيديه، قال متوسلاً: أرجوك.. لا أريد أن تكون تلك الدموع هي آخر ما أرى، احتضنها وقبلها في جبينها، قال لها هامسًا: أحبُّك. أجابته بصوت حزين مكتوم دون أن ترفع وجهها: وأنا.. استدارت عابسة، أدار جسدها إليه مرة أخرى، قال لها: ابتسمي أرجوك، أريد أن أرى ابتسامتك الحلوة قبل أن أغادر.
ابتسمت ابتسامة باهتة لترضيه، لم تحسن هي أفضل من تلك الابتسامة، ولم يطمع هو في أفضل منها، رآها خاتمة مقبولة، ألقى عليها السلام، وسحب الباب خلفه في هدوء.
فتحت الباب، تنظر إليه مارًّا عبر حديقة بيتهما، يغادر البوابة، ويختفي عن ناظريها.
أغلقت الباب، أسندت ظهرها إليه، بكت بحرقة وبصوت عال، كأنها صرح ظل أمدًا يبدي صلابته للدهر، ثم تهاوى في غمضة واحدة. شعرت أن كل شيء قد تغير للتو، بهتت الألوان وانطمست الملامح، كانت الأشياء هي هي، لكنها نفسها الحزينة؛ صبغت الأشياء من حولها بما فيها من الكآبة، فذوت الأشياء وبهتت وغرقت في السواد!
بعد أن أفاقت دخلت إلى حيث يرقد صغيرها، الكائن الوحيد الذي يشعرها بأن حياتها ما زالت ذات قيمة، كان راقدًا في طمأنينة، لو أن الملائكة تنام لما كان شيء أكثر شبهًا بها في نومها منه!! ابتسمت.. ليس له أدنى شأن بما يحدث، نظرت إليه في أسى، قبَّلته ثم بكت مرة أخرى، اتجهت نحو المطبخ، حاولت أن تخرج لوعتها في شيء.
في المطار ملأ أذنيه صوت المذيعة الرخيم مترددًا في جنبات الصالة: السادة ركاب الطائرة المتجهة إلى ألمانيا، رحلة رقم (762)، تقلع الطائرة من مطار القاهرة في السابعة والنصف صباحًا، وتهبط في مطار ميونيخ في الواحدة والنصف ظهرًا. نظر في ساعته، اقترب موعد الإقلاع، اتجه إلى الطائرة شاعرًا بخفة غريبة في جسده، ركب الحافلة التي تقلُّه إلى حيث يربض ذلك الطائر الضخم، يصعد إلى الطائرة، يشير المسافرون إلى مودِّعيهم، لا يشير إليه أحد، لم يشغله ذلك إلا بقدر ما صعد السلم، حين عبر الباب نسي كل ما وراءه، شغلته فكرة واحدة.. مستقبله القادم.
كان يترقب مثل تلك الفرصة منذ أمد، لم يكن ليدعها تفوته مهما كانت التضحيات، ربما كانت السبيل الوحيد الباقي لإثبات قدراته؛ ليعيش بالطريقة التي يريدها هو لا التي يفرضها عليه الواقع من حوله، لم يستطع أن يصارح زوجته بأنه ينوي البقاء إن أمكنه، تذكر حال زوجته لو كانت علمت بما يجول في خلده، انتبه على صوت رقيق يطمئن عليه، كانت المضيفة تعرض عليه خدماتها، شكرها وكرَّ مسرعًا عائدًا نحو أفكاره.
في البيت رنَّ جرس الهاتف، هرولت نحوه، لا بد أنه هو يتصل بها من المطار، تمنت لو أنه يكون قد رجع عن تصميمه، رفعت السماعة، أرهفت سمعها: الرقم خطأ.. أجابت في حنق ثم أغلقت الخط!
مرت الأيام الأولى بطيئة متثاقلة، كان يتصل بها يوميًّا، يطمئن عليها، يسألها عن رجلها الصغير، يخبرها بشوقه إليها، تتوعده في دلال إن زاغ بعينه، يقهقه منتشيًا لغيرتها عليه: من تكونين له لا ينظر لغيرك أبدًا يا جميلتي.. تشعرها كلماته بالرضا والهدوء!
