لَمّا كانتْ أمي عجوزاً، لا تقوى على المكوث أمام الفرن البلدي، لأن حرارته تؤذي عينيْها فضلاً عن أنها لا تقوى على تلك الحركات الرياضية التي تؤديها النساء عند العجن والخبز والترقيق ثم شق الرغيف الدائري إلى نصفين متساويين بإحكام وإلقاؤه بخفة في فوهة الفرن الحديدية، فقد اعتاد أبي أن يأتي بالخبز من أحد الأفران الآلية عند عودته من شركة الغزل والنسيج بالمحلة.. كان يمشي مزهواً وهو يحمل عدة أرغفة نجح في اقتناصها، يساعده في ذلك هذه الحيلة التي يحبكها بالتمام والكمال منذ سنوات طويلة؛ فعندما يصل أمام شباك التوزيع يقف مثل إمبراطور مستغلا نظارته السوداء الفخمة وهيئته التي تجعله يبدو مثل مفتشي التموين الكبار، وما أن يلمحه أحد العاملين يكور نصيبه المعلوم من الخبز ويشق الصفوف مناولاً إياه الغنيمة التي فشل الكثيرون في الحصول عليها مجاناً ودون عناء، فيفاوضه أبي بمنتهى الدبلوماسية والحنكة ويرفض بشدة ألا يدفع ثمن الخبز مؤكدا عليهم أنه سيرى ويدقق في مطابقة الوزن والمواصفات المتفق عليها ولن يرحم تسيبهم واختلاساتهم. بنصف جنيه فقط يكفي ويزيد علينا أنا وأبي وأمي، يضعه أبي على منضدة في منتصف الصالة عند عودته فننظر له أنا وأمي في تكاسل وشبه حسرة مكتومة، فأمي التي تربت في بيت فلاحين لم تكن تتصور يوما أنها ستأكل هذا الخبز الغليظ المعجون بالأيدي والأرجل، وكانت تعلم أنني لم أكن أحب هذا الخبز وأبتلعه بصعوبة بالغة ومن حين لآخر أرتشف بعض قطرات الماء كيْ أستطيع مضغه، وكثيراً ما تذمْرتُ وغضبت على الأكل بسببه.
وكان لنا جارة لا نعلم خيرها من شرها تأتي لشرب القهوة مع أمي ومسك أطراف فلان وعلان فتقلب في ماضيه وحاضره ومستقبله الواعد الزاهر أو المصبوغ بالسواد، ولها قدرة عجيبة على جمع أخبار الناس ففلانة ولدت وفلانة حامل وفلان عليه دين وفلانة تسحر لزوج علانة، وعندما تراني وأنا جالس تحت المنضدة حيث يحلو لي الأكل منزويا تحت أحد أطرافها، تخبط على صدرها وتقول لأمي "إخي يا ست عديلة.. إنتم بتاكلوا من العيش دا، ليه كدا اللي بتعملوه؟! لو مش قادرة على الخبيز أنا أخبز لك يا أختي... الناس لبعضها" فتشكرها أمي بامتنان بالغ والفرح يكاد يتقافز من ملامح وجهها الذي تصابى فجأة، ثم تدلها على مكان الدقيق الذي يأتي به أخوالي كل عام في موسم القمح، ولا تتوانى المرأة عن الجلوس على ركبتيها بسرعة ونهم شديد كأنها وجدت كنزاً مخبوءاً في مطبخنا، فتنهال على الطحين بيمناها ويسراها معاً صانعة تجويف كبير في الجوال الذي تخاذل وانحنت فوهته المتهدلة والمتعفرة بذرات الدقيق.
