الإهداء:
إلى أبي
- الرجل الذي حملني على أكتافه منذ ولدت إلى أن صرت رجلا –
إلى أمي
- المرأة التي حملت بي سبعة أشهر ليحملني قلبها إلى الأبد-
وإلى أولادي
-إن قدر الله لي- ليعلموا كيف عاش أجدادهم.
م.العرفي
"الشعب الذي لا أساطير له، يموت من البرد"- الشاعر الفرنسي باتريس دولاتور دوبان.
يا بنت.. يا شاغله كل الخلق بدلالك
يا منوره الكون
مهما كان الظلام حالك
دا فرق شتان بين حالي وبين حالك
أنا بدي نظرة وداد، لكن ما بإيدي
لأنك انتي حنيفية، وانا مذهبي مالك!
"تراث"
(1)
لا أعرف من الذي اخترع حكاية النداهة هذه التي ظلت مسيطرة على عقولنا ومخاوفنا لسنوات طويلة، وبالأخص بلدتنا -بلدة زوج أمي- الواقعة في الدلتا، متاخمة لشاطئ النيل، تسترخي باطمئنان وسط الحقول والترع، ولها طريقان متوازيان يؤديان إليها ويحدّانها، فكأنما هي امرأة تستلقي بدلال وتبلل قدميها بالماء. الطريق الأول هو الطريق المرصوف الذي خُصص للأميرة شويكار منذ فترة وزوِّد بأعمدة كهربية من الخشب، وأسلاكٍ ومصابيحَ باهرة لم نكن نعرفها قبل ذلك، وينتهي بقصرها المبني بالطوب الأحمر المصمت والحجارة، وبه شرفات عالية أنيقة وتماثيل كبيرة تأخذ أشكال طيور وحيوانات وأسود مصنوعة من الرخام، والقصر كله مصبوغ باللون الأصفر تزيده أشعة الشمس جمالاً، ونميّزه بين الحقول كبناء ضخم يتمنى الواحد لو يقضي فيه ليلة واحدة يشاهد الفخامة والعز والترف والأبهة الموجودة داخله، ناهيك عن حمام السباحة الذي تتحاكى البلدة عن جماله ومياهه التي تشفي العليل، بالإضافة لأشجار الكافور العالية التي تحيطها الأسلاك الشائكة من كل جانب وتجعل من القصر قلعة تحتكر الهواء اللطيف طول أيام السنة، وعلى أطرافه من ناحية "عزبة البرنس"؛
أبراج الحمام البيضاء التي تولف بها الطيور وتطير إليها من كل حدب وصوب دون أن يجرؤ أحد ويطالب بها، فلم يكن أحد من الفلاحين يقترب من الأسلاك الشائكة التي تحيط بالقصر حتى وإن لم تكن الأميرة موجودة داخله، فهي بالكاد كانت تزوره، مرة واحدة في السنة، أو مرات قليلة فقط، لأنها تمتلك قصورا أخرى كثيرة في جميع أرجاء مصر كما يقول الحاج عطية زوج أمي. أما الطريق الآخر فهو طريق المقابر الذي تحيط به النباتات وأشجار الكافور والكازورين والصفصاف من الجانبين ولا تزوره الشمس أبدا لأن الأشجار متشابكة من أعلى، ويعلوه الصمت التام، اللهم إلا بعض زقزقات العصافير ونعيب الغربان، وهو طريق ترابيّ لا تكاد تتجاوزه حتى يصعد ترابه الناعم ويتسلق قدميك ويلتصق بهما، وينتهي هذا الطريق بمقابر القرية وهي عبارة عن تل عالٍ مغطى بنبات الحلفاء؛
كان في يوم من الأيام سوراً ضخماً من الطوب اللبن يحيط بالقرية من جهتها الشرقية، وبفعل الأمطار والسيول تحول إلى تل نستخدمه لدفن الموتى مما زاد من تخوفنا من هذا الطريق الصامت المرعب الذي لو دفعت لأعتى المجرمين ألف جنيه كي يمر منه بعد العصر لرفض وقال لك أعطِني عمري وارمِني البحر؛ السلخ نفسه خفير العمدة وصاحب القلب الميت لا يجرؤ على أن يتجاوز هذا الطريق المظلم دائما ويزداد ظلامه مع دخول الليل، الجميع يتندرون بهذه الواقعة; عندما حمسه الفلاحون في يوم من الأيام وقالوا له عيب على شنبك الذي يقف عليه الصقر، والبندقية التي ترافقك منذ أن نزلت من بطن أمك أن تخاف مثل الصبيان، فغاب عنهم للحظات وسط الأدغال والأحراش ثم عاد مفزوعاً وهو يصرخ "النداهة.. الجنية. الحقوني ياهوووه.. أغيثونا يا خلق" فهرولوا جميعا من شدة الخوف وندموا على تسليط "السلخ" كي يزعج صاحبة الجمال والعصمة النائمة تحت شجرة الجميز، وفي الصباح جردوه من اسم السلخ وسموه باسم جديد هو الفرخ مثل الكتاكيت الوادعة، وظلت هذه الحكاية علكة في أفواههم، يسهرون على ذكراها لسنوات طويلة رغم تفاهتها، ربما لخوفهم الشديد وربما لأنهم عرفوا أن السلخ إنسان عادي مثلهم يخاف ويهرول بكل ما أوتي من قوة عند الشدائد، مما قلل من قوّته ووحشيته في نفوسهم، لكنهم لم يجرؤوا على مواجهته وجها لوجه، فسلطوا عليه صبيانهم، كلما مشى في طريق انبرى له صبي من وسط زقاق أو عطفة شارع ونادى عليه: يا فرخ.. يا رجل يا فرخ، فيستدير مصطنعاً ببندقيته دور الخفير الهمام، لكن الأرض تكون قد انشقت وبلعتهم، فيعيد السلاح إلى مكانه على كتفه وهو يردد بصوت مرتفع: ورحمة أمي ما هسيبكم يا ولاد الكلب.
