نظر إليها الطبيب في ارتياب وقال لها: وماذا يستفيد الجن من الإنس من هذه العلاقة المزدوجة؟ هل قرأت في هذا أيضاً؟
قالت: إنها علاقة تكاملية، فالجن يعيش مع الإنس في نفس المسكن يأكل من طعامه وغير ذلك، أما الإنس فأحيانا يحل له الجن بعض مشكلاته البسيطة وهذا كله يتوقف على رغبه الجن في تطوير العلاقة.
قال الطبيب: وهل وصلت العلاقة بينكما إلى مرحلة التجسد؟
قالت: لا لقد طلبت منه ذلك لكنه قال إنني لن أتحمل هذا الموقف.
سألها الطبيب:وما هي طبيعة العلاقة بينكما؟ هل طلب منك أن يكون زوجا لك؟
ردت: نعم لقد طلب أن يكون مثل زوجي لكني رفضت وأخبرته أنني أحب زوجي ولا أتحمل أن أكون لشخص غيره، فزواج الجن من الإنس يكون مرهقاً للإنس أكثر نتيجة اختلاف طبيعة جسد كلا منهما عن الآخرين ويؤدي غالباً إلى إيذاء الإنس.
قال الطبيب: وما هي المشكلة إذا كنت قد تعودت على وجودة في حياتك منذ فتره طويلة، ما الذي زاد على علاقتكما وسبب لك المشكلة؟
قالت: في الفترة الأخيرة توترت العلاقة بيني وبين زوجي نتيجة وجود مشاكل في عمله أثرت في علاقته مع الجميع، ثم فوجئت بأن هذا الشخص يحاول أن يخرجني مما أنا فيه، فأخذني معه ذات ليلة في الحلم إلى مدينته التي اكتشف أنها المدينة التي أزورها باستمرار في أحلامي بنفس بيوتها ومحالها وطرقاتها، وأخذني وعرفني إلى زوجته وتنقلنا في طرقات هذه المدينة، بل جعلني أشاهد مدخلها الذي يقع أسفل أحد الكباري القريبة من منزلي، ذهبت معه عدة مرات في مناسبات مختلفة، والآن أنا أجد نفسي كل ليلة أحيا فيها معهم كأني واحدة منهم حتى بدأت أفقد إحساسي بحياتي العادية، بدأت أجد صعوبة في التفريق بين ما أعيشه في الحلم وبين ما يحدث فعلاً في الواقع، لم يعد يأخذني إلى هناك فهو لا يأتيني كل ليلة لأن اليوم عندهم يختلف عن يومنا، فهو ليس أربع وعشرين ساعة مثلنا بل إن يوما واحدا من أيامهم ربما يساوي عدة شهور من أيامنا، وأعتقد أن هذا هو السبب في امتداد أعمارهم كل هذا القدر، لقد بدأت أهرب من واقع مشاكل حياتي إلى هناك كل ليلة مع علمي التام أنه ليس معي، أريد أن أعود إلى حياتي، لقد اقترحت على زوجي أن أذهب إلى أحد الشيوخ المشهورين للعلاج لكنه لا يعترف بما أنا فيه فهو يقول أن ما أعانيه مجرد اكتئاب نتيجة ضغوط مشاكل عمله التي تؤثر في عقلي وأعصابي، إنه لا يفهم ولا يريد أن يصدق كل ما رويته الآن.
قال الطبيب: هل تستطيعين أن تثبتي أي شيء مما قلته لي الآن؟ إذا استطعت ذلك فسنصدق كلنا ما قلته.
قالت: لقد قلت لك إن العلاقة تعتمد على إرادة الجن وليس الإنس، فأنا لم أحضر أحد العفاريت بطريقة شيطانية لآمره بفعل ما أريد، بل هو يأتيني بكامل إرادته ولا تدخل لي في هذا نهائيا، وبإجابة صريحة لا، لا أستطيع أن أثبت لك حرفا واحدا مما قلت إذا كان هو لا يريد ذلك.
قال الطبيب: ولكن كيف نصدق أن ما بك هو مس من الجن كما تدعين، وليس مرضاً نفسياً يجعلك تهربين من الواقع إلى قصه وعالم خيالي مثالي بعيد عن مشاكلك الحالية.
قالت: إن ما بي ليس مسا من الجن، فالمس يختلف تماما عما أنا فيه، المس فيه إيذاء للإنس وأنا لم أتأذي من وجوده معي يوما، وقد قلت لك إن هذا الأمر مستمر معي منذ سنوات طويلة، قبل حتى قبل أن التقي بزوجي أو أتزوجه كما أن هناك أمورا كثيرة قد حدثت معي لم يمكن لها أي تفسير، غير أن هناك من ينقل لي أخبار أناس أبعد عنهم مئات الكيلومترات، فأحيانا عندما يكون زوجي مسافرا خارج البلاد أشعر بالقلق عليه إذا تأخر في مهاتفتي، وكنت أذهب إلى النوم وبعدها كنت أراه في غربته وأرى ما الذي يفعله في تلك اللحظة، وأعرف أخباره بهذه الطريقة، وكذلك إذا تأخر أحد من أولادي بالخارج ولا أعرف أين ذهب ولا ماذا جرى له كنت بعد فترة من القلق أسمع صوت هذا الشخص يهمس في أذني بأنه بخير، وأنه في طريقه إلى المنزل وفعلاً بعد فترة بسيطة أجده عائدا، أيضاً قبل زواجي عندما كنت أذهب لقضاء الليلة عند إحدى عماتي في مدينه أخرى ويحدث أي شيء عند والدتي كنت أعرفه على الفور حتى أنها تفاجأ عند عودتي بأني عرفت ما جرى عندها دون أن يخبرني أحد بذلك.
