لافتة صغيرة توضع على مدخل القرية مكتوب عليها "عزبة عبد الجبار"، والعزبة في عرف المصريين تعني القرية الصغيرة التي يملكها شخص أو تملكها عائلة، وله أو لأفراد عائلته حق التصرف فيها بحكم السيطرة
والغلبة، أو بحكم ملكية أكبر مساحة من الأرض الزراعية أو برضا الناس أو تسليمهم أو خضوعهم، وهذه اللافتة تتغير كلما تغير كبير هذه العزبة، فقد كانت منذ عدة سنوات معروفة ب :"عزبة الحاج سالم"، وهذه مشكلة تواجه أهل العزبة فهم يحتاجون لتغيير بطاقاتهم الشخصية والعائلية كلما تغير اسم عزبتهم، وأحيانا كانت تسمى بأسماء غرباء عليهم وكان هذا يسبب لهم حرجا ومع هذا تعودوا على ذلك، وأصبحوا يتندرون عليه في جلساتهم المسائية في المقاهي حيث تدور عليهم "الجوزة" وتغمرهم السعادة خاصة في ليالي الخميس حيث تعمّر الجوزة بالحشيش فتعلوا أصواتهم وتتفتق قرائحهم عن نكات وقفشات تذهب عنهم الهم والغم وتجعلهم يقضون ليلهم في أحلام لذيذة تعوضهم عن شقاء أيام طويلة.
وكان عبد الجبار أحد خفراء الحاج سالم المغمورين والعاديين جدا، ولسبب لا يعلمه أحد جعله الحاج سالم قبل موته شيخ الخفراء مقدما إياه على رجال لهم قيمتهم في العزبة ولهم رأيهم الراجح وعقلهم الواسع، ولم يكتف بذلك بل زوجه من عزيزة أجمل بنات القرية على غير رغبة من أهلها أو من أهل القرية، فقد كانت عزيزة جديرة بمن هو أفضل من عبد الجبار بكثير بل إن عبد الجبار نفسه لم يكن يحلم بهذه الزيجة ولا تصل إليها تخيلاته فهو –إن شئنا الدقة- بلا تخيلات وبلا أحلام، ولم يكن يجيد في حياته إلا تنفيذ أوامر الحاج سالم، وليست له أية ميزة يتميز بها فكل شئ فيه يدور في إطار العادية – كم ذكرنا - أو ربما فرط العادية فهو لا يفعل إلا ما يفعله الناس من طبقته، ولا يعرف في تاريخه أي فضيلة غير أنه كان "في حاله"، وأنه في أحد الليالي رأى لصا يحاول أن يسرق الماشية من أحد بيوت القرية فقفز من فوق سطح بيته وصرخ فهرب اللص، ومن يومها وهو يحكي هذه القصة لأهل العزبة حين يجلس معهم على القهوة على أنها من مآثره ومن دلائل شجاعته وحرصه على أهل عزبته.
وفجأة مات الحاج سالم في ظروف غامضة لم تتضح حتى الآن (رغم حضور المأمور ورجال المركز وعمل التحقيقات اللازمة حول هذا الموت المفاجئ المثير للريبة) ووجد عبد الجبار نفسه يجلس مكان الحاج سالم في الدوار وسلم له أهل العزبة – كما هي عادتهم – بأن يكون هو عمدتهم، ورضي بذلك وأظهر طيبة وتواضعا في مبدأ الأمر، وكان يشاركهم في البداية سهرهم وسمرهم على المصاطب والمقاهي، ويحضر أفراحهم ومآتمهم.
ومع مرور الوقت فكر في بناء دوار جديد للعمودية فبناه مكان الدوار القديم ولكن الناس في القرية هالهم ارتفاع جدران الدوار أكثر مما اعتادوا من قبل فالدوار يبدو كقلعة شاهقة الارتفاع لها شبابيك حديدية صغيرة يرى من خلفها بالكاد، وحول الدوار أسوار عالية بها فتحات ضيقة للمرور وحوله حراسة لم يألفها أهل العزبة ولا يستدعيها الأمر بالنسبة لهم، ولكنهم فسروا ذلك بشعور عبد الجبار بالخوف من طمع بعض كبار العائلات المعروفين في العزبة في أن يحتلوا مكانه في الدوار، وقد بدا خوفه على العمودية واضحا، لدرجة أنه أصبح يخشى الخروج في الليل خاصة وأن العزبة تحوطها حقول الذرة والقصب مما يزيد من احتمالات اختباء المترصدين له ، وهم كثر حسب ما يذكر شيخ الخفراء، وشيئا فشيئا أصبح يخشى حتى الظهور في النهار خشية أن يصيبه عيار مقصود أو طائش.
