شجرة القمر!1
القارئ للقصيدة أدناه يلاحظ قدرة شعرية فائقة لـ((نازك الملائكة))، التي تكتب أجمل ملحمة حديثة عرفتها يدٌ عراقيَّة؛ إذ إن التأريخ لن يذكر ((جلجامش)) فحسب، بل سيذكر آلاف الملاحم العجيبة التي وُلدت كما السنابل بأرض الجنون الممتع! فبتلك الزاوية يهمس ((السيَّاب)) بين غابات النخيل ((مطر.. مطر.. مطر))، بينما تنزوي ((الملائكة)) بخجل بين سطوح بغداد لتكتب ملحمة الأشجار والسماء المثقلة بالطيور المهاجرة.
وهناك.. في سهول ((بابل)) يقف ملك ((أورك)) (والتي اشتُق منها اسم ((أوروك)) التي هي ((عراق))) العظيمة بملحمته الإنسانية، التي أسست أول قصيدة شعرية حديثة، والتي نبهت العالم أن الإبداع لا يمكن أن يقف بوجهه سوى منغصاته!
ولا عجب.. فإذا كانت الشخصية العراقية هي ذاتها عندما خطَّ شعراء ((بابل)) ملاحمهم قبل ستة آلاف عام، وإذا كانت التقاليد البابلية والآشورية والسومرية موجودة بيومنا هذا في بيوتنا، وإذا كانت اللغة البابليَّة موجودة ليومنا على بعض من لهجتنا وكثير من كلماتنا، وإذا كانت ((التراجيديا)) الشعرية لم تتغير قِيد أُنملة منذ أن وُضع أول مسرح بـ((سومر)).. فلا عجب ألاَّ يتغير جنون الإبداع أيضًا!
شجرة القمر !
وفي الكوخِ كان الغلامُ يضُمُّ الأسيرَ الضحوكْ
ويُمْطرُهُ بالدموع ويَصْرُخُ: ((لن يأخذوك))!!
وكان هُتَافُ الرُّعاةِ يشُقُّ إليهِ السكونْ
فيسقُطُ من روحه في هُوًى من أسًى وجنونْ
وراح يغنِّي لملهِمه في جَوًى وانْفعالْ
ويخلطُ بالدَّمْع والملح ترنيمَهُ للجمالْ
ولكنَّ صوتَ الجماهيرِ زادَ جُنونًا وثورهْ
وعاد يقلِّبُ حُلْمَ الغلامِ على حدِّ شفرهْ
ويهبطُ في سَمْعه كالرّصاص ثقيلَ المرورْ
ويهدمُ ما شيَّدتْهُ خيالاتُهُ من قصور
وأين سيهرُبُ؟! أين يخبِّئ هذا الجبينْ؟!
ويحميهِ من سَوْرة الشَّوْقِ في أعين الصائدين؟!
وفي أيّ شيء يلفّ أشعَّتَهُ يا سَمَاءْ
وأضواؤه تتحدَّى المخابئَ في كبرياءْ؟!
ومرَّتْ دقائقُ منفعِلاتٌ وقلبُ الغُلامْ
تمزِّقُهُ مُدْيةُ الشكِّ في حَيْرةٍ وظلامْ
وجاء بفأسٍ وراح يشقّ الثَّرَى في ضَجَرْ
ليدفِنَ هذا الأسيرَ الجميلَ.. وأينَ المفرْ؟!
وراحَ يودِّعُهُ في اختناقٍ ويغسِلُ لونهْ
بأدمعِه ويصُبُّ على حظِّهِ ألفَ لعنَهْ!!
5
وحينَ استطاعَ الرُّعاةُ المُلحُّون هدْمَ الجدارْ
وتحطيمَ بوَّابةِ الكوخ في تَعَبٍ وانبهارْ
تدفَّقَ تيّارهم في هياجٍ عنيفٍ ونقمهْ
فماذا رأوا؟! أيَّ يأسٍ عميق وأيَّة صَدْمَهْ!!
فلا شيءَ في الكوخ غيرَ السكون وغيرَ الظُّلَمْ!
وأمَّا الغُلامُ فقد نام مستَغْرَقًا في حُلُمْ
جدائلُهُ الشُّقْرُ مُنْسدلاتٌ على كَتِفَيهِ
وطيفُ ابتسامٍ تلكَّأ يَحلُمُ في شفتيهِ
ووجهٌ كأنَّ ((أبولونَ)) شرّبَهُ بالوضاءهْ
وإغفاءةٌ هي سرُّ الصَّفاءِ ومعنى البراءهْ
وحار الرُّعاةُ.. ((أيسرقُ هذا البريءُ القَمَرْ))؟!
