تاقت هبة كثيرا لتكون أما تحمل طفلها بين ذراعيه، تغدق عليه من حنانها وحبها وحلمت كثيرا أنها تصحو على صوته العذب الرخيم يضاحكها ويداعبها، فتهب من سريرها نشيطة تبادله تلك الضحكات وتلاعبه وتعتني به، غير أنها في كل مرة تصحو من هذه الأحلام الدافئة مرتطمة بسد يقف عائقا أمام تحقيق هذا الحلم الجميل.... لم يكن يمنعها أن تكون أما سبب طبي أو فقر مادي أو ظروف اجتماعية قاهرة، وإنما يمنعها الميراث المسموم الذي ورثته عن أمها والذي يتراءى لها في كل حلم جميل...
تلك الحياة الشقية التي لم تعرف فيها حنان الأم أبدا، بل ما زادها ضراوة وحدة هو أن من مارست عليها صنوف العذاب النفسي والاضطهاد العاطفي كانت أمها الحقيقية... فلو كانت زوجة أب أو قريبة لها اضطرت لتربيتها لهان الأمر، لكنها مشيئة الله أن تعيش هبة في جو أسري مليء بالشحناء والبغضاء بدءا من علاقة الأب والأم انتهاء بعلاقة كل منهما مع أبنائه....
تابعت هبة حياتها بكل مسؤولياتها الزواجية والدراسية والأخوية تتصارعها دوما تلك الرغبات الجميلة فيملأ قلبها الخوف حينا وتجتاحها الشجاعة حينا آخر..... فهي فتاة طموحة معطاءة مليئة بأهداف نبيلة لمساعدة الإنسانية وانتشال من حولها ممن طغى عليهم الجهل وألهبتهم سياط الفقر فيمسون وقد قطع الجوع أحشاءهم ويصبحون على تأوهات أولادهم الذين حرموا أبسط حقوق الحياة... فلا مدرسة يذهبون إليها ولا نار تشتعل في مدفأة البيت تدفئ عظامهم ولا لقمة حلال طيبة تسعد معدتهم الخاوية، شعرت هبة بالمرارة في قلبها وهي ترقب آلام الناس التي لا تنتهي ومهما اجتهدوا فلا يجدون منها مخرجا.... كلما مشت في الطريق ذاهبة إلى كليتها أبصرت أطفالا يرتدون الصفيق من الثياب في طقس تخشع له العظام جانب المدفأة، تراهم يلتف كل واحد منهم على نفسه كالجنين في بطن أمه وقد افترش الأرض والتحف السماء ويا له من لحاف دافئ وثير،وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة تفغر لها الأفواه عجبا... إذ لابد انه يحلم بعود الكبريت المشتعل الذي يدفئ يديه الصغيرتين أو ربما يحلم بدفاتر وأقلام وبيت سعيد، ولربما هو ميت ويطير في الجنة مع العصافير...
والناس من جانبه تمر ولا تهتم كأنه أصبح مشهدا مألوفا لكثرته فهو يشبه شجرة يابسة لا يفيدها الماء مهما سقيت منه أو هو حجرة في حائط مبنى لا يضره إن برد أو تدفأ... وتَمَّلك هبة شعور بالذنب لأنها مرت كما مر الناس ولم تفعل شيئا سوى الحزن لمرأى هذا الطفل الصغير وماذا يفيده حزنها أو حتى بكاؤها انه لن يهبه شيئا من أفراح الحياة... تذكرت هبة بردها أيضا وجوعها ولا تدري أحالها أفضل أم حاله... لقد تذكرت قسوة أمها وبرودة واقعها، فهي لا تشعر بالدفء رغم أنها تعيش في منزل يشبه القصور ولا تستفيد من علم رغم وصولها للجامعة ولا تشعر بشبع رغم تنوع أصناف الطعام على مائدتها....
لم تنس أبدا أنها قضت سنوات ووسادتها لا تجف من الدموع التي تذرفها كل يوم حزنا وألما وشوقا لأم لا تأتي وأب لا يسمع وأسرة لا تجتمع... مرت كل هذه الذكريات الأليمة في ذاكرتها في طرفة عين، وتمنت لو أنها تعود لذلك الطفل فتضمه إلى صدرها وتقبله في جبينه الصغير لتعود الحياة تتدفق في شرايينه فينبض قلبه بالأمل من جديد بعد أن يئس سريعا من الحياة، فذبلت الأزهار حتى قبل أن تتفتح،غير أن شيئا ما منعها ولم تدر ما هو، ربما لم تتعلم في بيتها كيف تعطي الحب، وربما فقدت الثقة في نفسها وفقدت حبها لذاتها واعتقدت أنها كريهة مهما فعلت، ربما خافت أن ينكرها الطفل كما أنكرتها أمها وصفعتها بقسوتها وأدمت قلبها بأنانيتها.
لن تنسى أبدا اختراع أمها الأكاذيب على الأب ليستمر في توبيخ الصغيرة بسبب وبدون سبب ولن تنسى أيضا الإهانات المزعجة أمام الناس وكلامها عليها بالباطل حتى يعتقد الجميع أنها فتاة سيئة..... ولن تنسى تفضيل أخيها عليها لا لخير اكتسبه وإنما لكونه ذكرا فلابد أن يلقى كل حب وحنان.... لن تنسى وصفها لها بالغباء والكسل واجتهادها في إظهار فشلها وإثباته..... كانت تلك الأم هي أخدود النار الذي يتحاشى الإنسان الوقوع فيه، ولم تكن الصدر الدافئ الذي يهرع إليه من آلمته الحياة وأذاقته وبال أمرها، فتعود إليه الآمال العريضة والأفراح الكبيرة والثقة والدعم فيجتاز كل ألم أحاط به ويواجه الحياة بقلب شجاع.
وهنا سالت دمعتان على وجنتي هبة الرقيقة وهي تسأل نفسها كيف أستطيع منح ابني ما لم أحظى به؟،أخشى أن أنجبه وأجرعه من نفس الكأس التي تجرعت مرارها فلا أكون أديت الأمانة واجني بذلك على نفسي وأسرتي وأقف يوم القيامة أمام الله تعالى وقد خسرت الدنيا والآخرة... لن أستطيع أن أكون أما، وبينما تقلب أفكارها في رأسها المتعب وصلت إلى باب جامعتها فوقفت أمامه ونظرت إلى الجبل الراسخ وقد شق السماء الصافية بقوة وعزم وإصرار، فأحست بحنان يسري في عروقها وأن الله تعالى خالق هذا الجمال يناجيها، فعظمة ما خلق تجعل الإنسان خاشع الفؤاد ثابت الجنان، وباغتها بحب قوله تعالى "إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون". أحست هبة بدفء غريب سرى في جسدها ونورا شع في عقلها فارتسمت ابتسامة فرح وأمل وحب على ثغرها الدقيق والتمعت عيناها بحب الحياة وتحقيق الأهداف التي نذرت نفسها لها. ووضعت قدمها داخل باب الجامعة بثقة وعزم وقالت:سأنجح مادمت مع الله.
واقرأ أيضاً:
الربيع الراحل / هل صليت يا أحمد؟! / يوم مع لاجئي لبنان