ولم يكتف عبد الجبار ورجاله الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم بهذا بل أتوا بكلاب شرسة تحوط الدوار وتملأ أفنيته. وأهل العزبة ينظرون إلى هذا التغير الذي طرأ على عبد الجبار ويستغربون هذا الدوار القلعة، ولم يعودوا يرون عبد الجبار إلا من خلال شبابيك الدوار الحديدية حيث يطل بوجهه الجامد الخالي من المشاعر ويتنقل من شباك إلى آخر ينظر باستعلاء وكبر نحو أهل العزبة الذين أكلهم الفقر وفاحت منهم رائحة البؤس والذل.
وبعد أن كان عبد الجبار يقطن الطابق الأول من الدوّار صار يتنقل من طابق إلى طابق أعلى حتى أصبحت تتعذر رؤيته حين يظهر وجهه المقنّع من خلف حديد الشبابيك العالية في الطابق العاشر. ويشاع في العزبة أن عبد الجبار يلبس أقنعة حتى لا يظهر أثر الزمن على وجهه ولكي يظل على حالته التي عرفها به أهل العزبة قبل أن ينعزل عنهم فلا يطمعون فيه أو يفكرون في الخروج عن طوعه. ولم يكتف عبد الجبار بمكان الدوار القديم وإنما فكر في التوسع بدواره الجديد فبعث برجاله يغرون أهل العزبة بشراء مساحات من بيوتهم القديمة وأرضهم الفضاء بأسعار عالية وكلما اشترى قطعة من أرض تمدد بالدوار فيها من الأمام ومن الخلف ومن الجوانب حتى أصبحت امتدادات الدوار أشبه بأذرع إخطبوط أو سرطان تتخلل بيوت وشوارع وحواري العزبة الصغيرة وهذه الأذرع الشاهقة الارتفاع غير المتساوية في الطول تبدو مخترقة وضاغطة وساحقة لبيوت الفقراء بجوارها والتي تبدو كحبات رمل أو كنمل صغير بجوار هذا المبنى السرطاني الشاهق والمتمدد باستمرار.
ونتيجة لهذا التمدد المتزايد حجما والشاهق ارتفاعا ضاقت شوارع العزبة وحواريها، وضاقت نفوس أهلها، وأغلقت امتدادات الدوار عليهم كثيرا من المنافذ والطرقات وحجبت عنهم الشمس والهواء. وصار هذا الدوار السرطاني الشاهق يثير العجب ويثير الرهبة في نفوس أهل العزبة بشكله غير المنتظم وحجمه الهائل، وقد أغرى هذا الأمر عمدا آخرين في القرى المجاورة لبناء دوّارات مماثلة، ولم يقتصر الأمر على القرى بل امتد إلى أحياء شعبية وفقيرة في المدن المزدحمة، وأصبح هذا الشكل السرطاني الشاهق والمتمدد في الشوارع والحواري نمطا هندسيا شائعا في القرى والأحياء البائسة، وهو علامة جديدة على القوة والشكيمة والوجاهة والسيطرة، وأصبح مهندسو المباني يطلقون على هذا النمط الهندسي "دوّار عبد الجبار"، وأصبحوا يروجون له على الرغم من مخالفته لما تعارفوا عليه في فنون الهندسة والبناء فشكل هذا البناء ليس دائريا ولا مربعا ولا مستطيلا ولا شبه منحرف، وقد راح بعضهم يقول بأن عدم انتظام شكل البناء يعبر عن خصوصية تناسب أحياء وقرى مصر والتي تتميز بالالتواء والتعرج والانسدادات وعدم الانتظام وأن هذا يعرف في علم الأشكال بال "شواش" وهو جمال الشكل غير المنتظم مثل الجبال وتشكيلات السحب.
