لم أعد أجد لدىّ الصبر أو الوقت لقراءة الروايات الطويلة بعد أن كنت أحد المدمنين لذلك النشاط اللذيذ, واستمر ذلك لسنوات عديدة إلى أن عاودني الحنين القديم بسبب ثلاث روايات أولاهما "ساحر الصحراء" لباولو ويلهو, وثانيتهما "عمارة يعقوبيان" وثالثتها "شيكاجو" والأخيرتين للروائي العنيف والهادر والمحرض د.علاء الأسواني, وأقصد بذلك أنه استطاع أن يهز بلادة الإحساس السائدة لدى القارئ المصري والعربي برؤى جديدة ومقلقة ومحركة ومحرضة. ولن أعلق على الرواية كناقد فهذه ليست مهنتي, ولكن كقارئ مصري حركت (أو تعتعت) الرواية وعيه في اتجاهات شتى, ووصلني منها ما توجب عليّ أمانة القراءة فالكتابة نقله إلى من يهمه الأمر.
* اختيار الزمان والمكان:
لماذا شيكاجو, ولماذا قسم الهستولوجي في جامعة إلينوي ؟؟
يبدو لي أن شيكاجو بصورتها النمطية (التي قد تكون صحيحة أو غير صحيحة) في الوعي العربي أنها بلد العصابات ستلقى بظلال وتوحي بأننا حين نتابع سلوك أحمد دنانه (عميل الأمن) وصفوت شاكر (رمز السلطة الأمنية) ومن وراءهم فإنما نحن أمام عصابة تخطط وتحكم وتتحكم, ويصل مكرها وكيدها إلى أبعد مكان في الأرض, وكأن المؤلف يبعث برسالة مفادها أن هذه العصابة تواصل تعقب المصريين حتى وهم خارج أرضهم وتتدخل في حياتهم وتحيلها إلى قلق وجحيم واضطراب.
والجديد في هذه الرواية هو محاولة الرصد للشخصية المصرية ولتفاصيل الحياة المصرية من زاوية بعيدة ومن مكان بعيد حيث وضع المؤلف عدساته وكاميراته (الدقيقة والخارقة) على الجانب الآخر للمحيط الأطلنطي وهذا يعطى القدرة على رؤى أكثر جدة وربما أكثر غرابة, ويعطى فرصة لرؤية الحياة المصرية بشكل أكثر وضوحا خاصة بمقارنتها بالحياة الأمريكية, وقد نجح المؤلف في ذلك أيما نجاح, خاصة حين كان يعرض صورا من الحياة المصرية بكل تناقضاتها وعشوائيتها واضطرابها ثم يعرض صورا للحياة الأمريكية أيضا بكل تحدياتها وتناقضاتها, وقد نجح في الخروج من التعميم الطفلي الساذج بأن الحياة المصرية شر كلها والحياة الأمريكية جنة البشر, فالإنسان هو الإنسان ولكل مجتمع حسناته وسيئاته, والأمر نسبى في النهاية.
وقد استفاد الروائي من اختيار مسرح الأحداث في شيكاجو لكي يوضح من خلاله جدلية العلاقة بين الشرق والغرب, وهذا أمر يبدو أنه يشغل المؤلف كثيرا, ففي روايته السابقة عمارة يعقوبيان، كانت الأحداث تدور في عمارة في وسط القاهرة ولكن هذه العمارة بناها شخص يوناني على الطراز الأوروبي لتسكنها طبقة أرستقراطية محددة تتبنى نمط الحياة الغربية, ولكن بعد الثورة انتقل إليها طبقات أخرى من عامة المصريين ونقلوا إليها عاداتهم وتناقضاتهم, وفى هذه المرة في رواية شيكاجو نقل المؤلف المسرح بالكامل إلى شيكاجو ليرى هذه الجدلية بين الثقافتين (المصرية والغربية) بشكل أكثر وضوحا.
