وهي تشتري الذرة المنفوشة، كانت تتكلم في غنج ودلال.. تخلط لهجة الدارجة بكلمات فرنسية.. تبتسم أكثر مما تتكلم، البائع صاحب اللحية السوداء لم يجد بدا من استراق النظر إلى شعرها المنسدل على كتفيها.. إلى صدرها البض... إلى ردفيها وهي تنصرف من عنده. انتبه إليها شاب أنيق ذو بذلة سوداء ونظارتين سوداوين.. تبعها.. كان يسير بمحاذاتها، تشجع وألقى التحية، ردت عليه: بونسوار. وقف أمامها كأنه يريد أن تكون آذانا صاغية لكلامه وقال:
- اسمي هشام وأنت؟
- أوكي.. أنا مارية، ثم أخذت تبتسم.
شفتاها دسمتان.. الأسنان ناصعة البياض.. خفق قلبه كما لم يخفق من قبل، غازلته أحلام بيضاء.. انتبه لنفسه فأضاف:
- اسمعي يا مارية، أنا لا أعرف من أين أنت ولا ماذا تشتغلين.. ولكن الذي أعلمه علم اليقين الساعة هو أني أحبك وعازم على الزواج منك، فأنا ميسور الحال والحمد لله، أخوك تاجر بالجملة ولا فخر..
حدجته بنظرات متسائلة.. ثم تابعت سيرها قائلة:
- بهذه السرعة؟ على كل حال فأنا مجرد ضيفة هنا.. سأعود إلى أهلي ببومية، و..
قاطعها متلهفا لإضافة بعض المزاح لنقاشهما:
- دعيني أخمن.. ثم بعد برهة: لعلها مدينة ساحلية جميلة مثلك؟
قهقهت قليلا قبل أن تعلق:
- لو رأيتها لأدركت فعلا أنك تسخر مني.. على كل حال دعـني أصفها لك: عندنا في فصل الشتاء تغرق في الوحل وفي غير ذلك يتطاير الغبار عند كل هبة ريح أو حتى مرور سيارة.. نكد في نكد..
لم يبد أي استغراب، فذاك حال معظم المدن.. ثم تجاذب معها أطراف الحديث ولم يغادرها حتى أخذ رقم هاتفها وبريدها الإلكتروني.
أمام مقهى مملوءة بالزبناء، كانت تسير الهوينى بجسد متراقص.. تتحدث على هاتفها المحمول.. طريقة كلامها وشكل لباسها يدلان على أنها من الجاليات المقيمة بالخارج.. نسمات من الحب الجارف تزكم الأنوف.. أحلام وردية طفقت تخرج من شرنقتها من بين الضلوع.. آهات مكتومة تنفلت من الأعماق.. عيون الجالسين بلا حراك جاحظة.. نهض شاب وهو مسلح بتسريحة الديك وسارع إلى زاوية الشارع ووقف هناك ينتظر، عندما مرت أمامه تبعها، سلم عليها.. ردت السلام ،استبشر خيرا.. رأى نفسه يسير في شوارع باريس.. ثم يعود إلى حيه المهمش بسيارة جميلة ورصيد مهم.. انتشلته من أحلامه..
- وي؟
لم يدر ما يقول وبم يبدأ الكلام، لم يسبق له أن احتار كما احتار الآن وهو المتخصص في مغازلة الفتيات، أخيرا قال:
- اسمي سمير، أستاذ متدرب.
- تشرفت، أنا مارية، ضيفة هنا ليوم آخر.
تنهد وهو يتحسر.. ابتسمت، رمت شعرها المنسدل بحركة من رأسها إلى الوراء، اقترب قليلا منها وأردف:
- اسمعي يا مارية، لقد وقع حبك في قلبي، وفي حركة مسرحية انحنى برأسه واضعا يده اليمنى على صدره ومادا اليسرى ثم قال في صوت شاعري:
- هل تقبلينني زوجا يا أميرة القلب؟
أغرقت الأميرة في الضحك وهي تلاحظ توقف بعض المارة.. رفع رأسه غير مبال ثم جذبها من يدها اليمنى وتابعا السير، شعر بفرحة كبيرة لهذا النجاح الباهر في كسب ودها، ولم يتركها حتى أخذ رقم هاتفها وعنوانها الإلكتروني..
لم يمض عليها يومان حتى تعرفت على كثير من الشبان وبعض الرجال ، وكلهم نثروا ورود الحب أمامها وشكوا لها لواعج العشق والهيام.. بعد عودتها بأيام قليلة أطلت على بريدها الإلكتروني فكانت المفاجأة.. عشرات الرسائل المشحونة بألفاظ الغرام وبعض العتاب.. تصورت أنها قد لا تنتهي من قراءتها، لفت انتباهها كون بعضهم قرر تقديم تضحيات من أجلها، فالظفر بغزال يستحق ذلك قال أحدهم.. سمير أقسم هو ألا يتزوج غيرها..
هشام سيرسل لها مبلغا من المال عربون المحبة الخالصة ودليلا قاطعا على عدم الطمع في أي شيء آخر..
السائق أحمد عزم على تطليق زوجته من أجل سواد عيونها.. أخذت تفرك يديها وهي تضحك إلى حد الثمالة، فجأة تسمرت عيناها على الشاشة لكأنها شاشة سحرية تنظر إليها ولا ترى شيئا.. تساءلت في خاطرها: كل هذا الحب يا شباب وفي هذا الوقت الوجيز؟ أين كنتم منذ سنوات خلت؟ أتـُكتب عليّ العنوسة حتى الرابعة والعشرين من عمري فلا أظفر بزوج كيفما كان؟
بسرعة تضاهي سرعة خواطرها وبعد أن تأكدت من أن حكاية السحر.. "العكس".. مجرد خرافة شعبية ،همست في خاطرها: لنحسم الأمور يا شباب، ثم أطلقت لأناملها العنان على المرقـنة، فكتبت رسالة قصيرة وبعثت بها إلى كل هؤلاء المغرمين: "اسمع يا أخي، أنا مجرد فتاة مغربية.. مستوى باكالوريا.. حاليا انقطعت عن الدراسة، ما طرت يوما في السماء ولا رأيت البحر بعيني.. فإن كنت حقا معجبا بجمالي كما كنت تقول وعازما علي الزواج مني فأهلا وسهلا، وإني أعدك أن أكون المرأة الصالحة والزوجة الوفية والسلام"
من يومها لم تتلق أي رد.
واقرأ أيضا:ً
خـرج ولـــم يـــعــد / قنبلة موقوتة / أيام سوداء / ركلة العمر / بـيـن نـاريـن / حالة غضب