وأهل عزبة عبد الجبار لا تعنيهم هذه المجادلات الفلسفية أو النظريات الهندسية والجمالية، فهم يعانون من ضغط دوّار عبد الجبار على شوارعهم وحواريهم وأرزاقهم وأنفاسهم لسنوات طويلة ولا يبدو لهذا الأمر نهاية في الأفق، وكلما ذهبوا للشكوى لدى مأمور المركز تلقوا وعودا مطمئنة وسمعوا عن تهديدات تعيد عبد الجبار إلى رشده وتزيل تعدياته على شوارع العزبة وطرقاتها وبيوت أهلها، ولكن بعد وقت قصير يكتشف أهل العزبة أن عبد الجبار عرف كيف يتفادى كل هذا بطرقه الخاصة، فهو يعرف كيف يتعامل مع المأمور ورجاله، فكل شخص منهم له مدخله الذي يعرفه عبد الجبار جيدا، ويبدو أنهم استراحوا لهذا الوضع القائم خاصة أنهم يخشون إن ذهب عبد الجبار أن يسود الهرج والمرج وأن يتحكم الغوغاء في مصير العزبة وهذا يشكل إزعاجا للسلطات وخللا بالأمن لا يحبه القائمون على الأمن ولا يرغبونه مهما كانت دواعيه.
إضافة إلى أن محاولات إزالة الدوار أو امتداداته السرطانية في الشوارع وبين البيوت وفوقها سيؤدي إلى انهيار الكثير من منازل أهل العزبة الآيلة للسقوط بطبيعتها، والتي أصبحت مستندة إلى جدران الدوار الأسمنتية المسلحة، أي أن الأمر تجاوز عبد الجبار وأهل عزبته إلى مشكلة هندسية يصعب حلها، وهذه المشكلة ليست قاصرة على أهل العزبة فقط بل يقال أن عبد الجبار يعاني منها هو شخصيا فنظرا للامتدادات السرطانية للدوّار وسط الشوارع والبيوت لم يعد هناك مخارج مناسب يخرج منها المقيمين فيه إن أرادوا الخروج، ولذلك اكتفوا بمعرفة ما يحدث في الخارج عن طريق حرّاس الدوار المحيطين به من كل جانب والحصول عل كل احتياجاتهم عن طريقهم، وقد أعطى هذا قوة وسطوة غير عاديين لشيخ الخفراء والذي أصبح يتباهى بين خاصته بأنه هو الذي يتحكم في عبد الجبار وليس العكس، وأحيانا يراهنهم على تحديد موعد ظهور عبد الجبار خلف الشبابيك الحديدية بإشارة منه.
وأخيرا قرر أهل القرية الذهاب للمحافظ ليجدوا حلا نهائيا لمشاكلهم المزمنة مع عبد الجبار، فاستقبلهم بابتسامة أبوية ملؤها الطيبة والحزم ووعدهم بحل المشكلة في أقرب وقت، وكان واضحا أنه غاضب من تجاوزات عبد الجبار التي تضعه دائما في حرج أمام الحكومة وأمام مجلس الشعب الذي شهد استجوابات كثيرة حول ظاهرة عبد الجبار وشائعات احتمائه بالحكومة مقابل خدمات وتسهيلات متبادلة، وأنه قرر وضح حد لهذا التحدي السافر الذي يمارسه خارج إطار القانون خاصة وأن صحف المعارضة أصبحت تتحدث بصوت مرتفع عن فساد عبد الجبار ورجاله وعن تفشي هذه الظواهر السلبية في القرى المجاورة وفي أحياء بعض المدن وأن هذا يهدد الأمن والسلام القوميين.
وعلى الرغم من كل هذه الاعتبارات والوعود علم أهل العزبة أن عبد الجبار قد قام بعمل الاتصالات اللازمة لاحتواء غضبة المحافظ، ووعده برصف مدخل العزبة وعمل نافورة في وسطها وتعليق لوحات في شوارعها تحمل صورا للمحافظ مع الإشادة بإنجازاته، وإرشاد رجال أمنه على مثيري الشغب ولصوص المواشي والقتلة في العزبة والقرى المجاورة، ويبدو أن السيد المحافظ قد رضي عن ذلك أو على الأقل سكت بعد أن كان يهدد ويتوعد، أو نصحه أحد معاونيه بأن هذه العزبة لا يصلح معها إلا شخص مثل عبد الجبار بقبضته الحديدية ورجاله الذين يعرفون كيف يسيطرون على نزعات الشغب والفوضى التي تراود بعض أهل العزبة وربما تنتقل إلى غيرهم.