واختيار قسم الهستولوجي في كلية الطب له أكثر من دلالة (الهستولوجي يعنى تخصص دراسة الأنسجة ), فمن ناحية يريد المؤلف أن يقول بأن هذه التدخلات السلطوية تتبع أناسا يعملون في مجال علمي محايد جدا وبرئ جدا, فهم يقضون ساعات يومهم ينظرون في الميكروسكوب ويتأملون الخلايا والأنسجة في جسم الإنسان, أي ليس لهم تطلعات مزعجة لأي صاحب سلطان, مع هذا يضعهم السلطان وأعوانه تحت مجهر المراقبة والتتبع الدقيق لكل تفاصيل حياتهم قبل الهجرة وبعدها.
وإيحاء آخر يصلنا من قسم الهستولوجي, فبما أنه يعنى دراسة الخلايا والأنسجة فنحن أمام مجموعة من المصريين المبتعثين والمهاجرين كل منهم يمثل خلية إنسانية, ولكن ظروف بلدهم المضطربة تحول بينهم وبين أن يكونوا نسيجا متناغما, فكل منهم يسير في اتجاه, وعلى الرغم من تلاقيهم في بعض الأحيان إلا أنه تلاق عشوائي سرعان ما يتباعد بفعل مشكلات وإشكاليات الوطن الأم, وهذه طبيعة تميز المصريين في غربتهم في أي مكان عن أي جنسية أخرى فتجد الكثير من الشحناء والصراعات بينهم بسبب موروثهم من الحياة المصرية المعاصرة المضطربة.
ونلاحظ في كل الرواية أن علاء الأسواني يصحب كل شخصية على حده وأحيانا يرتب اللقاء بين شخصين أو أكثر, ولكن الغالب أن كل الشخصيات تعيش حياة منفردة ومتوازية وأن اللقاءات لحظات عابرة لا ترقى لدرجة التواصل العميق.
* الإسراف في المشاهد الجنسية وتفاصيلها :
وهي سمة واضحة في الرواية (وفي أدب الأسواني عموم) ولا تقتصر على تكرار المشاهد الجنسية في مواقف مختلفة, وإنما تمتد وتظهر في الولع الشديد للمؤلف بذكر التفاصيل شديدة الإثارة. وقد يرى البعض هذا الأمر على أنه توجه نفعي صرف يهدف منه المؤلف إلى جذب طوائف واسعة من القراء (حتى أولئك الذين ينتقدون ذلك النهج علن), فالجنس والعدوان هما من أقوى الغرائز في النفس البشرية, لذلك يلجأ كثير من الكتّاب إلى جذب القارئ من خلال هذه المشاهد التي تتصل بجذور إحدى الغريزتين الجنس أو العدوان, والكاتب هنا يكون في مأمن من الهجوم عليه حيث يستطيع الرد بأنه يتحدث عن نزعات إنسانية, وأن حديثه عنها ضروري للنسيج الدرامي لعمله الأدبي.
وقد يستبعد البعض هذا التوجه البرجماتي للمؤلف ويحاول أن يرى وظيفة لهذه المشاهد الجنسية العنيفة والمثيرة والمتوحشة بشكل لافت للنظر, فيقول بأن أبطال الرواية حين يفتقدون إشباعات كثيرة في حياتهم فهم يندفعون بعنف تجاه المناطق الشبقية في حياتهم فينهلون منها بنهم الجائع والعطشان والمحروم, فحين يعيش الناس في شقاء وغربة وعزلة وحرمان وتعاسة تستيقظ لديهم المشاعر الجنسية كدافع بدائي عنيف يستوفى منه الشخص كل احتياجاته المحبطة على المستويات المختلفة كنوع من التعويض البديل, وهذا التفسير يخضع لنظرية الاحتياجات عند أبراهام ماسلو فحين تفتقد الاحتياجات على المستويات التصاعدية الأرقى (الأمن والحب والتقدير الاجتماعي وتحقيق الذات والتواصل الروحي) تستوفى من مستوى الاحتياجات الأدنى (الطعام والشراب والجنس).
