هل صليتَ يا أحمدُ؟ هل صليتَ يا أحمدُ؟كان هذا السؤالُ المرعبُ؛ الذي يأتي مع نبرةٍ قويةٍ مؤنِّبةٍ، وبلهجةٍ صارمةٍ.. يقضُّ مضجعَ الغلامِ ذي الاثني عشرَ ربيعًا في كلِّ يومٍ أكثرَ من خمْسِ مراتٍ، إذْ لا يقتصرُ على أوقاتِ الصلاةِ وحسب، بل يتعداها إلى أكثرَ مِن ذلك للتاكُّدِ؛ هل تمَّ الأمرُ أم لا؟!
وفي كلِّ مرةٍ يسمعُ الصبيُّ هذا السؤالَ؛ تتقطَّبُ حواجبُه غيظًا، وتجتاحُه موجةُ رعبٍ تزلزلُ كِيانَه إذا لم يكنْ قد أدى هذا الواجبَ اليوميَّ المتكررَ، ويديرُ وجهَه الى أبيه مخفيًا ذلك الغيظَ، وما إنْ تلتقي عيناه بعينيْ أبيه الصارمتين حتى تتحولَ تلك التعابيرُ المغتاظةُ إلى تعابيرِ خوفٍ وقلق وألم، وتدخلُ نفسُه ذلك الصراعَ المريرَ!
هل يخبرُ أباه الحقيقةَ وأنه لم يصلِ بعدُ فلا زال في الوقتِ متسعٌ، ويحظى بنصيبِه اليوميِّ من كلماتِ التأنيبِ المُوجعةِ لكرامتِه، والمهينةِ لشخصيتِه التي تجعلُها تتفتتُ أمامَه كزجاجٍ سقط طويلاً فتحطَّمَ لقطعٍ صغيرةٍ يصعبُ إعادةُ رونقِها وجمالِها كما كان! أمْ يكذبُ ويومئُ رأسَه بالموافقةِ فيتخلصَ من كابوسِ الألمِ الذي ينتظرُه كلَّ يومٍ في كلِّ لحظةٍ يسمعُ فيها نداءَ الصلاةِ يقولُ: "اللهُ أكبرُ"؛ فيفقدَ احترامَه لذاتِه؛ لمعرفتِه بِخسَّةِ هذا الفعلِ ودناءتِه؟!
ويعيشُ أحمدُ هذا الصراعَ النفسيَّ في ثوانٍ معدودةٍ لا تتجاوزُ العشرَ؛ تلك الثواني التي يجبُ أنْ يقررَ فيها إجابتَه المؤديةَ به إلى إحدى النتيجتين المؤلمتين.. فأيُّهما يختارُ؟!!
وإذْ به يومئُ رأسَه موافقًا ويقولُ: أجل يا أبي؛ لقد صليتُ!!
عجبًا!! لماذا اختارَ أحمدُ هذا الجوابَ وهو مِن الأطفالِ الذين يقدِّسُون الشرفَ ويعظِّمون الصدقَ والاستقامةَ؟!!
لماذا يهينُ نفسَه ويُلقي بها في سراديبِ الألمِ المظلمةِ؟! تلك السراديبُ التي يدخلُها من يحتقرُ نفسَه ولا يُلقي لعظمتِها شأنًا؟!!
إن الإجابةَ سهلةٌ جدًّا.. لقد فقدَ حبَّه لذاتِه واحترامَه لنفسِه بكلِّ بساطةٍ!! لقد حطمتْ تلك الإهاناتُ المتكررةُ عبرَ الأيامِ الطويلةِ عزتَه بنفسِه، وأبادتِ احترامَه لها؛ فلم يجدْ أنَّ ذلك الكذبَ قد يزيدُ من احتقارِه لنفسِه وعدمِ ثقتِه بها، بل وجد أنه المخلِّصُ الوحيدُ للهروبِ من سَماعِ تلك الكلماتِ والنبراتِ القويةِ المؤلمةِ، التي تحفرُ في فؤادِه أخاديدَ من الحسرةِ والألمِ، وتورِثُ في نفسِه المتألمةِ سُخطًا على الحياةِ والدينِ وكلِّ شيءٍ حولَه!! فيمسي كلُّ ما يراه أسودَ قاتمًا، لا لونَ لشيءٍ، ولا طعمَ.. ولا رائحةَ!! إذْ لا معنى لشيءٍ في الحياةِ إن لم يكنْ هناك معنًى وقيمةٌ للإنسان.. وكيف يشعرُ بقيمةِ ما لديه؛ وهو لا يشعرُ بقيمته كإنسانٍ؛ له كِيانُه الذي يُحترم، ورغباتُه التي تُسمع، ورأيُه الذي يُوضع له وزنٌ؟!!