وحين تزوج عبد الجبار من عزيزة وهي من أجمل بنات الحي، كان الجميع يرى أن عزيزة تستحق –لجمالها وعراقة أسرتها– زوجا أفضل بكثير، وأن عبد الجبار بطبيعته الجامدة ومشاعره الجافة والباردة لا يعرف قيمة عزيزة ولا يقدر جمالها وجاذبيتها وسحرها، ولكن من المؤكد أن الحاج سالم قبل وفاته هو الذي دفع بهذا الزواج كما هي عادته دائما مع أهل الحي حيث يعتبرونه أبا لهم ويسلمون له بكل شيء حتى بناتهم، وهم لا يجدون في ذلك حرجا فقد ورثوا هذه التقاليد عن آبائهم وأجدادهم ويغرسونها في أبنائهم، وهم كثيرا ما يتفاخرون بها، فطاعة الكبير –أي كبير – مقدمة لديهم على أي شيء.
ومنذ أن تزوجت عزيزه من عبد الجبار لم تخرج من القصر، ولم تزر أهلها، ولم يعلم عنها أحد شيئا، وعرف الناس أن عبد الجبار يمنعها من الخروج ربما لإدراكه بأنها كثيرة عليه وأنها تفوقه في كل شئ فحاول تحجيمها داخل نطاق قصره حتى لا تتمرد عليه، وبعض الذين رأوها منذ سنوات قالوا أنها لم تصبح عزيزة التي يعرفها أهل العزبة والتي تغنى بجمالها شعراء الربابة والصييتة في الموالد والأفراح، وإنما أصبحت كائنا شاحبا ذاهلا لا تتكلم ولا تغني بصوتها العذب الذي كان يذيب القلوب فرحا وطربا، وتوقف عقلها الذي كان مضربا للأمثال في رجاحته.
ومن وقت لآخر كان أهل الحي يرون عزيزة تطل من أحد الشبابيك الحديدية العالية، ومع الوقت بدأت علامات الكبر تتسلل إلى وجهها الجميل (أو الذي كان جميلا) وبدأت التجاعيد تعلن عن نفسها برغم محاولات التزين المبالغ فيها أحيانا، وقد تأكد الآن أن عزيزه تمر بحالة شيخوخه قبل الأوان، وأنها لم تعد زوجة لعبد الجبار بل أصبحت أسيرة لديه، أو درعا بشريا له، فعبد الجبار كان يهدد بقتلها إذا فكر أهل القرية في إزاحته عن العمودية أو فكروا في اقتحام أسوار الدوّار، وهو يعرف جيدا مدى خوف أهل العزبة على عزيزة (وعلى أنفسهم قبلها). وحين توسل أهلها لعبد الجبار لرؤية ابنتهم عارض ذلك بكل ما هو معروف عنه من عناد وتصلب، وقد تسربت أخبار بأن عبد الجبار قد ربط قدم عزيزة بقدمه حتى لا تستطيع الفرار، فعلى الرغم من حراسه الكثيرين إلا أنه لا يثق في أحد، ويبدو أنه يعيش في حالة خوف دائم على الرغم مما يشيع هو عن نفسه من أنه لا يخاف ولا يتأثر بأي شيء.
وقد شاع في بعض الأوقات أن عبد الجبار قد مات وتنفس أهل القرية الصعداء فهم قد تعودوا أن يخلصهم الموت ممن يضيق عليهم حياتهم أو أرزاقهم، ولكن ما هي إلا أيام قليلة حتى بدأ وجه عبد الجبار يلوح من شبابيك الدوار الحديدية العالية وأصبح يتنقل من شباك إلى شباك بملامحه الجامدة المتيبسة والمتعالية، وحاول بعضهم أن يناديه ولكن يبدو أنه قد فقد سمعه لكبر سنه، أو هو يسمع ولكنه لا يشعر بالحاجة للرد على أحد (عنادا أو استكبارا أو احتكارا). ويعتقد بعض كبار السن في العزبة أن الوجه الذي يظهر من شبابيك الدوّار العالية ليس لعبد الجبار وإنما هو وجه أحد أبنائه وهو يلبس قناع أبيه بعد موته، ولا يعرف الحقيقة إلا الله .
وهنا أسقط في يد أهل العزبة وراحوا يطلقون الحكايات والنكات في جلسات الحشيش حيث يضحكون ويمرحون ويبكون وينسون ويمارسون – كعادتهم- لعبة الانتظار.
واقرأ أيضا:
حمار العمدة / ثورة يناير / أحبتنا... بيانا / مناظرة لم تتم / شيكاجو (أزمة المغترب عن وطن مضطرب) 2