ألم يُخطِئوا الاتِّهام ترى؟ ثمَّ.. أينَ القَمَرْ؟!
وعادوا حَيارى لأكواخهم يسألونَ الظلامْ
عن القَمَر العبقريِّ.. أتاهَ وراءَ الغمامْ؟!
أم اختطفتْهُ السَّعالي وأخفتْهُ خلفَ الغيومْ؟!
وراحتْ تكسِّرُهُ لتغذِّي ضياءَ النجومْ؟!
أمِ ابتلعَ البحرُ جبهتَهُ البضَّةَ الزنبقيَّهْ
وأخفاهُ في قلعةٍ من لآلئ بيضٍ نقيَّهْ؟!
أم الريحُ لم يُبْقِ طولُ التنقُّلِ من خُفِّها
سوى مِزَقٍ خَلِقاتٍ فأخفتْهُ في كهفها
لتَصْنَعَ خُفَّينِ من جِلْدِهِ اللَّين اللَّبَنيِّ
وأشرطةً من سَناهُ لهيكلها الزنبقي؟!!
6
وجاء الصباحُ بَليلَ الخُطَى قمريَّ البرُودْ
يتوِّجُ جَبْهَتَهُ الغَسَقيَّةَ عِقْدُ ورُودْ
يجوبُ الفضاءَ وفي كفِّه دورقٌ من جَمالْ
يرُشُّ الندى والبُرودةَ والضوءَ فوق الجبالْ
ومرَّ على طَرَفَيْ قدمَيْه بكوخ الغُلامْ
ورشَّ عليه الضياءَ وقَطْرَ النَّدى والسَّلامْ
وراح يسيرُ لينجز أعمالَهُ في السُُّفُوحْ
يوزِّعُ ألوانَهُ ويُشِيعُ الرِّضا والوضوحْ
وهبَّ الغلامُ مِنَ النوم منتعشًا في انتشاءْ
فماذا رأى؟! يا نَدَى! يا شَذَى! يا رؤى! يا سماءْ!
هنالكَ في الساحةِ الطُّحْلُبيَّةِ.. حيثُ الصباحْ
تعوَّدَ ألاَّ يَرَى غيرَ عُشْبٍ رَعَتْهُ الرياحْ
هنالكَ كانت تقومُ وتمتدُّ في الجوِّ سِدْرَهْ
جدائلُها كُسِيَتْ خُضْرةً خِصْبةَ اللون ِثَرَّهْ
رعاها المساءُ وغذَّت شذاها شِفاه القَمَرْ
وأرضَعَها ضوؤه المختفي في الترابِ العَطِرْ
وأشربَ أغصانَها الناعماتِ رحيقَ شَذَاهُ
وصبَّ على لونها فضَّةً عُصِرَتْ من سَناهُ
وأثمارها.. أيُّ لونٍ غريبٍ وأيُّ ابتكارْ؟!
لقد حار فيها ضياءُ النجومِ وغارَ النّهارْ
وجُنَّتْ بها الشَّجَراتُ المقلِّدَةُ الجامِدَهْ
فمنذ عصورٍ وأثمارُها لم تَزَلْ واحدهْ
فمن أيِّ أرضٍ خياليَّةٍ رَضَعَتْ؟! أيّ تُرْبهْ
سقتْها الجمالَ المفضَّضَ؟! أي ينابيعَ عذْبَهْ؟!
وأيةُ معجزةٍ لم يصِلْها خَيالُ الشَّجَرْ
جميعًا؟! فمن كلِّ غُصْنٍ طريٍّ تَدَلَّى قَمَرْ!!
7
ومرَّتْ عصورٌ وما عاد أهلُ القُرى يذكرون
حياةَ الغُلامِ الغريبِ الرُّؤى العبقريِّ الجُنون
وحتى الجبالُ طوتْ سرَّه وتناستْ خطاهُ
وأقمارَهُ وأناشيدَهُ واندفاعَ مُناهُ
وكيف أعادَ لأهلِ القُرى الوالهين القَمَرْ
وأطلَقَهُ في السَّماءِ كما كانَ دونَ مقرْ
يجوبُ الفضاءَ ويَنْثرُ فيه النَّدَى والبُرودهْ
وشِبْهَ ضَبابٍ تحدّر من أمسياتٍ بعيدهْ
وهَمْسًا كأصداء نبعٍ تحدَّر في عمْق كهفِ
يؤكِّدُ أنَّ الغلامَ وقصّتَهُ حُلْمُ صيفِ
واقرأ أيضا:
مازلتُ أذكركِ.. / مذكرات العراقي الشريد: أنا و ليلى / كفرتُ / إلى من تعلم... / الثاني من ماي.. عيد ميلادها / كراهية / عندما تتحطم الأحلام / تتهاوى أوراقي