تتابعت الأيام، كان عدد مرات اتصاله يقل تدريجيًّا، بدأ يعتذر بضغط العمل، الرغبة في انتهاز كل لحظة في تلك الأيام القليلة.. يضطرها للصمت، أخبرها بأنه أرسل مع أحد أصدقائه الذين قابلهم هناك بعض الهدايا لها وللصغير، وأنه سيتصل بها، ردت بأنه لم يكن هناك داعٍ لتلك التكاليف.
بعد يومين رنَّ جرس الهاتف، أجابت بصوتها الناعم الذي يوحي لسامعه بأنها ما زالت تغالب النوم: من؟ جاءها صوت جريء: مرحبًا سيدتي، أنا «جلال»؛ صديق «حسن»، أرسل معي بعض الأشياء الخاصة بك، فمتى تمنحيني شرف الزيارة؟! لم تكن تنوي مقابلته في البيت، لكنه قطع عليها الطريق، ودت لو تستطيع أن تبلغه برغبتها في أن يتقابلا في مكان عام، ترددت، خشية أن يفهم تصرفها على أنه سوء تقدير منها له، أجابته: الشرف لنا، في أي وقت تشاء. حددا موعدًا، شكرها وأغلق الخط. نامت في قلق تلك الليلة؛ فلم تكن لها أية علاقات، ولم تعتد على مقابلة أحد وحدها.
في الموعد رنَّ جرس البيت، كانت متهيئة منذ فترة، فتحت الباب بحذر، وقعت عينها في عينه، كانت له نظرة جريئة، علمت أنه صاحب الصوت! ترددت نظراتها، استفهمت في خجل: الأستاذ «جلال»؟ أجابها بثقة زائدة لا تناسب لقاء لأول مرة: بالضبط! جلس في حجرة الضيوف يتلفت حوله، قدِمت في إحدى يديها صينية تحمل عليها كوب عصير، ممسكة بالأخرى ابنها الصغير «عمر»، قام مسرعًا، تناول الصينية من يدها، قال في لياقة لا تبدو من طبعه: لماذا أتعبت نفسك يا سيدتي؟ لم يكن لازمًا؟ ابتسمت ابتسامة آلية، دفعت بابنها الملتصق بجسدها: سلِّم على عمك يا «عمر».. تردَّد الصغير للحظة، نظر إليه مدقِّقًا، وللصغار في الوجوه فراسة، فتح له «جلال» ذراعيه، لم يجد بُدًّا من الاتجاه إليه، احتضنه «جلال» وقبَّله، خلَّص الصغير نفسه وانفلت مسرعًا، عاد ملتصقًا بجسدها.
كان يبتسم بين الحين والآخر ابتسامة الذئب وجد فريسة ولا راعي لها سوى جرو صغير، لم يُحسِن النباح بعد! لا ينقصه إذن سوى الحيلة والتصنُّع.. قال بجرأة لا يحسده عليها حاسد: كم هو طفل جميل رقيق! اسمحي لي يا سيدتي، إن ملامحه لا تشبه ملامح «حمدي» كثيرًا، ولا أظنُّه ورث ذلك الجمال وتلك الرِّقة إلا عن والدته!
تبسمت بطريقة لم تخفِ قلقها من كلماته، نظرات عينيه اللاهثتين في تقصِّي زوايا جسدها تؤازر كلماته، فتنطق بأنه يقصد مغازلتها، حاولت أن تنجو منه فقالت بصوت مرتعش: تفضل العصير.. انتقل الاضطراب من الأم إلى وليدها، يشعر الطفل بالضيق وإن لا يدري طبيعة الكلام الذي يردده «عمه»، كما أخبرته والدته!
كان «جلال» خبيرًا بأصناف النساء، تتملكه شهوة اللحم، يحب التنويع لكنه لا يرغب في تحمل مؤنته، فيعيش متطفلاً على موائد الغير! كان يعجبه بشدة ذلك النوع المتردد الخجول، يعلم أن الطريق إليه أقل وعورة، وأن عواقبه أقل ضررًا! رأى بخبرته أن ينهي تلك الجولة، فالمرحلة التي وصل إليها مناسبة بالنظر للقاء أول، أخَّر الخطوات التالية للقاء آخر؛ حتى لا تفسد منه الطبخة، كما كان يردد دائمًا، استغل الحال التي هي فيها فقال متصنِّعًا: أظن أن «حمدي» ينوي التأخر قليلاً، فاسمحي لي بالاطمئنان عليكما بين فترة وأخرى، فقد أوصاني بكما «حمدي» كثيرًا ! أجابته هي بسرعة: نشكرك على اهتمامك يا أستاذ «جلال»، لا نريد أن نتعبك!