نظر إليها الطبيب وقال: ألا تخشين من رد فعله إذا عرف أنك قد بحت بسره إلى زوجك ولي؟
قالت: لا.. إنه لن يغضب لأني لم أبح بشيء غير معروف، كل ما قلته الآن موجود في كتب كتبها كبار علماء الإسلام، وليس هناك ضرر من أن أقول ذلك لأحد.
سكت الطبيب ثم نظر إلى زوجها كأنه يريد التأكيد من حالتها العقلية عبر نظرات زوجها لها ثم قال لهم: إن ما تعانيه مرض نفسي معروف بالذهان، وهو انفصال الشخص عن الواقع وحياته إلى عالم خاص من صنع خياله، وهو مرض مزمن يجب أن يؤخذ له علاج مدى الحياة حتى لا تتفاقم الحالة أكثر من ذلك وينفصل المريض كلياً عن واقعه، وسوف أكتب لك بعض الأدوية التي ستخفف من حدة حالتك لكن يجب أن تستمري في تناول العلاج على الأقل ستة أشهر حتى نعرف النتيجة، ويجب أن أحذرك أن العلاج له آثار جانبية أهمها زيادة فترات النوم وعدم القدرة على التفكير أو الإبداع، فلن تستطيع مثلاً الكتابة أو عمل أي شيء اعتدت عليه، لكن سوف تنتهي كل هذه الوساوس من عقلك، وسوف تتحسن حالتها تدريجياً ولكن ببطء ويجب أن أحذرك من عدم الانتظام في أخذ الدواء بالجرعة التي سأكتبها لأن ذلك قد يؤدي إلى تفاقم الحالة حتى تصل إلى حد الرغبة في الموت أو حتى محاولة الانتحار وسوف أراك مرة أخرى بعد ثلاثة أشهر حتى نرى نتيجة الدواء.
انهمك الطبيب في كتابه الدواء بينما نظرت هي إلى زوجها كأنها تسأله التدخل لوقف هذه المهزلة، لكنه أطرق ناظرا إلى الأرض فلم تجد مفرا من أن تتكلم، قالت وقد ارتفع صوتها: لكني لا أريد أن أنام فترات طويلة، إن لدي أطفالا صغارا، أريد رعايتهم كما أني أعمل كاتبة في إحدى الصحف ورأسمالي هو تفكيري وكتاباتي لا يمكن أن أدمر كل هذا بالدواء، أرجو أن تصف لي أي نوع من الأدوية لا ينتج عنه هذه الآثار الجانبية السيئة.
رد الطبيب للأسف إن هذا هو الدواء الوحيد لحالتك..
نظرت إلى زوجها بعيون تملؤها الدموع.. وتناولت الروشتة من يد الطبيب بيد ترتجف من التوتر، وخرجت مع زوجها تفكر في عدم تعاطي هذا الدواء مهما ساءت حالتها النفسية.
دق الطبيب الجرس للمساعد، وسأله عندما دخل عن عدد المنتظرين فقال له أن هذا كان آخر المنتظرين، فقام الطبيب واستبدل ملابسه وارتدى معطفاً ثقلا وتوجه إلى الشارع، استقل سيارته وقادها متوجهاً إلى منزله وهو يفكر بعمق في كل ما قالته تلك السيدة المسكينة، ثم نظر إلى ساعته فوجد أنه قد تأخر عن موعده اليومي معها! وأنها سوف تغضب مرة أخرى من ذلك وسيكون عليه أن يعتذر، ويعتذر، ويقضي الليل بطوله ساهرا معها محاولا إرضاءها حتى يطلع عليه الصبح وهو لم يأخذ كفايته من النوم عادة. ليذهب إلى عمله وهو متعب يتثاءب ويبدو عليه الإرهاق الشديد، أحسن ساعتها برغبة في عدم العودة إلى منزله، برغبة في مواصلة القيادة إلى أبعد مكان، لكنه يعرف أنه لن يستطيع الابتعاد عنها أبدا وأنها سوف تعرف مكانه لا محالة وساعتها قد تحاول الانتقام منه، وتذكر اضطرابه أول مرة رآها فيها منذ سنوات طويلة جداً، كانت أجمل من رأى في حياته كل ما كان يريد أن يمتلك في المرأة، حيويتها وتجددها وشبابها الدائم، كل هذا أعطته له بدون مقابل، أسعدته بنفس القدر الذي أرهقته به استغنى بها عن كل النساء عن كل البشر عن كل الحياة، كان ذلك منذ عشرات السنين لكنه الآن لم يعد قادراً على مجاراتها في شبابها الدائم، وبات يخشى أن تنتهي حياته على يديها.
أخذ نفساً عميقا من هواء الليل خارج منزله، ثم مد يده بهدوء وفتح باب المنزل، وعندما دخل وأغلق الباب وأضاء النور جاءه صوتها جميلا حالما رقيقا لكن حازما كما اعتاده.. قالت: كل ليلة تأخير... ألا تعرف أنني أنتظرك على أحر من الجمر.. يا حبيبي؟
التفت ببطء ليواجهها، وجدها تجلس على أريكتها المفضلة تنظر إليه بحب وشوق ورغبة، كانت قطة كبيرة بيضاء اللون ذات عيون زرقاء واسعة كأنها بحر نقي لا يلوثه شيء...
نظر إليها وابتسم قائلا: آسف يا حبيبتي، أنت تعرفين ضغط العمل وتعرفين أيضاً حبي لك، ورغبتي في تمضية كل دقيقة معك لكني مضطر إلى العمل، لأن حياتنا تختلف عن حياتكم، فلابد لنا من العمل لنعيش..
نقلا عن جريدة الدستور عدد 103