ملامح قد خُطت في ذاكرتي بحرف بارزة غليظة؛ ملامح بدر، تلك السيدة الطيبة العجوز العمياء، التي كنت أناديها: جدتي.كأنما اشتقوا لها اسمًا من صفة وجهها المدوَّر كالبدر، والأبيض كالحليب، لها جبهة رقيقة منبسطة، بخلاف خديها اللذين تشقُّهما أخاديد متعرجة متوازية، تقترب من بعضها تارة فتكاد تتلامس، وتبتعد أخرى، لا تدري أخدَّها طول الزمان أم تتابع الأحزان؟!
تشعر في وجهها بملامح قلقة متسائلة مضطربة، كأنما هي دائمًا تبحث عن شيء، ورغم ذلك فإن رؤية وجهها يقشعر لها بدنك وتنضح في ثناياك بالإيمان والطهر والنقاء.
لها يد بضة طرية، حين كانت تمررها في تثاقل على جسدك لترقيك حين تكون مريضًا، وتتناثر من بين شفتيها تلك الأحرف العجيبة، تنسى تعبك، وتتمنى لو تتعب كل يوم حتى لا تفارقك تلك اليد الحانية؛ التي تنبع بالدفء والراحة.
كانت تجلس في باحة الدار المتهالكة، على حصيرة مهترئة، وبجوارها كرسي من الخشب صغير، تطل من أنحائه رؤوس مسامير سوداء، تضع على كرسيها ذلك بعض الملابس البالية، ثم ترفع رجليها عليه لتمدهما وتريحهما بين الفينة والأخرى.
تمسك بعصًا طويلة في يدها غالبًا؛ تستشعر بها المارين من حولها من الشياطين الصغار الذين يملؤون الدار! تغمرنا السعادة حين نمرُّ من أمامها تكاد لا تلامس أرجلنا الأرض، فيهيج عينيها ظلُّنا في المرور، تأخذ في تحريك عصاها هكذا وهكذا يمنة ويسرة، وتنادي بصوت قلق: يا أولاد؟ مَن هنا يا أولاد؟ ثم تبدأ في مناداة بعض الأسماء لعلها تُجاب، بعض من تنادي بهم واقفون، يحركون أعينهم في مكر، ويضعون أصابعهم على أفواههم ويكتمون ضحكاتهم!
كان مجيء ابنتها الصغيرة -التي لا تكاد تفارقها إلا لضرورة والتي هي عمتنا- ينهي هذه المسرحية القاسية والملهاة السوداء، حين تجري وراءنا صارخة متهددة!
لم أكن أراها تفعل شيئًا في يومها أكثر من أنها تصلي، أما في وقت فراغها فأستمع إليها تدندن بمواويل قديمة لا أكاد أفهم منها شيئًا سوى كلمات متناثرة بين جملة وأخرى، ثم هي طيلة الوقت المتبقي من يومها تتساءل: من هذا يا أولاد؟ ما هذه الرائحة؟ ما هذا الصوت؟ من مات؟ وفرح من؟
إذا أحسَّتْ بوشك دخول وقت الصلاة تبدأ في التساؤل عن الأذان، حتى إذا قيل لها: قد أذّن المؤذن، تقوم مستقبلة القبلة، فهي غالبًا (على) وضوئها كما كانت تقول، وعليك حينها إن كنت تريد منها شيئًا أن تطلبه قبل أن تدخل في صلاتها، وإلا فأمامك يوم طويل فاصبر!
في يوم ابتسم فيه حظي أخرجت من فتحة جلبابها قطعة معدنية، أخذت تتحسسها في بطء، ثم قالت لي كم هذا؟ نظرتُ فيها وقلت: قرش، رغم أنها كانت من فئة القرشين الملتصقين! لم أقتنع أن الخدعة قد انطلت عليها، فقد تحسَّسَتْه لفترة طويلة لتتثبت من قولي، ثم بدا لي أن طمعي قد لاقى منها قبولاً فتنازلت عن القرش الآخر بابتسامة هادئة!
أذكر تلك الأيام قبيل وفاتها جيدًا، كنت أجلس بجانبها، كأنها تحسُّ أنه مرض الموت، راضية منتظرة، تأخذ النفس في بطء وتخرجه، غير مدركة لما حولها غالبًا، كنت أشفق عليها فأعطيها بعض حبات «الكارميلا» الحلوة في أوقات صحوها، فتسألني: ما هذا؟ أقول لها: «كارميلا»، تبتسم في براءة، وتدعو لي بالهناء والسعادة ثم تمد يدها وتضعها تحت مخدتها!
حين اقتربت ساعتها لم يسمحوا لنا نحن الصغار بالدخول، وقفنا في بلاهة بباحة الدار نراقب الموقف، لم أكن أعي أن تلك السيدة العجوز الطيبة التي فتحنا أعيننا على الدنيا فرأيناها جالسة هنالك سوف تموت يومًا! لكن ما لبثنا حتى سمعنا بكاءً مكتومًا وأصوات مختلطة، ثم دبت حركة غريبة متسارعة في الدار، فعلمنا حينها أن قد سكنت حركة جدتنا الطيبة العجوز!
بعد موتها شعرت كأن جزءًا من دارنا قد أنهدم، أو أن شيئًا من رونقها وروحها قد تبخر بموت تلك السيدة الطيبة العجوز «بدر»؛ جدتي رحمها الله.
واقرأ أيضًا :
شخير في غرفة مجاورة / نُخْبة! / يد غليظة تطرق الأبواب بعنف / عائد إلى الأرض / كان جدي.. وكان / القَدَرُ المسكوب / حالة فردية!