كانت تريد أن تعلِمه أنها ترفض ما ينويه من التردد عليها، ولكن بأسلوب مقنَّع لا يفضح قلقها ولا يكون جارحًا، فإنها لم تتعوَّد على الفجاجة. أجاب هو بإصرار: لا.. لا، ليس هناك تعب، سأكون سعيدًا برؤيتك.. أقصد برؤيتكما! كان يقصد أن يقول تلك الجملة الأخيرة بتلك الصورة، ليختبر ردة فعلها. ازداد وجهها احمرارًا، وصارت أشد ارتباكًا، ودَّت لو أنه خرج الآن، تشعر أنها على حافة شيء توشك على السقوط من فوقه، لا تدري ماهيته؛ هل هو قلق؟ غضب؟ اشمئزاز؟ خجل؟ يضايقها أكثر ألا تدري ما هو، بمجرد خروجه شعرت أن ثقلاً ثقيلاً قد انزاح عن صدرها !
في مساء اليوم التالي رنَّ جرس الهاتف، أسرعت إليه لعله يكون زوجها، رفعت السماعة، جاءها صوته منخفضًا: كيف حالك؟ عرفت أنه هو من أول وهلة، وأيقنت أنها إذا خسرت تلك الجولة فلن يجدي معه بعد ذلك شيء.. سألت الصوت باستعلاء: من أنت؟! تابع بأسلوبه اللبق: هل نسيت صوتي بهذه السرعة؟! ضربات قلبها تتتابع في قوة، صرخت في وجهه بصوت متهدِّج لا يُحسن الصراخ: إما أن تقول من أنت.. وإما أن أغلق الخط !
رابه أمرها، لم يدر وهو الخبير؛ أصادقة هي في عدم معرفتها، أم أنها تتهرب منه، قال في سرعة: لا.. لا، لا تغلقي، أنا «جلال» يا سيدتي. قالت في لا مبالاة وكأنها مستغربة: «جلال»؟! من «جلال»؟! أجاب وقد زاده برودها حيرة ومنحه تصميمًا: من «جلال»؟ «جلال» يا سيدتي؛ صديق زوجك «حمدي».. قالت وكأنها وقفت على حقيقته لتوِّها: نعم.. نعم، آسفة يا أستاذ «جلال». تنفس الصُّعداء.. قد حانت الجولة التالية.. قال بأسلوب أشعرها به أنه يلومها: هل من المعقول أنك نسيت صوتي بتلك السرعة، لقد كان لقاؤنا... قاطعته في انفعال لم يحسب هو حسابه: سيد «جلال».. أشكرك جدًّا على الخدمة التي أسديتها لنا، لقد كنت لطيفًا جدًّا معنا، وأشكرك على شعورك ناحيتنا، ولكن إذا سمحت.. إن زوجي غائب؛ ولذلك فلا داعي أبدًا لتكرار الاتصال مرة أخرى ! ظل ينصت لها حتى انتصاف كلامها مبتسمًا، شعر -رغم حدَّة نبرتها- أنها تسهِّل عليه مهمته، فلما ألقت على مسمعه كلماتها الأخيرة شعر بالخجل والغضب لم يجابَه بمثل ذلك العنف من قبل، حاول مرة أخرى لعلها تلين: ولكني...، قاطعته مرة أخرى: أستاذ «جلال»، إما أن تغلق أنت.. وإما أن أغلق أنا. أغلق هو.. يبتلع ريقه في ذهول.
وضعت السماعة وهي تكاد تسقط من يدها، كانت يداها ترتعشان، وقلبها يخفق، شعرت ببرودة تخترق عظامها، مسحت العرق المتناثر على وجهها، اتجهت إلى حيث يرقد طفلها، احتضنته بقوة، كأنما تستمد منه الدفء لتستعيد دماءها الهاربة، شعرت برغبة تخنقها في البكاء، لم تدر سببًا واضحًا.. ربما الشعور بالإهانة.. الإحساس بالوحدة.. الرغبة في الفضفضة، لا تدري، ذهبت في نوم عميق.
