القارئ للقصيدة أدناه يلاحظ قدرة شعرية فائقة لـ((نازك الملائكة))، التي تكتب أجمل ملحمة حديثة عرفتها يدٌ عراقيَّة؛ إذ إن التأريخ لن يذكر ((جلجامش)) فحسب، بل سيذكر آلاف الملاحم العجيبة التي وُلدت كما السنابل بأرض الجنون الممتع! فبتلك الزاوية يهمس ((السيَّاب)) بين غابات النخيل ((مطر.. مطر.. مطر))، بينما تنزوي ((الملائكة)) بخجل بين سطوح بغداد لتكتب ملحمة الأشجار والسماء المثقلة بالطيور المهاجرة.
وهناك.. في سهول ((بابل)) يقف ملك ((أورك)) (والتي اشتُق منها اسم ((أوروك)) التي هي ((عراق))) العظيمة بملحمته الإنسانية، التي أسست أول قصيدة شعرية حديثة، والتي نبهت العالم أن الإبداع لا يمكن أن يقف بوجهه سوى منغصاته!
ولا عجب.. فإذا كانت الشخصية العراقية هي ذاتها عندما خطَّ شعراء ((بابل)) ملاحمهم قبل ستة آلاف عام، وإذا كانت التقاليد البابلية والآشورية والسومرية موجودة بيومنا هذا في بيوتنا، وإذا كانت اللغة البابليَّة موجودة ليومنا على بعض من لهجتنا وكثير من كلماتنا، وإذا كانت ((التراجيديا)) الشعرية لم تتغير قِيد أُنملة منذ أن وُضع أول مسرح بـ((سومر)).. فلا عجب ألاَّ يتغير جنون الإبداع أيضًا!
شجرة القمر!
1
على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ
وغلَّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَر ْ
وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ
وعند ينابيعها تستحمُّ نجومُ السَّمَاءْ
هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ
إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ
ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ
ويملأ أفكارَهُ من شَذَى الزنبقِ المُنْفعلْ
وكان غلامًا غريبَ الرؤى غامض الذكرياتْ
وكان يطارد عطر الرُّبَى وصَدَى الأغنياتْ
وكانت خلاصةُ أحلامِهِ أن يصيدَ القَمَرْ
ويودعَهُ قفصًا من ندًى وشذًى وزَهَرْ
وكان يقضِّي المساءَ يحوك الشباكَ ويَحْلُمْ
يوسّدُهُ عُشُبٌ باردٌ عند نبع مغمغِمْ
ويسْهَرُ يرمُقُ وادي المساء ووجْهَ القَمَرْ
وقد عكستْهُ مياهُ غديرٍ بَرُودٍ عَطِرْ
وما كان يغفو إذا لم يَمُرّ الضياءُ اللذيذ
على شَفَتيهِ ويسقيهِ إغماءَ كأسِ نبيذْ
وما كان يشربُ من منبع الماء إلاّ إذا
أراق الهلالُ عليه غلائلَ سكرى الشَّذَى
2
وفي ذات صيفٍ تسلَّل هذا الغلامُ مساءْ
خفيفَ الخُطَى.. عاريَ القدمين.. مَشُوقَ الدماءْ
وسار وئيدًا وئيدًا إلى قمَّةٍ شاهقهْ
وخبّأ هيكلَهُ في حِمَى دَوْحةٍ باسقهْ
وراح يعُدُّ الثواني بقلبٍ يدُقّ يدُقّ
وينتظرُ القَمَرَ العذْبَ والليلُ نشوانُ طَلْقُ
وفي لحظةٍ رَفَعَ الشَّرْقُ أستارَهُ المُعْتمهْ
ولاحَ الجبينُ اللجينيُِّ والفتنةُ المُلْهِمهْ
وكان قريبًا ولم يَرَ صيّادَنا الباسما
على التلِّ فانسابَ يذرَعُ أفْقَ الدُّجَى حالما
وطوّقَهُ العاشقُ الجبليُّ ومسّ جبينَهْ
وقبَّلَ أهْدابَهُ الذائباتِ شذًى وليونهْ
وعاد به ببحارِ الضِّياءِ بكأس النعومهْ
بتلك الشفاهِ التي شَغَلتْ كل رؤيا قديمهْ
وأخفاه في كُوخه لا يَمَلُّ إليه النَّظَرْ
أذلكَ حُلْمٌ؟ وكيف وقد صاد.. صادَ القَمرْ؟!
وأرقَدَه في مهادٍ عبيريّةِ الرّوْنقِ
وكلّلَهُ بالأغاني.. بعيْنيهِ.. بالزّنْبقِ
3
وفي القريةِ الجبليّةِ في حَلَقات السّمَرْ
وفي كلِّ حقلٍ تَنَادَى المنادون: ((أين القمر))؟!
((وأين أشعّتُهُ المُخْمليّةُ في مَرْجنا))؟
((وأين غلائلُهُ السُّحُبيّة في حقلنا))؟
ونادت صبايا الجبالِ جميعًا: ((نُريدُ القَمَرْ))!
فردَّدتِ القُنَنُ السامقاتُ: ((نُريدُ القَمَرْ))!
مُسامِرُنا الذهبيُّ وساقي صدى زَهْرنا
وساكبُ عطر السنابِل والورد في شَعْرنا
مُقَبِّلُ كلَّ الجِراح وساقي شفاه الورودْ
وناقلُ شوقِ الفَرَاشِ لينبوعِ ماءٍ بَرودْ
يضيءُ الطريقَ إلى كلِّ حُلْمٍ بعيدِ القَرَارْ
ويُنْمي جدائلَنا ويُريقُ عليها النُّضَارْ
ومن أينَ تبرُدُ أهدابُنا إن فَقَدْنا القَمَر؟
ومَنْ ذا يرقِّقُ ألحاننا؟ مَن يغذِّي السّمَرْ؟
ولحنُ الرعاةِ تردَّدَ في وحشةٍ مضنيهْ
فضجَّتْ برَجْعِ النشيدِ العرائشُ والأوديهْ
وثاروا وساروا إلى حيثُ يسكُنُ ذاكَ الغُلامْ
ودقُّوا على البابِ في ثورةٍ ولَظًى واضطرامْ
وجُنُّوا جُنُونًا ولم يَبْقَ فوق المَرَاقي حَجَرْ
ولا صخرةٌ لم يُعيدا الصُّرَاخَ: ((نُريدُ القَمَرْ))!!
وطاف الصّدَى بجناحَيْهِ حول الجبالِ وطارْ
إلى عَرَباتِ النجومِ وحيثُ ينامُ النّهَارْ
وأشرَبَ من نارِهِ كلَّ كأسٍ لزهرةِ فُلِّ
وأيقَظَ كلَّ عبيرٍ غريبٍ وقَطْرةِ طلِّ
وجَمَّعَ مِن سَكَراتِ الطبيعةِ صوتَ احتجاجْ
ترددَ عند عريش الغلامِ وراء السياجْ
وهزَّ السكونَ وصاحَ: ((لماذا سَرَقْت القَمَرْ))؟
فجُنَّ المَسَاءُ ونادى: ((وأينَ خَبَأْتَ القَمَرْ))؟
ويتبع >>>>>>>>: شجرة القمر !2
واقرأ أيضا:
مازلتُ أذكركِ / مذكرات العراقي الشريد: أنا و ليلى / كفرتُ / إلى من تعلم... / الثاني من ماي.. عيد ميلادها / كراهية / عندما تتحطم الأحلام / تتهاوى أوراقي