تتغاضى أمي كثيراً عن السرقة عياناً بياناً والإسراف الذي لا ينكره كل صاحب عقل متزن في مقابل الحصول على بضعة أرغفة فلاحي ساخنة تؤكَل ولو بعد عدة أيام، وحلال عليها هي وأولادها ما أكلت هنيئاً مريئاً فهي مسكينة مقطوعة من شجرة لا أرض لها ولا فسيلة. وعندما ينتهي طحيننا تتغير جارتنا وتنقطع عن أمي وتتجنبها فنعود للخبز الغليظ الذي نرمي معظمه، وخيل إلي في هذا الوقت أننا فقراء بشدة طالما لا أستطيع الحصول على هذا الخبز الطازج ذو الرائحة الطيبة، فانتبهتُ لأحد الأفران البلدية المستتر بعناية في نهاية شارعنا، هناك حيث تجلس نساءٌ معجونات بالسمن الفلاحي يصنعْن الخبز، تساعدهنّ فتيات طازجات بيضاوات مغموسات بالندى والغيوم، يفترشْن القشَّ وأنا جالس بينهُنّ أو على أطراف مجلسهِنّ السماويّ، مثل شحاذٍ محترف يتفنن في الوصول إلى قلبك بسهولة ويُسر، معتمراً أقدامي وأنا جالس واضعاً يدي على خدي، محدِّقا في شاروقة الفرن المتوجة بالحمرة، متابعاً بث الروح في قطعة الخبز المستديرة أو المشقوقة بالطول وهي تنهض شيئاً فشيئاً وتنتفخ تدريجياً مثل وسائد الملوك، ولأن الكرم كان شيئا يجري في العروق، كنت أنصرف من مجلسهنّ محملاً بالعطايا، فأهرول إلى أمي فرحاً بهذا الصيد الثمين، وعندما أصل إلى باب البيت تكاد تطردني من شدة الخجل وتتوعدني بشدة أنها ستقول لأبي؛ الذي يحذرني مرة، مرتان، وفي الثالثة يعلقني-عالياً- فوق حافة الباب الذي يتأرجح يمينا ويسارا ويكاد يسقطني كلما أمعنت في التحرك.ضربة على صدغي، خيزرانة تنهش في أطراف أصابعي، نظرة وعيد تدق في قلبي وترعبني أكثر من الضرب، لا يهم!
ارتبط عندي الخبز الصابح بالضرب والوعيد، ولم أكن أتخلى عن هذه النشوة التي تتملكني وأنا أمسك برغيف يكاد يتجاوز طولي، أقطف منه وآكل كما نقطف الزهور، لا الزهور تنتهي ولا نحن نشبع من عبيرها. كنت أعود حيث يجلسْن عند الفرن، فأرى نساءً غير الأوليات، يحفظنَنِي جميعاً ويغدقْن العطاء، مرة رغيف معجون بالسمن البلدي أضعه على فخذي حتى يبرد ومن حين لآخر أتذوقه بطرف لساني حتى أتأكد من حرارته، ومرة أخرى رغيف معجون بالسكر من أجلي خصيصاً صنعْنَه على هامش خبزهم. أتناوله رويداً رويداً وخيط عسلي ينساب على مرفقي وملابسي، ألحسه من حين لآخر وأكاد أرقص من النشوة.
مرة خبز ومرة سمك مشوي في الفرن، ومرة قطعة بطاطا، كنت أعود إلى البيت وفي فمي وملابسي آثار الجريمة، ينظر أبي إلى ملابسي الملطخة بالبقع، أو يشم يدي التي علقت بها رائحة السمك ويستغرب بشدة وهو يسأل أمي "هل أعددتِ سمك هذا اليوم؟" فتنفي باشمئزاز، حتى صار من طقوس عودته إلى المنزل أن يشم يدا صغيرة تنفرد أمام وجهه ببراءة، تطل منها روائح شتى دون أن يعرف السبب!
25- يناير-2009
واقرأ أيضاً:
في كل شوك وردة! / أحزان هذا المساء / النداهة / تغيّرنا ! / على رأسي فانوس ! / الذي لابد منه / أنا شخصٌ جميل لا يشبهني!