حملت باقة زهوري وذهبت إلى اللقاء.. ذلك اللقاء الذي أخشاه وأرهبه.. تسلحت بإيماني العميق بضرورة الفراق.. مابين غفوة المساء وإشراقة الصباح اتخذت قراري.. تمنيت لو انتصفت المسافة بيننا فتدرك ضرورة وضع نهاية لهذه المعاناة...
وجدتك في انتظاري كعادتك... هبط قلبي إلى أرض الهذيان... أوشكت أن أغفل قراري، ولكنى تذكرت ما جلبه هذا الحب من مشاكل لكل من نحبهم... لقد كان دربا من دروب المستحيل ورغم ذلك سرنا فيه وكل منا مسلوب الإرادة.. لم نخطط له بل كان وليدا طبيعيا لجيرة استمرت لسنوات طويلة حتى قبل أن يولد كلانا...
اتخذت مجلسي أمامك.. ابعد نظري عنك حتى لا تخور قواي وأفقد مقاومتي.. أعطيتك باقة زهوري ففي حديث الزهور تسكن كل الكلمات... وقطعت أنت حبال الصمت بيننا وأنت تسألني عن سر تجهمي وهذا الصمت الذي يشبه صمت الموت قبل الأحداث العاصفة..
وأعلنت لك قراري دون أن أستطيع النظر إليك.. بل تركت وجهي معلقا على صفحة النيل أراوغ تياره قبل أن يجرفني تيار حبك فأعود إليه... نزل عليك قراري كالصاعقة أدركت ذلك عندما استرقت النظر من تحت جفوني إلى وجهك الذي ذابت ابتسامته وسكنته أشباح الذبول... وقطعت صمتنا مرة أخرى قائلا : هل أعلنت الهزيمة؟؟!! هل تخليت عن أحلامنا في المستقبل؟؟! لقد منحنى حبك مذاق الأشياء فكيف تحولينه إلى العدم؟؟!
لم أستطع الانتظار أمامك ولم أستطع سماع نبض كلماتك الحزينة.. كل هذا لم أعد أتحمله، أكاد أتحسس غصات قلبي وهو يعلن تذمره... وفررت دون أن أحاول النظر خلفي فقد كان هذا كفيلا بوأد قراري... ولم أستطع العودة إلى المنزل الذي أصبح سجنا منذ أعلنت فيه عن مشاعري.... وركبت عربة المترو مع أحزاني وذكرياتي.. تذكرت طفولتي التي تربت بين يديك، كانت تجمعنا الجيرة فلا يكاد يفصل بين شقتنا وشقتكم سوى مسافة قصيرة ولكن فى الحقيقة كانت هناك أبعادا أخرى لم نلتفت إليها... ولم ندركها إلا حين هبط طائر الحب على قلبينا فقد كنا نتشارك لحظات السعادة والحزن مع أسرتينا...
والأعياد والمناسبات الاجتماعية والدينية رغم اختلاف طقوسها فقد كنت تمارسها مع أسرتك على الطريقة الإسلامية، ونحن كنا على الطريقة المسيحية ـــ ذلك جوهر الاختلاف بيننا ــ لقد التحمت أسرتانا في معزوفة حب ومشاعر إنسانية عالية الإيقاع دون أي اعتبار لهذا الاختلاف بيننا.. فقد ذابت الفواصل وتشابكت المشاعر في لحظات الود والأخوة الخالصة حتى كادت الأبواب لا تغلق أبدا خلال نهار أو ليل... لم أر في حياتي قدرا من التلاحم والتماسك بقدر ما رأيته بين عائلتينا حتى كان والدي يذهب لزيارة المساجد مع والدك عندما يقع أمر قاس من أمور الحياة فيتوجها معا إلى حيث رحاب الإيمان للدعاء حتى يفرج الله الكروب وبعدها يتوجها إلى الكنيسة ليضيئا شمعة تقربا...
حتى والدتي كانت تصحب والدتك لزيارة المقابر في الأعياد والمناسبات الدينية.. لم أشعر أبدا بأي اختلاف بيننا وهذا ما دفعني للاستسلام لهذا الطوفان الذي استعمر قلبي، كنت اصغر منك بأعوام قليلة وهذا ما دفعني للحياة تحت سماك الوارفة الظلال أنشد الأمن والحماية، وحين تصادفني مشكلة كنت أهرع إليك باكية فأتعلم الحياة من جديد على يديك، وعندما كانوا يسألونا عن زوج وزوجة المستقبل كنا نرد في حماس الطفولة البريئة التي لا تعرف الخبث والعبث بالكلمات وكل منا ينطق باسم الآخر.. فيتضاحكون منا وحفل الختام.
