كانت دمعةٌ صغيرةُ تسكن مقلة أحد الشباب المعروفين بقوتهم وفتوّتهم، المقبلين على الدنيا بمباهجها والعازفين عن أي أمرٍ يثير النكد والهمّ. ظلّت تلك الدمعة تنتظر الموقف تلو الموقف كي تتحرر من سجنها القابعة فيه منذ سنوات، خلف تلك العين المتحجرة والجفون التي لا تتقابل إلا من أجل النوم، كانت تحلم بذلك اليوم الذي ستخرج فيه لتحلّق فوق ذاك الخدّ الذي باتت تحلم بمعانقته كل يوم.. ولكن كل مرّة يخيب أملها في التحرّر وتعود يائسةً إلى سجنها البغيض.
سمعتُه ذات مرّة يتحدّث مع صديق له في الهاتف أنّه سيذهب ليصلّي التراويح بأحد المساجد المشهورة ببكاء مرتاديها خلف الإمام، فتهللت واستبشرت وأذاعت الخبر بين قريناتها معلنةً تحريرها، واكتحلت وانتظرت اللحظة التي سيعلن سجّانها فك أسرها، وطال انتظارها ولكن لا شيء! تسمع أنين الرجال والشيوخ والأطفال خلف الإمام ذي الصوت الملائكي ولكنّه مصرٌّ على حجب النور عنها، صرخت وهرولت تطلب الغوث من القلب لعله يشفع عند صاحبها ويأذن لها بالخروج.
نادت بأعلى صوتها: "أيّها القلب أنقذني أكاد أختنق في محجري، اطلب منه أن يفك أسري، أرجوك أتوسل إليك"، لكن القلب لم يسمعها فقد كان منهمكاً في التفكير فيما سيفعله مع محبوبته وأين سيذهب مع أصدقائه بعد الصلاة. انتهت الصلاة وطوى سجادته وانصرف يضحك مع أصدقائه ظانّاً أنّه فعل شيئاً عظيماً لله بتلك الركعات، وطوت الدمعة آلامها وآمالها وانزوت تختبئ في ركن في المحجر بعيداً عن شماتة الأقران.
مضت الأيّام وما زال أمل التحرير يرقص أمامها برغم ما كان في القلب من غفلة، ولكن حلمها كان قوياً وإصرارها كان أقوى، وذات يوم استيقظت على صوت صراخ وعويل بالمنزل؛ مات الأب والمنزل يضج بالناس من هنا وهناك وقامت الدمعة في لهفة فلقد أتى اليوم الموعود ولا بدّ أنّه سيبكي أباه، حانت لحظة فراق ذلك السجن اللعين، هكذا كانت تحدّث الدمعة نفسها قبل أن تسقط كلماته فوق رأسها مهشّمة حلمها الجميل معلناً للأهل أنّه رجل ومتماسك ولا يمكن أن يبكي فالبكاء للنساء كما أخبره أبوه... رحم الله أباك وكل أب علّم ابنه هذا القانون الذي تسبب في أسر آلاف الدموع خلف العيون، قالت الدمعة هذا وهي تتشح بلباس الحداد على حلمها الذي تحطّم، ورضيت بحالها حتى عاد الأمل ليطل من جديد من نافذة قلبها... إنّه يستعد لأداء العمرة وقد أتى بالفعل بملابس الإحرام.. "ها هي تذكرة السفر تلوح لي من بين أنامله تبشّرني بقرب الإفراج عني، يا لسعادتي لا أظنّ أنّه سيضنّ عليّ هذه المرة بحريتي، إنّه بيت الله والجموع المتجهة إلى الله بالدعاء وآلاف الدموع المحررة من أسر النّفس وقسوة القلب".
أتى يوم الحرّية وأطلقت الزغاريد ليوم عرسها، وتواردت قطرات الدم في العروق التي حولها تشاركها السعادة بيوم التحرير المنشود. وسافر ودخل البيت وطاف وسعى، والدمعة قابعة خلف سجنها تصرخ في حيرة وحسرة: "أطلقني، فكّ أسري، ماذا تنتظر بعد هذا كلّه؟ وإن لم تطلق سراحي هنا فأين تطلقه؟" وأخذت تضرب عظام المحجر بيديها وهي تئنّ، وتألّمت العروق والجفون من أجلها وطالبوا القلب أن يفعل شيئاً ينقذ به تلك المسكينة، ولكن هيهات فالقلب منشغل بأخذ الصور التذكارية حول الحرم وبجمع الهدايا التي سيعود بها لبلده. وعادت الدمعة من جديد ولكنها في هذه المرة قررت أن يكون بديل الحرية هو الموت، نعم الموت خلف تلك العيون المتحجرة، فزهدت طعامها وشرابها وظلّت منزوية في ركن لها منتظرة اللحظة التي ستجف فيها وتنتهي ذاهبة إلى ربّها شاكية له قسوة ذلك القلب وغلظة تلك العين، وأغمضت جفنها منتظرة لحظة النهاية والجميع يطلق شهقات الألم من أجلها.
هكذا ستموت بلا ثمن وهي التي عاشت تحلم بحريتها هناك خلف ظل الله معلناً أنّه لن تمسها النار أبداً، أتكون تلك نهايتها هزيلة ضعيفة في قناة دمع لعين قاسية! يا لسوء الخاتمة.. وأخذ الجميع يطلقون ترانيم الوداع لتلك الدمعة الغالية وهي تغمض عينها شيئاً فشيئاً مودّعة تلك العيون التي لم تنصفها والقلب الذي خذلها واختفى بريق الحياة فيها. ولكن فجأة صرخت الأذن: "توقفوا جميعاً واستمعوا" وانتبهت الأعضاء فإذا القلب منصتاً لتلك الآيات وأسرع الجميع لتفيق الدمعة من غيبوبتها وأخذت عروق الدم تدفعها لتستيقظ: "هيّا انهضي حان وقت الرحيل" ولكنها نظرت للأذن بأسىً وقالت: "لا فائدة، قد سمع تلك الآيات قبل ذلك كثيراً بلا فائدة" ولكن القلب رفع رأسه إليها ومال بكفه عليها في حنان وقال: "ولكني أول مرّة أسمعها!، كل مرة كانت الأذن تسمع ولا يصل شيء إلى حصني المنيع المكسوِّ بالمعاصي، المملوء بحب الدنيا"، وهبّت الدمعة واقفة وهي تقول لا إله إلا الله، وانتفض القلب بين الضلوع والحصون من حوله تتهاوى، وانطلقت الدمعة في خفة تجري من ظلام ذلك السجن اللعين وتابعتها الدمعات المتعاقبة خلف القضبان مهللة بتحررها معطّرة ومعانقة للخد الذي طالما بات يحلم بلقائها والجوارح كلها تردد الآية (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) والدمعة تردد في سعادة: "بلى، قد اَن يا رب!".
واقرأ أيضا:
جعلني ناشزا / قل:..كما..،،/ نظام جديد للكبح! / أدبٌ لم يكنْ لهُ...؟ / مرافعةٌ أولى: / يا التي منك... / أي ماءٍ؟؟؟/ حاؤه ..وباؤهُ .... / وَهَنيئًـا ! وَمَـريئــًا...