يستذكر دروسه في صمت الليل الذي يصيب بالصمم! حين يقترب موعد وصوله يأخذ في التسمُّع تلقائيًّا، عادة أكسبته إياه ليالٍ متتابعة، يسمع صوت محركات القطار قادمًا من بعيد ضعيفًا؛ تحركه الرياح وتطيح به هنا وهناك؛ فتقربه تارة وتبعده أخرى.
حين يسمع صافرته القاسية تتتابع عالية، يتبعها صرير عجلاته الحديدية القاسية محتكة بقضبانه؛ يعلم أنه قد دخل المحطة، متوسطًا الرصيفين ذوي البلاط الأصفر الذي أبهتته كثرة رواح ومجيء راكبي القطارات.
حوالي خمس دقائق؛ لا تزيد غالبًا، يتأهب لسماع صوت باب منزلهم السفلي يندفع محدِثًا جلبته المألوفة، فقد هذا الباب مفتاحه منذ زمن، فقط إذا دفعته بشدة مناسبة فإنه ينفتح، يشعر براحة غريبة حينئذ وأمان كان مفتقدًا!
قبل أن يدخل عليه غرفته يتصنع والده حركات وأصوات مبهمة؛ حتى لا يفزعه إذا دخل فجأة، تلتقي أعينهما في ابتسامة هادئة صافية، يتجاوبان السلام والرحمة، يضع أمامه كيسًا قد امتلأ بالفاكهة حينًا، وحينًا خبزًا، وربما وضع أمامه بضعة أكياس صغيرة من لب عم «علي» ذلك الرجل القصير الأسمر، الذي يجوب القطار بمشيته الملتوية المترنِّحة! صائحًا: لب!
يوجِّه إليه والده سؤاله المعتاد: هيه.. كيف الأخبار؟
يبدأ في السرد والحكاية، من أتى البيت.. ومن سأل.. ومن اتصل..
تعليقات جانبية من والده على سرده بين الحين والآخر، ثم يقوم فيبدأ ليلته؛ يسمع نشرة أخبار الثانية عشرة، يشغل الموتور حتى يملأ خزان المياه، يصلي ركعتين، ويبدأ يتحرك في أرجاء البيت هنا وهناك.
عند ذلك فقط يأتيه هو النوم؛ يغمض عينيه مرتاحًا بعد أن عاد رب البيت، ثم هكذا هو كل ليلة.. في انتظار قطار آخر الليل!
واقرأ أيضًا :
احتياجات خاصة / طفولة مذعورة / قش الأرز / و. م. و. ز / الضيف / شخير في غرفة مجاورة / نُخْبة!