(شعاع من قنديل الماضى)
أحدثكم أحبائي:
من المكتب.. للمكتب
أنا أنقاض ساقية تدور بثورها الأحدب
أنا طاحونة الموتى تآكل حجرها المتعب
أنا بئر الندى تعطي بلا من ولا تنضب
وخدٌّ يقبل الصفعات في صمت ولا يغضب
أتسألني أقول الحق.. لا تغضب
أقول لكم: أنا متعب
فبعد شهادة التخريج قذفوني إلى الشارع
إلى جمهورنا المصلوب تحت الشمس مثل الخنجر القاطع
أداوي غصة المظلوم.. أشبع معدة الجائع
وأحقن في سرير الموت جثة شعبنا الضائع
أخدر حسه الشفاف أطفئ لونه الفاقع
وأخفى عن عيون الناس سر مصيره الفاجع
أتسألني أقول الحق... لا تغضب
أقول لكم: أنا ضائع
أحدثكم أحبائي:
وعند الصبح أحمل بعض أشيائي
إلى المكتب
تقابلني صفوف الناس تسند ظهرها في الظل
تحت الحائط الأجرب
فلا تعجب
إذا بدأت صفوف الناس كالمأتم
وقد شخصت بأبصار من الإعياء تتألم
وقد ضاقت بها الحجرات كالصندوق تحت غطائه المحكم
أنا وحدي حبيس الدار...
يرهقني عزاء الناس في المأتم
ألاقيهم بفاتحة..بآيات من القرآن... بالبلسم
وقد نفذت لفافاتي وأشرطتي
ولم تنفع وريقاتي وأدويتي
إذا ضجرت.. إذا غضبت وصار الهمس يتكلم
فويل الكاهن الأعظم
فإن الشعب لن يرحم
إذا أسرعت في التشخيص في عجل فلن يرحم
وإن أبطأت في التشخيص في صبر فلن يرحم
فإن الوقت يتقدم
وإن الصف يتقدم
وأعصابي كنافذة أمام الريح تتحطم
أتسألني أقول الحق: لا أعلم
فإنسانيتي ذبحت على أبواب رؤسائي
واغتيلت بأحشائي
أقاموا متحفا للطب من جرحي وأشلائي
ومن أعصاب زملائي
و(شرف المهنة) المصلوب تحت لسان أعدائي
صليب يثقل الكتفين يرهقني بأعبائي
سأحمله لأبنائي
فقدر الطب في بلدي خرافي وعشوائي
أحدثكم أحبائي:
أحدثكم عن السودان
أرض التيه.. غاب الصمت والأحزان
وأدمن شعبه المغلوب في أزماته النسيان
ليعلن أننا شجعان
أحدثكم عن الدجال والعراف والكهان
بنوا في أرضنا هرما من الصدقات والإحسان
وما زالت قوافلنا تزور ضرائح الغفران
وتسرق لقمة المحروم والمحزون والجوعان
لتبني قبة الأمجاد
ويدفع شعبنا بسخائه المعروف (للأسياد)
ويسجد عن طواعية يبارك قسوة الجلاد
يكذبنا إذا قلنا له: قد فاتك الميعاد
بحار الصحو قد غسلت شواطئنا من الأحقاد
رفعنا في شوارعنا هنالك زينة الميلاد
هدايانا إلى الأحفاد
أحدثكم عن الإنسان:
يشتمني... وينعتني بكل العار والخذلان
ويرميني بأشياء تغص الحلق بالغثيان
يلاحقني بكل مكان
وينسى أنني إنسان
وأني صورة للعجز-إن وجدت –بكل خريطة السودان
أتسالنى أقول الحق.. لا تغضب
ألا ما أضيع الإنسان في السودان
قد ضاعت هويته بلا اسم ولا عنوان
10مايو1969
ديوان (مع رياح العودة) ص 83
المجلد الأول-المجموعة الشعرية الكاملة
واقرأ أيضًا :
رجـع الصَّـدى / نهر العطبره / الشعب يعرف ما يريد.. في ليبيا / ثورة الغضب.. في مصر