بقامته الطويلة وجسمه الضخم كان يقف أمام باب خشبي يكاد يخرقه، هو رجل في الخمسين من عمره.. بدلته الأنيقة أثبتت انتمائه البرجوازي، في يده كان يحمل ملفًا يحركه وكأنه يستعمله كتهديد.. كان مرتبكًا غاضبًا ساخطًا يكاد يقتلع الباب ثم صرخ مخاطبًا من هم في الداخل: "هيا أسرعوا في إخلاء المكان، اخرجوا، غادروا.. صبرنا عليكم بما فيه الكفاية يا حثالة البشر.. إلى متى نتحمل تبعاتكم متى ينصفنا الله ويمحو وجودكم إلى الأبد لقد أغضبتم العالم بفقركم وتذللكم لنا نحن الأغنياء متى نسكت نباحكم المتكرر أمام قصورنا قاطعتم سهراتنا وفرقتم بين المرء وزوجه.. "سكت برهة ثم واصل من جديد: "هيا لا وقت لدي أضيعه لا بد من وضع حد لاختراقكم للقوانين.. ولم وضع حد لحياتكم...؟؟؟" قالها وهو يملأ المكان قهقهات.
خلف الباب لم تكن تقبع إلا امرأة بلا ملامح مع طفلين بلا ملامح طفولية باهتة وجوههم وجافة هي شفاههم فرت من أجسادهم الصغيرة رائحة الحياة.. كانت الأم الحزينة أتعس نساء الدنيا كانت مأساة حفر تفاصيلها طفلين لا تعيش إلا لأجلهما.. وحركتها قساوة كلمات صوبها نحو قلبها ذاك البرجوازي الضخم صوبها سهامًا نارية من القلب إلى القلب.
في ذهنها المتعب تتسابق ألاف الأسئلة التي لا تجد أي جواب لها أين يمكن لها أن ترحل بمأساتها أين تنقل جرحها أين تتقيأ ألامها هي لا تعرف من الأماكن إلا مكانًا شهد ولادة مأساتها ولكنها أحبته واليوم هو يشهر بها ويلفظها إلى الخارج لقد رسم لها اليوم مصيرًا أصفرًا وتركها مرساة لا ترسو.. هي اليوم والعدم سواء..
أسرعت في لم أغراضها التي تعد وتحصى.. وضعتها في رزمة. اقترب طفلها الصغير منها قائلا:"أماه دعي عنك سأحملها في سيارتي.." تنهدت بعمق ثم ضحكت.. "سيارة..؟؟ لقد كفرت يا صغير.. لولا انك ملاك لأثبتت عليك الجريمة لا يحق لك سرقة ألفاظ من قواميس الأثرياء أو على الأقل الأحياء.. الحمد لله أنك طفل الحمد لله.."كم هي فقيرة أحلام أطفال الفقراء كم هي ساذجة؟؟ ولكن جميل أن نبتسم في عز المأساة والأسوأ أن عمر الابتسامة قصير لأن الرجل عاود الصراخ بل أراد الدخول لكن السيدة بادرته بالخروج، دخل الرجل وهو يمد أنفه ثم تعجب قائلا: "يالنتانة المكان.. ولكن ماذا سيخلف الفقراء خلفهم إلا روائح النتانة والعفن..".
ثم ناد خادمه مروان: "مروان مروان عليك بالقيام بإجراءات الهدم مباشرة لن يصلح المكان إلا لمركز تجاري حرام أن تنتهك حرمة هذا المكان. الآن فقط يمكن أن أشعل سيجارة وأتمتع بما حققت من نجاح.. "وهو على هذه الحال من الرضا حتى رن هاتفه النقال فأسرع في الرد بسرعة وهو يحاول انتقاء كلماته: "نعم سيدي.. كل شيء على ما يرام لقد سحقناهم.. يمكنك أن تنام مرتاحا من اليوم...".
في الجانب الآخر من الطريق كانت السيدة المأساة تجر أذيال الخيبة في خطوات متثاقلة ومتلعثمة تسير دون هدف، دون أمل، دون مشاعر، هي جسد شاغر أضنته ويلات الحياة لم تذكر يوما سعدت فيه. الفقر وحده تكرر في كل مشاهد حياتها هي تعي حقيقة واحدة وهي أن الفقر رسالة تثقل كاهل الفقراء يحملونه في أحشائهم وقلوبهم وفي كل جزء من كيانهم وجسدهم ولكنه حمل غادر سرعان ما ينقلب عليهم ويطعنهم من الخلف فلن يموتوا إلا وهم فقراء على قارعة الطرقات ذاك هو انتقام الفقر من يوم انتسب فيه للفقراء.
من مذكرات غرفتي
يوم 30-مارس-2006
واقرأ أيضا :
أنا تشهد موتها / حفاظا على العرش / المجنون / رجل بلا ظل / همـس قلبين