وقد يرى فريق ثالث أكثر خبثا أن الإسراف في المشاهد الجنسية يعود لرغبة كامنة في الاستعراض والاستعراء. ومن الممكن القول بأن المجتمعات المعاصرة أصبحت مصابة بشراهة جنسية نتيجة ما يعرض من وسائل التلويح والتصريح على كل الوسائط الحديثة, والرواية تعكس هذا الواقع خاصة وأنها تقوم بتصوير الأشخاص من داخلهم وفى غرفهم المغلقة ولا تكتفي بالتصوير في الأماكن المفتوحة. وربما يكون ذلك من قبيل العدوان على شخصيات الرواية وعلى القارئ معا بأن يقول لهم الروائي هكذا أنتم تدّعون الفضيلة في العلن وحين تخلون إلى أنفسكم تنغمسون في شهواتكم وملذاتكم, وكأنه نوع من الفضح والتشهير بالازدواجية الأخلاقية.
* الأحلام المجهضة :
حين تتبع شخصيات الرواية تصاب بصدمة حيث تجد أن كل شخصية قد فشلت في تحقيق السعادة, وأن كل الشخصيات اندفعت بسبب الظروف الضاغطة والقاهرة في الوطن الأم إلى نوع من النجاح الأحادي الذي لا يمنح سعادة حقيقية, فهذا كرم دوس انغمس في عمله ليحقق نجاحا علميا هائلا في مجال جراحة القلب كرد فعل على اضطهاده في بلده مصر وحرمانه من وظيفته الجامعية التي كان فيها, ولكن حياته بدت بعد هذه السنوات خالية من الزوجة والأولاد وخالية من أبعاد إنسانية كثيرة.
والدكتور محمد صلاح أستاذ الهستولوجي المرموق في جامعة ألينوني لا يشعر بطعم نجاحه في بيئته الغريبة ويحاول أن يتواصل تليفونيا بأصدقائه القدامى ليستشعر معهم طعم نجاحه, وكأنه يريد أن يتذوق النجاح بالنكهة المصرية, ويدفعه هذا لأن يعيش الحياة المصرية في عزلته حيث يلبس ملابسه القديمة ويستمع إلى الأغاني المصرية القديمة, ويشعر بالفشل الجنسي والإنساني مع زوجته الأمريكية كريس ويحاول العودة إلى حبه المصري القديم "زينب رضوان" لعله يوقظ مشاعره السابقة. وحين لاحت أمامه الفرصة ليلقى بكلمة حق أمام الرئيس إبان زيارته لشيكاجو ويتخلص من خوفه القديم ومن إحساسه بالعار ومن إحساسه بالدونية أمام وطنية وجرأة حبيبته زينب رضوان نجده يتخاذل مرة أخرى في اللحظة الحاسمة ويخرج من جيبه ورقة مليئة بالمدح للرئيس وبعدها لا يحتمل صورة ذاته الضعيفة المستسلمة الخائفة الذليلة فيتوجه بعدوانه نحوها وينتحر رغم ما حققه من نجاح علمي في مجال تخصصه, وقد كان يعتقد أن في النجاح العلمي تعويض عن الموقف الوطني ولكنه اكتشف أن هذا غير صحيح وعاوده صوت زينب رضوان وهى تعترض على هذه المقولة (المهرب) التي تراود كثيرين من الناس حين يحتمون بإنجازاتهم وتفوقهم العلمي من مواجهة مواقف حياتية تحتاج إلى تكلفة لا يقدرون عليها.
أما ناجى عبد الصمد (ذو التوجه اليساري), والذي يلقى عليه الكاتب غلالة من الأهمية والإعجاب على مواقفه المعارضة ويضع أقواله ببنط عريض طوال الرواية (في حين يبرز الروائي المتدينين في صورة سلبية على أنهم مدّعين ومستغلين للدين), فهو أيضا محبط ولم يستطع تحقيق أي من أهدافه الثورية أو حتى الأدبية.
