لوركا.. شهيد الكلمة (1)
إضـــاءة حول الشاعر (الجزء الثاني)
يحتفل عُشَّاق الشعر؛ ومعهم العالم، هذا الشهر بالذكرى الثامنة بعد المائة بميلاد قامة شامخة في الشعر؛ إنه "شهيد الكلمة" و"عاشق الغجر".. فيديريكــــو غارسيــــا لوركـــــا..
فمـن هـو لوركــا؟
ولمَّا كانت روحة توَّاقة دومًا إلى الحرية.. إلى الانطلاق.. إلى التحليق بعيدًا؛ خارج أجوائها الطبيعية أحيانًا.. فقد تسلل مرة مبتعدًا عن الجامعة، فقادته خطاه الشاردة إلى حي "هارلم"؛ الوجه المشوَّه والبشع لمدينة الإسفلت والحديد والورق.. حيث تُورِق العفونة! ويُزهر البؤس والفقر! وحيث تتفتح عوسجات القتل المجاني! وتتأكسد التناقضات! وتتناسل وتتكاثر الخنافيس الإليكترونية في فضاءات الصخب الأسود! وحيث تتفجر أنهار الدم والعرق من أشلاء أجسام الزنوج المتآكلة! وحيث يباع اللحم القديد يثمن بخس! ويدرك الأطفال لحظة الولادة أن لا فردوسَ هناك ولا حبَّ مجرد! ويعرفون أنهم إلى وحل الأرقام والقوانين العقيمة سوف يذهبون!!
احتكَّ "لوركا" بسكان "هارلم" المضطهدين والمصلوبين دومًا على أسنَّة الحياة، وعايش فقرهم الزنجي، ولاعب الأطفال.. عاش حياتهم المريرة، ورأى عذاباتهم الـ"سيزيفية" اليومية! فأحسَّ كأنه في غابة تأكل ذئابُها خرفانَها الوديعة، ورأى كيف تحوِّل المادةُ الإنسانَ إلى آلة.. إلى رقم.. إلى لا شيء! وكيف تقتل مدينة الورق والإسمنت والحديد إنسانية الإنسان وتمسخ روحه.. طهره.. براءته.. بساطته.. تلقائيته..
وقد كان من ثمار هذه الزيارة الصدمة! واحدة من أروع قصائد ديوانه "شاعر في نيويورك Poeta en Nueva York"، وهي قصيدة "نشيد إلى ملك هارلم Oda al Rey Harlem"!
وحين زحف صيف 1930 عاد إلى وطنه بعد زيارة قصيرة إلى "كوبا"، وفي 24 دجنبر من نفس السنة قُدمت له مسرحيته "الإسكافية العجيبة" على خشية المسرح الإسباني، ثم ألقى في "إقامة الطلبة" محاضرة حول ديوانه "شاعر في نيويورك" مع قراءة شعرية، كما قام بجولة مسرحية على رأس فرقة تتألف من الطلبة ومن الفنانين المحترفين ، قدمت خلالها مسرحية "الكوخ"، وقد كان الغرض من هذه الجولة نقل المسرح إلى أبعد قرية، وحتى لا يبقى محتكَرًا من فئة قليلة.
غير أن عصفوره الداخلي اشتاق إلى نار السفر المقدسة، وحنَّ إلى التحليق في الأجواء البعيدة، البعيدة جدًّا، غير الأجواء التي تعوَّد عليها؛ وهكذا ركب في "عربة من مياه سوداء" وعاد في صيف 1932 إلى أمريكا، وهذه المرة إلى الجنوبية، حيث زار البرازيل، الأوروغواي، الأرجنتين.. وفي عاصمة هذه الأخيرة "بوينس أيريس Buenos Aires" استغلت إحدى الفرق المسرحية الكبرى هذه الزيارة وعرضت ثلاثًا من أحسنِ مسرحياته؛ وهي: "عُرس الدم Bodas de Sangre "، و"الإسكافية العجيبةLa Zapatera Prodigiosa "، و"ماريانا بينيدا Mariana Pineda" كما أعاد المحاضرات التي سبق وألقاها في كل من إسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن أكبر كسب حمله معه عند العودة إلى وطنه هو ذاك التعارف المثمر والمتميز، ونلك الصداقة الحميمية التي ربطته بشاعر الشيلي العظيم "بابلو نيرودا Pablo Neruda" الحائز على جائزة "نوبل" للأدب 1971، والتي سجلها كل واحد منهما بأسلوبه الخاص وطريقته المميزة الفريدة!
ففي الفصل المُعنْوَن بـ"إسبانيا في القلب"من مذكرات بابلو نيرود " أعترف أني عشت Confio que he vivido" نجد تسجيلاً حيًّا لذلك اللقاء التاريخي، وكأنهما صديقان منذ زمان؛ ذلك أن شهرتهما كانت السباقة، حتى أنهما بادرا جمهور الحضور بمفاجأة أخرست البعض وأدهشت البعض الآخر، وذلك من خلال الحفل التكريمي الذي أقامه على شرفهما "نادي القلم" في فتدق "بلاثا Plaza"، وذلك لإفشال مناورة الخصوم.. وحين اُغتيل لوركا رثاه نيروذا بقصيدة غاضبة أشد الغضب، نقم فيها على كل شيء، فقد كان موته المفاجئ وهو في تلك السن وفي أوج عطائه رمية أصابت نصالها منه الصميم.
"فيديركو غارسيا لوركا" شاعر ومسرحي؛ بل إنه شاعر الأساطير، وشعره في جوهره رمزي؛ خلف مظهر الفولكلوري والشعبي، بساطة في الأسلوب وبعد في الرؤى، أعماله تكشف عن مأساة كائن معذب، فـ"لوركا" دومًا يعارض غريزيًّا وبصفته الإنسانية تقاليد المجتمع الهشَّة! من هذا التوتر تتدفق أعماله المتميزة الرمزية، وعالمه هو الليل بكل مهمَّشيه والمصلوبين على أرصفته.. الليل المسكون بأحصنة سوداء حالمة! ليل مقمر دائمًا وأنثوي لكل مجدب وعقيم!
وقاموس "لوركا" اللغوي غنيٌّ بالمفردات العربية: "قصر، ياسمين، زيتون، طلح، ليمون، خرشوف، عنبر".. حتى كتبه تحمل عناوين عربية: "ديوان، قصيدة"...
ويتبع>>>>>>>>>>> : لوركا.. شهيد الكلمة (3)
واقرأ أيضاً:
نـا حينَ لا تَدُلُ !! / الفرق ! / تقوى! / كوفاد / الجنون بالكتابة / جَـوازٌ لا يَـجُـوزُ! / ذَوَبَـان! / عبث الفرشاة! / آخر العمى / خُـلاصَـةُ!