فهو لا يستطيعُ مواجهةَ أبيه بأيِّ شيءٍ مما يدورُ في قلبِه، ولا يستطيعُ مصارحتَه بأنَّه يؤلمُه، وأنَّ أسلوبَه يزيدُه كُرهًا للصلاةِ والدينِ!!
لقد حطَّم الاستبدادُ كيانََه، وأصبح ممثلاً بارعًا يُخفي مشاعرَه وآلامَه، ويظهرُ أمامَ أبيه بالصورةِ التي يريدُه هو أنْ يكونَ عليها، لا بصورتِه الحقيقيةِ!! وفي الحقيقةِ.. هو يتحولُ لإنسانٍ مختلفٍ تمامًا.. إنسانٌ يحاولُ كسرَ القيودِ التي تكبِّلُه وتعيقُ حريتَه، وتقفُ حاجزًا بينه وبين العالمِ الواسعِ، ولا يدري أنه قد يُؤذي نفسَه إذا كسرها بطريقةٍ خاطئةٍ!
إنَّ الكرامةَ تحملُ معها المسؤوليةَ والعزَّةَ والاستقلالَ، ولا كرامةَ بدونِ حريةٍ.
وبعدَ استحسانِ الأبِ لما فعله ابنُه أزال من عينيه تلك النظرةَ المخيفةَ، وأدار ظهرَه ومضى!
تنفس أحمدُ الصُّعَدَاءَ بعد استهلاكِ جهازِه العصبيِّ خلالَ هذه الثواني المعدودةِ من الخوفِ والرهبةِ!! وأطلق تنهيدةً عميقةً وطويلةً، أخرجت معها كلَّ كُرهِه وسُخطِه وغضبِه.. وقال:
أوووووف!! لمن أصلي؟! لماذا يتوجبُ عليَّ الإحساسُ بكلِّ هذا الثقلِ عدةَ مراتٍ يوميًّا؟! لماذا لا أقررُ أنا فيما إذا أردتُ أن أصليَ أو لا؟! إنني لا أجدُ معنًى أبدًا لهذه الحركاتِ التي أقومُ بها! إنني أستطيعُ قراءةَ الآياتِ دونَ هذه الحركاتِ! ما الذي سيحدث؟!! لماذا يأمرنُا اللهُ بهذه الفروضِ التي لا تفيدُنا وهو الذي لا يفعلُ شيئًا إلا لفائدةِ عباده وكي نكونَ سعداءَ ؟! وهذه الصلاةُ تجعلُ مني إنسانًا تعيسًا؛ لأني أشعرُ بثقلٍ كبيرٍ عليَّ أثناءَ تأديتِها! وأبي يكرهُني إذا قصَّرتُ بها، وكلما سألتُه: ما الفائدةُ من الصلاةِ يا أبي؟ انتهرني بشدةٍ -وكأنني صرحتُ له بكُرهِها- وقال لي: لا يجوزُ أنْ نناقشَ فيما أمرنا اللهُ به، بل نفعلَه دونَ سؤالٍ؛ كي ندخلَ الجنةَ!!
وإذا صوتٌ بعيدٌ ينادي في الآفاقِ: اللهُ أكبرُ.. اللهُ أكبرُ..
عاد هذا الصوتُ المرعبُ المثيرُ للألمِ، وعادت تلك الأسئلةُ تقفزُ إلى رأسِ الفتي الصغيرِ، وسيعودُ الأبُ بعدَ قليلٍ ليسألَ: هل صليتَ يا أحمدُ؟!
واقرأ أيضًا:
الربيع الراحل / الأمل الشجاع