يستيقظ قبل الفجر بقليل، في هدأة السحر وسكونه الذي يكاد يشعرك بالصمم، والذي لا يشوبه سوى تجاوب ديكة تنفض أجنحتها ضاربة بها جنبيها كأنها تحاول الطيران! ثم تتبعه بندائها المتناغم الذي يبعث فيك الراحة وإن كان لا يخلو من ظلال حزينة!
يدفع عن نفسه الغطاء نشيطًا، ينظر حواليه متفحصًا، عادة أكسبته إياها السنون المتتابعة، التي مرت على جسده الصامد الهزيل؛ فأضعفت فيه أول ما أضعفت بصره، وإن لم يكن ضعيفًا بالنظر إلى كثير من أحفاده، وبالنظر إلى كم مرئياته على مرِّ تلك السنين!
يهب من على سريره مرتديًا «فانلة» بنية من صوف خشن، وسروالاً قصيرًا من «الدبلان» الأبيض، رابطًا وسطه بحزام من الصوف يتدلى طويلاً من أمامه.
يرفع يدًا مرتعشة قد عمل فيها الزمن جهده -فأرخى جلدها حتى صار كثوب نحف صاحبه وضعفت بنيته فما عاد بعد يلائمه، وتلوت عروقها الخضراء وانتفخت كأنما حشيت وشمًا!- ثم يضيء المصباح.
يخرج من غرفته إلى صالة داره الواسعة الضيقة! كم هي واسعة في أعيننا! لكنها ضيقة في عينيه الضيقتين الحائرتين، اللتين ألفتا رؤية المراحات والمراعي، ضيقة كمحبس بغيض يشعره بالاختناق؛ لذلك فإنه ما إن يطل الصبح بطرف وجهه الوضيء الأزهر حتى يسرع نحو الخارج، حيث الفضاء والهواء، وحيث الناس والحركة، وقيل وقال وكثرة السؤال!
يبدأ يومه بالهمهمة بصوت شجي، ينضح ذكره في خلاياك بالطمأنينة نضح الماء على وجه المحموم، وإن كنت لا تتبين معظم حروفه أو معانيه! يودُّ لو أنه أيقظ الجميع عَنوة، لكنه لم يعد يستطيع استخدام عصاه بعد أن كبر العيال، تمامًا كما لم يعد يستطيع أن يستخدمها مع الزوجة فقد أصبحت أم العيال! ولم تعد الكلمة كلمته وحده؛ فلكلٍّ من عياله الآن أسرة هو ربها وصاحب كلمتها.
كم كان يؤلمه ذلك بقدر ما يسعده!
لكنه لا يعدم حيلة لإقلاقهم حتى يستيقظوا، يبدأ في النحنحة، يوهم نفسه بأنه يعيد ترتيب الأشياء هنا وهناك محدثًا ضجة، تتحول همهمته إلى صوت واضح مفهوم، يراه المستيقظ ذِكرًا، بينما يراه النائم القلِق تنبيهًا وإيقاظًا، فباطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب!
بعد أن يتوضأ يصلي ركعتين خفيفتين، ثم يقرأ سورتين، كان يردد ذلك دائمًا في كل جمع، لا تحس في قوله بادرة رياء، بل تشعر أنه إنما يرغب في أن يُطَمْئن أولاده وأحفاده على حسن سيره وسلوكه، وأنه لم يخب على كبر كما يخيب الكثيرون!
قبل أن يؤذَّن لصلاة الفجر بوقت ليس قليلاً يغادر بيته، يَصْفق الباب خلفه بقوة، محاولة أخيرة لإيقاظهم ليكون قد عمل ما عليه كما كان يردد، يبدأ بطريقة آلية قد ألفها وأُلفت عنه في جمع القش والورق من أمام بيته بعصاه التي كانت عنده في مقام أحد أبنائه!
رفيعة هي، متآكل أعلاها أسود من كثرة ما التقمتها يده وضغطتها مرتكزة عليها، يشحُّ بها على الجميع على غير عادته، فقد كان مطبوعًا على البذل، يواريها من أحفاده؛ خشية أن تطالها أيديهم منزوعة البركة! تشعر بتواؤم عجيب فيما بينهما، عاطفة فياضة تسرى فيما بين هذا الجماد الضئيل الأبكم وذلك الإنسان المهزول الناطق!
يجمع القش والورق في ناحية من الشارع بعيدًا عن المارة، ثم يقصد ناحية الجامع رافعًا ذيل جلبابه بيده اليسرى، يمشي الهوينى ضاغطًا على إحدى قدميه وعصاه في كل خطوة كأنه سيقفز، لا يدقق في الشارع من حوله، لكنه يدقق بشدة في الأرض من تحت قدميه، كأنما هنالك نجاسة لا يتبينها فهو يحترز منها أن تصيبه، مرددًا أذكاره التي وعاها منذ صغره، حتى يصل إلى باب الجامع القريب من بيته.
يدخل الجامع بيمناه، يرفع بُلغته في يديه، يحكهما ببعضهما جيدًا؛ لئلا يدخِل معه نجاسة إلى بيت الله، يحرص على عدم تركها خارج الجامع حتى لا تُسرق؛ فنحن في زمن ربنا العالم به!
يرفع بصره ناظرًا أمامه دون اهتمام، ليس ثَمَّ أحد إلا المؤذن، يعلم ذلك قبل أن ترتطم به عيناه، يلقي عليه السلام بصوت عال يتردد صداه في نواحي الجامع، يجيبه الرجل بنفس العلو دون أن يلتفت إليه، يعرف هويته من وقع خطاه ونبرة صوته الحميمة.
ومَن سواه سيأتي في تلك الساعة؟!
لذة عجيبة يشعر بها حين يتردد صدى سلامهما في جنبات الجامع، يقشعر رأسه، يتخيل كأن ليس في الكون أحد جفا نومَه سواه وهذا المحني ظهره معتمدًا بمرفقيه على ركبتيه أمام القِبلة ملتمسًا للدفء وفي انتظار الفرج!
كان يُظهر ضيقه إذا ذهب إلى الجامع يومًا فلم يجده مفتوحًا، يتعجب من هذا الكلام «الفارغ» كما كان يسميه! لم يكن للجامع على أيامنا أقفال.. هذا ما قدروا عليه.. يظل أحدهم نائمًا إن لم توقظه امرأته حتى تطلع الشمس.. يردد في استهزاء!
تظل هذه إحدى حكاياته التي لا يفتأ يرددها لكل رائح وغادٍ طيلة يومه ذاك.
حين مات جدي لم أكن هنالك، ارتحت فقط لأنه مات الميتة التي كان يطلبها دومًا، كان يردد: «يا رب لا تثقل مني حصير»! صلى ثم عاد فنام فمات!
أحببت أن آخذ عصاه؛ لتلك الروح الواحدة التي كنت أستشعرها فيما بينهما، سعدت لذلك، طلبها مني كهل يحتاجها، بخلت بها عليه، أعطيته مالاً وقلت له: اشتر عصا أخرى.. فهذه عصا جدي، وقد كان جدي يحبها وتحبه، وكان جدي.. وكان.
واقرأ أيضًا :
خلفك انظر / الضيف / شخير في غرفة مجاورة / طفولة مذعورة / قش الأرز / قطار آخر الليل / و. م. و. ز