في الصباح أحست بشعور جديد، الفرحة بالانتصار ربما؛ تشعر أنها تخلصت من تهمة كبيرة كادت تلتصق بها، جلست في حديقتها أمام البيت ترتشف شايها، شردت بخيالها مفكِّرة فيما يستقبل من الأيام، انتبهت على صوت فرملة شديدة، نظرت حولها، لم تر «عُمَرَها»، ألقت كوب الشاي وخرجت تهرول، رأت الناس يلتفون حول شيء، كاد قلبها ينخلع، نظرت إلى الجسد الساقط، لم يكن هو، ارتد إليها قلبها !
دخلت إلى البيت مسرعة، نادت: «عمر».. «عمر»، لم تسمع إجابة، عاودها القلق، أخذت تفتِّح الغرف واحدة تلو الأخرى، تتلفت في عجل، وجدته هناك ساقطًا على أرضية إحدى الغرف، جرت نحوه، صرخت: «عمر».. «عمر»، لم يجبها. حملته بين ذراعيها الواهنتين، يكاد يسقط منها، شحذتها الغريزة، خرجت نحو الشارع، أوقفت سيارة، صرخت في السائق: المستشفى بسرعة..
في الاستقبال طمأنها الطبيب الشاب، صدمة كهربائية خفيفة، تذكرت ذلك المقبس العاري، نسيت عزله أكثر من مرة، لامها الطبيب على تركها له بعيدًا عن عينيها، أقسمت أنها لحظات، صدَّقها، عاملها بلطف، لم يقيد ضدها محضرًا بالواقعة، شكرته في خجل، طلب منها أن تكثر له من السوائل، ووصف لها دواء يسرع بتعافيه.
سألها: هل تسمحين لي بسؤال؟
قالت دون تردد: تفضل.
قال لها: أين زوجك؟
ترددت قليلاً، أخبرها بأنه ليس من الضروري أن تجيب إذا لم ترغب.
قالت له: أبدًا.. ليس هناك ما أخفيه؛ إنه مسافر.
لعنت ذلك السؤال الذي يبدو أنه من الآن فصاعدًا سيطاردها في كل موضع.
عرض عليها أن يوصلها بسيارته، شكرته على لطفه، ازداد تصميمًا، نزلت على رغبته مضطرة، حمل الطفل إلى سيارته، تحادثا أثناء الطريق، لفت انتباهها أسلوبه المهذَّب، تذكرت صديق زوجها «جلال»، داهمتها القشعريرة والضيق مرة أخرى؛ خشيت أن تخوض نفس التجربة.
أدخل الطفل، وضعه بلطف في سريره، واقفة هي على باب الحجرة تنظر، خرج نحوها، تقابلت عيناهما، خفض عينه، أعطاها رقم هاتفه لعلها تحتاجه في شيء، استأذن في أدب ثم انفلت خارجًا، شعرت بالفرق الشاسع بينه وبين الآخر!
جلست بجوار طفلها في حزن، عاودها الشعور بالوحدة والضعف، تذكرت زوجها الغائب، نظرت إلى صورة له بالحائط، ساءلته فيها: متى ستعود؟! وضعت وجهها بين كفيها وسيطرت عليها الأفكار.
أصابها النعاس من الإرهاق، تسمَّعت.. هناك حسٌّ خارج الغرفة، وقع أقدام بطيئة تتسلل، تقترب من الغرفة، اجتاحتها رهبة، تيبست في مكانها، لم تستطع رفع وجهها، تتسلل الأقدام ناحيتها، يتوقف وقعها، تشعر أن نبضها قد توقف معها، تستشعر ظلاًّ يخيم عليها، ترفع وجهها في بطء وقد جفَّ حلقها..
كان هو.. بشحمه ولحمه، واقفًا فوق رأسها مبتسمًا، صرخت صرخة مكتومة، قامت إليه، ضربته في صدره، احتضنته وبكت، احتضنها بقوة.
بعد أن أفاقا سألته: لماذا تأخرت؟
ابتسم لها، قال في رنَّة حزينة: أردت أمرًا وقضى الله أمرًا آخر.
قالت مرتاحة: الحمد لله.
جاوبها وقد شرد بناظريه: نعم.. الحمد لله.
14 أكتوبر 2005
واقرأ أيضا:
نعم / يومُ الفتحْ!! / نقش على لوح قصيدة مطرية: لا معذرة / ما ذنبي؟!! / اللص المحترم / الشبح القاتل! / أمةٌ عجب! / إذا الشعبُ.. / رثاءُ روح.. / شبه أسيرةِ العرب..