كنا نمر من هذا الطريق ونحن ذاهبون لبندر سمنود أو المحلة في جماعات تلتف حول نفسها، وفقط أصحاب القلوب القوية هم من يسيرون على الأطراف ويلتفون حولنا كالثعابين، وكلما اقتربنا من منتصف الطريق سقطت قلوبنا في أرجلنا وفقدنا أمل العودة فنمشي ببطء مندفعين بقوة الخوف الذاتي، دون أن نشعر بالوقت الذي أمضيناه، كل هذا كوم والمصيبة الكبيرة -أي شجرة الجميز- كوم آخر، فهي شجرة الزقوم الملعونة في عرفنا؛ تسكنها الأشباح والعفاريت والنداهة جميلة الجميلات، وتحت جذعها وجذورها المتفرعة في الطريق ألف اختبار للشجاعة وتخطي الصعاب، بمجرد مرورنا بجوارها نشعر بدفء غريب وكأنما لهب ولسان من ألسنة جهنم قد سُلط علينا فيغلي الدم في العروق ثم يتجمد ويقف شعرنا ويطقطق، حتى نتجاوزها، فنشعر براحة غريبة وكأنما قد نجونا من الموت.
لم يكن يزعج بلدتنا ولا يقلق منامها شيء، لا البعوض ولا الفئران الضخمة مثل البغال، ولا الفقر ولا الجوع ولا حتى مأمور المركز المتسلط والعمدة أبو رزق، بقدر ما كانت تزعجها النداهة وتجعلها تلملم أطفالها ورجالها ونسائها من بعد أذان المغرب وتغلق عليها أبوابها كأنها تخشى غارة جوية من غارات الحرب العالمية. الحال لم يكن يختلف كثيرا في قرية أبي وأمي الكائنة بجوار قرية الحاج عطية زوج أمي، فقد كانت جدتي الحاجة زُهرة تقول لي: (إياك يا واد يا جمال تسهيني وتخرج بعد دوغيشة المغرب حتى لو حد نادى عليك.. النداهة بتعرف تقلد صوت أي حد.. هتاخدك هناك عند الترعة وتكتم نفَسك وتموتك.. هي صحيح شكلها جميل وشعرها أصفر وعيونها خضر زي ما بيقولوا.. بس دا في الأول بعد كدا تلاقي عينيها بتطق شرار وشعرها الأصفر يبقى ثعابين وحيات.. السنة اللي فاتت ندهت على الولد ابن صبيحة وقالت له تعالى اشتري لك عسلية.. وأخذته هناك تحت الأرض ولما قالها أنا عايز ارجع لأمي غرقته في الترعة.. ومفيش حد عرف له طريق جُره إلا لما لقوا جثته هناك عند القنطرة جمب بوابة الميه.. بس كويس إنه مات.. قضاء أخف من قضاء.. اللي بيفلت من تحت إيدها بيعيش طول عمره ملحوس.. بتاخد عقله وتخليه تايه مش داري بنفسه).
