الكاتب: حفيظة طعامالبلد: المملكة المغربيةنوع العمل: قصة قصيرةتاريخ الاضافة 17/01/2008 تاريخ التحديث 23/07/2019 22:27:15 المشاهدات 4384 معدل الترشيح
منذ زمن ليس بالبعيد، سكن رجل مجنون يدعى فراس إحدى القرى النائية المنعزلة، فأصبح من أشهر مجانينها وأعظمهم جنونًا، تعوده الناس هناك وتعودوا وجوده حتى صار من الصعب تخليهم عنه. والعجيب في الأمر أن هذا المجنون لم ير نفسه يومًا مجنونًا. لطالما اختار لنفسه نمطا جنونيًا خاصًا به. كانت تكسو ملامحه مسحة من التكبر والغرور.. فلا تراه حافي القدمين أو ممزق الثياب رغم آثار القدم. كان طويل القامة نحيل الجسم وقد غزت وجهه لحية عبث بها الشيب أما رأسه فقد غطاه شعر كثيف، يرفعه عن عينيه بنظارة كبيرة يربطها بخيط شديد السواد. تختصر كل ممتلكاته تقريبًا في مجلد يتأبطه تحت ذراعيه قيل أنه ديوان أبي العلاء المعري في وسطه يدخل قلمًا يرشده إلى الصفحة التي يتوقف عندها أو يحتاج إلى الرجوع إليها. بهذه المواصفات استطاع أن يكون هذا المجنون متفردًا بجنونه فاكتسب بذلك رهبة لا تقاوم فما طارده الأطفال يومًا ولا حط من شأنه الكبار.
فراس لا يعرف له ماض ولا يدري أحد من أين أتى، وفي حاضره عرف مجنونًا يتخذ أحد الأكواخ مسكنا، يطل كوخه على جبل كبير يطوق القرية التي تناثرت بيوتها هنا وهناك. وقد عرف المجنون بعادة غريبة، استغربها السكان بادئ الأمر ولكنها سرعان ما صارت عادة ثم حاجة لأن البعض اتخذها ميقاتا يستيقض عليه. فما إن تبدأ خيوط الفجر الأولى في البزوغ حتى يطلق صرخة مدوية في السماء يتكل الجبل فينقل صداها إلى كل الأسماع والجهات. بذلك كانت صرخته تلك كل ما نطق به فراس فلم تسمع له كلمة ولا حدث أحدًا. إلا أنه حز في نفسه أنه لم يسأل يومًا عن سبب صراخه لذلك فهو يعتبر أولائك مجموعة من الأغبياء والمجانين يقتاتون من فتاة العادة والتعود...؟؟؟ دون محاولة طرح الأسئلة لاكتشاف العالم.. وقد اعتبر نفسه الوحيد العاقل والذكي وحده يدرك حجم الكارثة إذن هو لم يصمت عبثًا.
وفي أحد الأيام قرر فراس أن يفشي جنون سكان القرية ويخبرهم بما يترصدهم من شرور فاختار من أيام الأسبوع يوم الخميس. فيه يقيم السكان سوقًا شعبية تستقطب الصغار والكبار النساء والرجال.. نهض كعادته مبكرًا واتجه صوب مكان السوق. استغرب الناس حضوره، فزمجر بعضهم وسخط، كما سخر بعضهم الأخر ووشوشة النسوة، واعتبر جمع آخر أن حضوره نذير شؤم. بدأ زغلول في الدوران حول نفسه ثم اتخذ من إحدى العربات المرتفعة مكانًا له ليستطيع مخاطبة الجميع.. تنحنح رفع نضارته أحكم مسك كتابه وباشر الجميع بالحديث قائلا:"يا قوم....." ثم صمت ينتظران يلتف الجميع حوله وفعلا التم الجميع دهشة لأنهم لأول مرة يسمعون حديثه بعدما ظنه أغلب الناس اخرسًا.. ولما استشعر المجنون صمت الجميع بدأ خطبته العصماء: "يا قوم أتدرون أنني صاحب تلك الصرخة كل صباح..؟؟ نعم أنتم تدرون ولا أنتظر منكم إجابة ولكن ما حرك سكوني بعد طول صمت هو تقبلكم لكل شيء ببساط فأنتم لا تشغلون فكركم ولا تطرحون الأسئلة.
انتظرت أن يسألني أحدكم ذات يوم عن سبب صراخي.. ولكن لا أحد...؟؟ نعم كيف تخاطبون مجنونًا؟؟ على الأقل لو عملتم بالمثل القائل خذوا الحكمة من أفواه المجانين.. المهم أنني أردت جمعكم لأنبهكم لأمر رهيب يحدث هناك خلف الجبل.. هناك من يكيد لكم بالشر هناك من يحاول اقتلاعكم من فوق الأرض.. يا قوم إن للشر جناحيين أراهما ينموان يومًا بعد يوم.. عليكم بالمغادرة قبل أن يفتك بكم الوحش.. وقبل أن ينهي المجنون خطبته قاطعه الناس ثائرين، يشتمونه ويرمونه بالحجارة، وبكل ما يحملون في أفواههم وأيديهم.. في هذا اليوم سجل المجنون سقوط رهبته وتكسرت قيمته.. فراح يلملم أشلاء هزيمته النكراء إلا أنه كان يدرك أنه سيبكي قليلا لكنهم سينتهون هو قال كلمته والساكت عن الحق شيطان أخرس.. وهام بالرحيل على وجهه. لكن الناس ضحكو كثيرًا في ذلك اليوم ولعنوا ساعة سولت لهم انفسهم فيها الاستماع إلى مجنون وعادوا إلى أعمالهم.
وبعد مرور أشهر قليل لم تسمع صرخة ولم يرى وجود لفراس. وفي أحد الليالي كان الليل بهيمًا.. يغط في نصفه الأخير.. وكان الجميع يندسون في بيوتهم.. ينعمون بحرارتهم ويحلمون بغدهم.. فجأة تزلزلت الأرض من تحتهم ومن فوقهم فنغصت أحلامهم واستيقظوا مرعوبين الكل يتوجه نحو الخارج ينشد النجاة.. عمل الكبار على لم الحشود في أعلى ربوة كان الخوف يكاد يقتل قلوبهم نظروا إلى مصدر كل هذا وأدركوا أن ما أحدث كل هذا يركن خلف الجبل.. وأنه قد حركه.. وبعد دقائق ترك الجبل من جديد ومن خلفه ظهر وحش رهيب يتطاير اللعاب من فمه والشر من عينيه الناريتين.. شرع الجميع في الهروب.. ولكن الوحش كان أسرع هو من تابع فراس ولادته وهو من يشاهدونه كامل النمو. عندها فقط اعترفوا بجنونهم.. وصرخ أحد الشيوخ قائلا: "صدق المجانين ولو كذبوا..." ولكن بعد أن صار في بطن الوحش. من مذكرات غرفتي واقرأ أيضاً: أنا تشهد موتها/مأساة/حفاظا على العرش/رجل بلا ظل/همـس قلبين