لهذه الضحكات قول واحد: أن غدا سوف نفهم.. لقد اعتقدوا أن ما بيننا مجرد لهو طفولي ثم ينتهي بمجرد إدراكنا لعمق الخلاف بيننا.. ومع إدراكنا له لم يحدث رغم صعوبة الارتباط، وأيضا لاستحالته.. لقد تحولت اللعبة التي كانت تروقنا في الصغر ـــ تحولت إلى قيود تشدنا بأغلال حريرية ومن فرط نعومتها يصعب حلها والتخلص منها.. لقد تركنا العنان لمشاعرنا دون محاولة التفكير فيها ولم يبق لنا سوى نضارة الحب وطزاجة المشاعر حتى عندما حاولت أن تراوغ قلبي وتبحث لك عن طريق آخر غيره.. كنت تعود لي بقناعتك أن الطريق طريقي وأنني الوحيدة التي حرضت الرجل العاشق داخلك على الخروج من عزلته..
ولم يكن أمامنا سوى الإعلان عن مشاعرنا ولم ندرك أننا بهذا نفتح النار على قلبينا ونجعل الأبواب التي ظلت مفتوحة لسنوات تغلق للمرة الأولى... لقد أغرقني طوفان غضب الأهل في لجة من الحزن حتى أدمنته ولكنى لم أتخل عن صدق مشاعري وعمق أحاسيسي تجاهك... ورغم كل شيء تعاهدنا على الصبر...
وأفقت من شرودي على صوت يخبرني بأننا وصلنا إلى آخر الخط.... نسيت أنني في عربة المترو وتلفت حولي واتخذت طريقي الذي أصبح مجهولا بالنسبة لي.. سرت في الطرقات أحاول أن أجمع أجزائي التي تبعثرت أمامك في لحظة الفراق.. لم أخن عهدك، ولم أنفض عني حبك ولكنى لم أتحمل فكرة الأبواب المغلقة بين أسرتينا وما تحمله معها من رحيل أخوة وصداقة استمرت لسنوات حتى أصبحت جزءا من تكويننا... لقد تحولت مشاعري من لحظات أثيرة لحالة خاصة إلى حالة عامة يجب أن نحترمها ونقدرها... كنت أعلم أن التعب معك يصلني بأسرار عصية الكشف مثلما كنت أنت تدرك أن وجودي معك تحت سماء واحدة كاف جدا لإطلاق عنفوانك المحبوس...
ووجدتني أمام كنيسة "السيدة العذراء" فطافت بقلبي فكرة صغيرة لعلها تبلغني قدرا من الراحة... لماذا لا ادخل للاعتراف؟؟ وسردت مكنونات نفسي بكل الصدق وقد تواريت خلف الحائل بيني وبين الأذن التي تستمع إلى اعترافي... وجاءني صوته الهادئ الذي يحثني على البقاء على الطريق الذي انتويته... وشعرت ببعض الراحة ورجعت إلى منزلي أحتمي بجدران غرفتي...
وأتتني رسالتك قرأت سطورها القليلة وأنا أكاد أحتضن حروفها وأرى وجهك مرسوما على صفحتها... كانت رسالة وداع وأمنيات قلبية أن أجد من يعوضني عن رحيلك.. قرأتها بدموعي وأنا أدرك أن فيض عواطفها كاف جدا لتعويض مسراتي المبتورة ويكفينا ما عشناه رغم أنها أيام قليلة إلا أنها نادرة الحدوث بين امرأة ورجل، لان الاكتمال معا يقودنا إلى طريق آخر فأنا أدرك أن الثمرة حين تكتمل تسقط لذا يجب أن نحافظ على من نحبهم بالا نجرح عشرة جميلة امتدت لسنوات..
وسافرت أنت وقد سعدت بتحملك مسئولية البعد وقد تركتني وحدي أقاوم ليالي الشجن والوحدة.. ويا ويلي من الحياة بعدك ولكن عزائي الوحيد كان في عودة الأبواب المفتوحة وعودة جريان المشاعر الإنسانية العميقة والتي لم يستطع القدر أن يغيرها لفرط صدقها وعمقها وإنسانيتها.
واقرأ أيضاً:
دقات الرحيل / أيها الحاضر الغائب / ليالي شهرزادية (الثالثة)