وأحمد دنانة (رئيس اتحاد الدارسين المصريين وعميل المباحث), الشخصية الكريهة التي صب عليها المؤلف جام غضبه وقرفه واشمئزازه, ونجح من خلال وصفه الدقيق أن يستعدي عليه القارئ بشكل قوي ليكرهه ويلعنه طول الوقت ويلعن من وراءه ومن استخدمه, هذه الشخصية الكريهة والتي نقلت كل مساوئ المجتمع المصري وكل مساوئ الممارسات السلطوية الأمنية إلى شيكاجو, وتتبعت تفاصيل حياة المبتعثين والمهجرين المصريين وتحكمت في رقابهم من خلال الترغيب والترهيب والضغط بإمكانية اضطهاد وتعذيب أهليهم في مصر, هذه الشخصية بكل بشاعتها وتشوهها وانتهازيتها وتزويرها نجدها في النهاية تخسر حياتها العائلية وتتحول إلى حذاء في قدم صفوت شاكر رمز السلطة.
وصفوت شاكر نفسه, على الرغم مما قام به من تعذيب واضطهاد وتحكم في رقاب العباد في مصر وفي شيكاجو إلا أن أحلامه لم تتحقق في أن يكون وزيرا أو أن يتبوأ منصبا أعلى, ولم يتبقى له إلا كراهية الناس ودعوات المظلومين والمقهورين عليه.
وقد احتفظ المؤلف للرئيس بشحنة هائلة من العدوان اتضحت في الصورة الأدبية التي رسمها له, ثم في موقف المصور له أثناء الزيارة وإعلانه بأنه أصبح خارج الكادر, ثم إحباطه حين لوح للواقفين مقابل باب القنصلية ظنا منه أنهم وقفوا لتحيته ثم اكتشف أنهم يتظاهرون ضده, كل هذا يضع شخصية الرئيس في خانة الأحلام المجهضة شأنه شأن بقية الشخصيات في الرواية, وهكذا تختتم الرواية دون أن ينجح فيها أحد ليبقى الناجح الوحيد هو مؤلف الرواية الذي جذب اهتمام كم عدد هائل من القراء حين هضم الشخصية المصرية وكل مساوئ الحياة المصرية في الداخل والخارج وأخرجها لنا في ثوب أدبي جميل ومؤثر ومنفر معا.
* العنصرية :
وإذا كان المؤلف قد صدمنا بسلبيات الحياة المصرية في الداخل والخارج إلا أنه أيقظنا على مساوئ الحياة الأمريكية بالمقابل أو بالتوازي وذلك من خلال شخصية كارول الفتاة الأمريكية السوداء التي تعانى من عنصرية المجتمع الأمريكي ونبذه لها إلى الدرجة التي تجرح مشاعرها الإنسانية جروحا غائرة ومتكررة وتضطرها في النهاية لأن تجعل جسدها وسيلة للترويج لبعض السلع التجارية ثم تبيع هذا الجسد لصاحب الشركة, ويستغلها فرناندو الشاذ كمادة إعلانية تسويقية يبتذلها كيفما شاء مقابل لقمة عيشها وعيش ابنها.
إذن فليس صحيحا أن المجتمع الأمريكي في السنوات الأخيرة قد تخلص من عنصريته على الرغم من القوانين التي تجرم تلك النزعة إلا أن العنصرية ما زالت رابضة وقوية في نفوس الأمريكيين البيض يمارسونها بشكل فج وجارح ولكن لا يضعهم تحت طائلة القانون. وهكذا لا يجد غالبية السود غير الفقر والجهل والمرض والجريمة في أحيائهم الفقيرة ويتحولون إلى قنبلة موقوتة تهدد سلام المجتمع الأمريكي من خلال الجريمة الفردية أو المنظمة.
ويتبع >>>>>>>>: شيكاجو (أزمة المغترب عن وطن مضطرب)2
واقرأ أيضا:
حمار العمدة / ثورة يناير / أحبتنا... بيانا / مناظرة لم تتم / الرهينة