الشهادة لله إن الولية جدتي ذات نفسها كان شكلها مرعب أكثر من النداهة وهي تحكي لي حكاية الواد ابن صبيحة! فكانت بعد أن تخلع طرحتها وتشعل لمبة الكيروسين نمرة خمسة؛ يتجلى لي شعرها الأبيض المشبح بسواد خفيف وينعكس ظله المنكوش على الحائط مثل قبة ضخمة وتبرز لي أسنانها الهتماء وحنكها الأجوف كمخبأ الفأر، وتصبح صورة أخرى لا تقل فزعا عن النداهة، ومما زاد الطين بلة أن اللمبة عاندها الهواء فتراقص لهيبها بسرعة وانطفأت فقفزت إلى حجرها وأنا أرتعش <<النداهة.. حوشيني يا ستي>>، فضمتني إليها ومسحت على ظهري ورقتني رقوتها المعتادة <<متخافش يا نضري ..الأوله بسم الله.. الثانية رقوة محمد ابن عبد الله.. الله يهديك يا جمال يا ابن نفيسه ويطرح البركة فيك..>> حتى سرت في جسدي طمأنينة وراحة فطنت بعدها أنها هي جدتي الطيبة التي آوتني بعد أن تركتني أمي لها وتزوجت.
<<ستي.. هي النداهة بتعرف تقلد صوت أمي نفيسة>> فترد علي بحزن وهي تتصعب على حالي <<إيه جاب سيرة أمك نفيسة دلوقتي.. إنت عايز تسيبني يا جمال.. أنا زعلتك في حاجة ولا منعت عنك شيء.. خليك معايا يا ابني مالي علي البيت. الله لا يحرمني من حسك وشقاوتك>>
لم تكن تمنع عني شيئا كان صغيرا أو كبيرا، بل أنني قضيت فترة طويلة من حياتي وأنا أتمنى أن أتكور في حجر جدتي زُهرة ولو دقيقة واحدة حيث مصدر الدفء والراحة في الكون كله. كانت امرأة عجيبة من أصل طيب، كلّ من يقترب منها يشعر بطيبة قلبها ويرتاح للقرب منها حتى وإن لم يكن بينهما سابق معرفة، وكانت تعلم ذلك فتبتسم للناس ابتسامة تؤكد لهم ما يدور داخلهم. عاشت طول حياتها وفي فمها ملعقة ذهب ، فهي سليلة عائلة الشعراوي أكبر عائلة في الناحية، كلهم عمد وبهوات كما تقول لي، وكانت تركب الفرس وتشرف على أراضيها وأطيانها بنفسها بعد أن توفي زوجها، ولكي تداري عن نفسها العين والطمع والقيل والقال تزوجت رجلاً آخرَ بدّد كل ثروتها على الأفيون والحشيش وغوازي الموالد، حتى انحدر بها الحال ولم يبقَ لها غير هذا البيت الكبير الذي نعيش فيه.
تقول للنساء الذين يتجمعون حولها على مصطبة أمام دارنا كي يستأنسوا بها ويستمعوا لحكاياتها التي لا تنتهي <<أنا نمت على حرير في حرير ونمت على الأرض وخدمت نفسي بعد ما كان عندي الخدم والحشم والجواري، وشربت المُر بعد ما كنت بقوم من النوم ألاقي علبة السجائر تحت مخدتي.. كله زي بعضه أهم شيء الرضا والقناعة.. لكن البني آدم ما يملى عينه إلا التراب.. عارفين ازاي؟ الحالة الوحيدة التي تمتلئ بها عين الإنسان لما يموت ويبقى كوم عظم.. ينهال التراب ويملئ تجويف عينه.. الواحدة منكن يا بنات حواء تقول لزوجها هات وهات وهات ولا ترحمه وتتبتر على معيشتها وتشخط وتنطر في أولادها.. ماله العدس الأصفر طعمه زي اللحمه بالضبط.. وربنا ذكره في القرآن غيرشي انتم جهله لا تعرفون الألف من كوز الذرة>>.
