"هاجرتُ يوماً عندماخانتني شمسُ مدينتي
رفضتْ جداري قصتي
والآن ألعن غربتي
في واحة الليل الحزين"*
صفير القطار يدوي، وكأنه يصرخ في وجهي.. يهددني أن يرحل دوني، تتسارع خطواتي، وعلى مقعدي بجوار النافذة أجلس.. أشرد..
* * *
حين أتممت السادسة أحضر لي عمي قطارًا.. أحببت اللهو به..والآن بعد أن أتممت السادسة والعشرين أتسائل: من يلهو بمن ؟!
* * *
القطار يجري..الأشجار تجري..كل ما حولي يجري .. يجري، وأنا.. لمَ أهاب الجري؟.. في صباي كنت أهواه.. أسابق الصبية فأسبقهم... فمن أسابق اليوم ؟!
* * *
وأختي الصغرى كانت تجري نحوي.. أرفعها من على الأرض وأحوطها بذراعي، بصوتها الرقيق تسألني:
-هتجبلي اللعبة اللي نفسي فيها وإنت جاي يا أحمد؟
-طبعا يا حبيبتي إن شاء الله
-والحاجة الحلوة كمان؟
-والحاجة الحلوة كمان!
-بس متتأخرش عشان هتوحشني أوي
تطبع قبلة صغيرة على خدي، فأضمها أكثر إلي صدري، وأحاول أن أسجن الدموع بعيدًا عن مقلتي.. كي لا تفر أمام أمي التى بدأت بالفعل تبكي.. أنزل الصغيرة برفق وأبتسم لأمي.. ألومها بمرح مصطنع على دموعها..
ولكن من يلومني على دموع قلبي؟!
* * *
وحين نظرت إلى عينيها الجميلتين أذاب الحزن قلبي.. كانت تجاهد ألا تبكي.. تحاول أن تبدو قوية، مما زادها ضعفًا.. ضعفتُ.. وفلتت دمعة من عيني.. مدت أناملها الرقيقة لتمسحها.. لثمتُ يدها.. تذكرتُ..
* * *
حينما كنا أطفالاً.. سافر أخاها الأكبر.. جاءت إلي والدموع تتفلت من عينيها البريئتين ..ربتُّ على ظهرها.. لكن البكاء لم يتركها.. رفعت إلي عينيها.. تلك النظرة لم أنسها: حزنٌ ينوء بالطفولة.
-عدني ألا ترحل أنت الآخر يومًا!
،وتلك النبرة ما أصدقها! حبُ يذوب في رجاء.
-أعدك أن أبقى بجوارك دوماً..دوماً!
وامتدت أصابعي لتمسح دموعها..هنا فقط تركها البكاء.
* * *
وكأنك كنت تستشرفين الغيب حبيبتي!
لكني لم أكن أعرف.. سامحيني.. لا أستطيع اليوم أن أفي بعهدي..
والآن أودعك، وأمضي..
* * *
أودع أرضي، وإلى أرض أخرى أرحل.. لا أعرفها، ولا تعرفني.. فهل تقبلني؟
* * *
يتوقف القطار، وعلى الأرض الجديدة أهبط.. الليل في انتظاري، والحنين! تتوارى الغربة وراءهما.. أستشعر ثقل وجودها.. رغبةُ جائحةُ تدفعني أن أرجع.. أن أهرب، لكنني أقاوم.. أسير،
وخلفي يدوي صفير القطار.
_________
*شعر أحمد مراد
واقرأ أيضاً:
لماذا أتيت؟؟؟ / فتاةٌ مغرورةْ