الماضي.. ذاك الخط الوحيد الذي رسمناه خلفنا على صفحة الحياة.. خط أصم لا رجعة فيه، لا تبديل له..
أما الناس.. فالرغبات والأحلام، الطموحات والإرادات، والمشاعر والعواطف، ترسم خطوطاً كثيرة.. تسلك طرقاً مختلفة.. تتقارب وتتباعد.. تتصالح وتتخاصم.. تتشابك وتفترق.. تتشكل في لوحة كبيرة.. لوحة للوجدان الإنساني بكل ما يحمل من آمال وآلام..
وعبر هذه اللوحة أنظر إلى الماضي، أبحث عنه في هذه اللوحة الكبيرة.. هنا.. تنفخ النفس من زفرات عواطفها الملتهبة فيه نفساً.. لم يعد خطاً أصماً.. تدب فيه الحياة.. ينهض.. يلقي بظلاله في كل مكان.. وعبر دروب النفس وفي كل طرقها ودهاليزها.. ينساب نهراً من الذكريات.. يصبغها بالحنين.. بالألم.. تولد لوحة جديدة.. لوحة لعالمي الخاص.. أو لسجني... لا فرق...
ككل يوم، أعود عبر هذا الطريق.. واحد من طرق كثيرة.. تقود إلى نفس المكان.. وككل طريق، أرى على جانبيه حصاد ما بذرته يوماً.. أتألم.. فبعضه أنبت شوكاً وحنظلاً.. لهذا أتألم.. وبعضه أنبت ورداً.. أتألم أكثر.. لأنه ورد ذابل.. لم ينبت إلا ليموت.. ولم يصنع رحيقه إلا ليدفنه في الطين، فتفوح منه رائحة الطمأنينة الجريحة.. رائحة السعادة الأليمة.. السعادة الراحلة.. التي اغتيلت في مهدها.. لهذا أتألم أكثر.. لماذا ذبلت الورود؟.. لا أحد يدري.. يقال أنها لم تجد من يعتني بها.. من يشم مسكها حتى.. لهذا دفنته معها في الطين.. ويقال أنها لما شربت من نهر الذكريات.. لم تتحمل كل هذا الألم.. لهذا انتحرت...
أصل لهذا المكان... هضبة صغيرة.. حيث تلتقي كل دروب النفس ودهاليزها.. تتصالح.. تسير معاً.. لبرهة.. ثم تفترق.. تتوه ثانية.. هنا يثور بركان من الحنين.. يفيض على نهر الذكريات بالألم.. أصعد الهضبة.. بجوار البركان.. ذلك القبر.. تغطيه الكثير من الورود الذابلة.. ذات الرحيق المؤلم.. السلام عليك يا صاحب القبر.. آآآه، كم أشتاق إليك.. أذكر حين جئت.. أشرق نورك على روحي.. سرى في عيني فأبصرت.. سرى في لساني فتكلمت.. وقبل أن يسري في قلبي فيحيا.. رحلت.. قبل أن يسري في جسدي أتحرك لأعمل.. رحلت.. هكذا تركتني.. أبصرت لكني ما وصلت.. تكلمت وما فعلت.. ليتك مكثت طويلاً.. أو.. ليتك ما جئت أصلاً...
رحلت سريعاً.. لماذا؟!!
أتراك جئت ومعك بوادر نهايتك؟.. أتراك أخذت جراثيم فنائك من السواد الحالك في نفسي؟.. أم تراك جئت زائراً فحسب؟
لا أعلم.. فقط أعلم شيئاً واحداً.. أنا.. من تركك ترحل.. فيومها لم ألحظ المرض إلا وهو يسن سكينه.. لم أفق إلا على حشرجتك وأنت تلفظ أنفاسك الأخيرة.. هرعت مذعوراً.. أبحث عن طبيب.. أطلب لك الدواء.. ولما رجعت.. كان الأوان قد فات.. لقد رحلت...
حينها.. خلعت الأشجار أوراقها الخضراء حداداً وماتت قبل أن تثمر.. انتحرت الأزهار قبل أن تتفتح ودفنت مسكها معها قبل أن تملأ به الفضاء.. الفراشات تحترق.. الشمس تنطفئ قبل أن تشرق.. والألم يولد.. صرخاتي تشق الفضاء..
طعنات من الحزن تنهال على قلبي.. الألم لا يطاق.. أمد يدي لصدري.. أنتزع قلبي.. وبجوارك أضعه.. أهيل التراب عليكما معاً.. فليرحمكما الله ..
أبكي على قبرك كثيراً.. ثم أرحل.. أترك خلفي النور.. القلب.. الحب.. فقط آخذ عبق الألم.. ويصطحبني نهر الذكريات الحزين.. والقيد في يدي..
الآن أنهض.. قبل أن أعود أدراجي.. ألقي نظرة أخيرة.. الغبار يكسو شاهد القبر.. يوشك أن يمحو اسمك.. لا.. لن يحدث.. لا يجوز أن أنساك أبداً.. أمسك القلم.. أكتب ثانية بخط عميق..." الإيمان"..
واقرأ أيضا:
بحر الظلام (2) / مشروع قتل! / الآخِرْ / ثَمَـنٌ!! / مرافعةٌ أولى: / يا التي منك... / أي ماءٍ؟؟؟ / حاؤه ..وباؤهُ .... / وَهَنيئًـا ! وَمَـريئــًا...