فينقسمون فيما بينهم ما بين منبهر ومصدق لكل ما تقول، وقسم آخر يكركرون ويكتمون ضحكاتهم في بلاهة لأنهم يتشككون في أصلها ومدى جديتها، فكل ما يعرفونه أنها تلك السيدة الهرمة التي تجرجر قدميها في البكور وتحمل فوق رأسها مشنة البيض والجبن لتبيعها في المدينة، فيقرصون بعضهم البعض ويزداد الغمز واللمز فتفتر حماستها ويزداد ضيقها بهم وتنهرهم <<قومي يا بت يا لكعية منك لها شوفي إيه اللي وراكي.. شاطرين بس تمشوا تتقصعوا وتهزوا في وسطكم وانتم حافيين مش لاقيين تاكلوا.. لو تشوفوني في شبابي الواحدة منكن لا تسوى بجواري بصله>>
كنت أفتقد أمي كثيرا بالرغم من أن جدتي زُهرة كانت طيبة القلب وتهتم بي، فكانت تضعني في حجرها وتطعمني بيديها فتدس الأكل في فمي كأنها تزغط ذكر بط، حتى أنها عودتني على شرب الشاي لأنها لا تستطيع أن تضع شيئا في فمها بدون أن أشاركها فيه، وفي الشتاء كانت تجمع قوالح الذرة وترصها بجوار بعضها صانعة منها هذا الشكل المخروطي في طاجن كبير مليء بالرماد الأحمر وتشعلها بعدَ أن تصب عليها قليلا من الكيروسين الموجود في جركن متسخ ومسدود أيضا بالقوالح، ثم تدلدل رجلي ناحية النار، ومن حين لآخر تمسك بقدمي وتلف يدها حولها حتى تتأكد أنني قد تدفأت تماما، وتحكي لي حواديت عن ست الحسن والجمال وعلي بابا والأربعين حرامي وحكايات كثيرة تغلفها الحكمة، منها حكاية والدي وقصة حياته التي تنسجها ببراعة وفصاحة كمن يمسك دفة الكون ويحركه يمينا ويسارا؛
<<كان يا ما كان يا سعد يا إكرام ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبي العدنان.. صلي على النبي فأقول مثلها "اللهم صلي عليك يا نبي".. فتقول زيد النبي صلاه. فأقول بعصبية "عليه الصلاة والسلام.. قولي بقى"، فتكمل حكايتها بعد أن تهدهدني: منذ بدأ الخليقة والقتل غريزة رئيسية من غرائز البشر.. شرع لها قابيل عندما قتل أقرب الناس إليه أخاهُ هابيل.. هذه أول جريمة بشعة تفيق عليها البشرية بعد خطيئة أبينا آدم الكبرى التي خسفت بالإنسان من سابع سماء إلى طين الأرض ووحلها، ومن يومها والقتل لم يعد بشعا في النفوس كما أراد الله للبشر الخطائين، فمع مرور الأيام خف وطء هذه الكبيرة على النفوس، وأصبحت تصغر شيئا فشيئا مع كل روح تزهق وتصعد إلى بارئها عز وجل.. ويبدو أنّ أباك قد ورث هذه الخطيئة وتسربت إلى عروقه من جد لآخر، فالعرق دساس ولو إلى سابع جد.. كان لأبيك أعمام كثيرون، وفي أحد الأيام الصيفية منذ أكثر من ثلاثين سنة، واصل -وهو في ريعان شبابه- مشوار جده قابيل، عندما نادى عليه أحد أعمامه واستغاث به كي ينقذه من بين أيادي أحد أفراد عائلة أبو حاويل، أصحاب الأرض المتاخمة لأرضهم.. وكعادة كل الأشياء التي تبدأ صغيرة ثم تكبر..
كبرت المشاجرة التي تسببت بها حمارة عمه التي مدت بوزها وأكلت عود أو عودين برسيم من الأرض المجاورة، وبعد الشد والجذب وكلمة من هنا وكلمتين من هناك، وزغرة من هذا ووكزة من ذاك، كان أبوك قد شجَّ رأس الرجل بالفأس وتركه جثة مكومة على الأرض ليقضي بعدها تأبيدة لمدة خمسٍ وعشرينَ سنة في السجن.. ولد أبوك هو الآخر وفي فمه ملعقة ذهب وقد تعود على رغد العيش وطيب الحياة طول عمره، بل هو الوحيد من بين إخوانه وأخواته الذي تعلم القراءة والكتابة والحساب، وهذا ما أهّله باقتدار أن يصبح خليفة لوالده؛ ناظرا زراعيا في وسية الخواجه سمعان صيدناوي الذي خدمه أجدادك منذ أن حل على أرضنا الملعونة بلعنة الغريب والمكتوب عليها وعلينا الشقاء ليذهب خيرها إلى غيرنا، في هذه البقعة الصغيرة جدا من العالم كان يستمد قوته من هذا المنصب الكبير نسبيا ويضعه محل احترام وتقدير نتيجة لأخلاقه وذمته وأمانته التي يحلفون بها، فكان يركب الكرته ذات العجلات الكبيرة التي يجرها الحصان، معتمرا طربوشه ويضع تحته هذا المنديل الكبير الذي يقيه من حرارة الشمس، ليراقب سير الأعمال ويحصي الأنفار ويصرف لهم رواتبهم التي تعتبر ملاليم لا تسمن ولا تغني من جوع؛
كان رقيق الطبع لا يستخدم القسوة ولا الخيزرانة ليسوق الأنفار مثل قطيع الأغنام ولهذا كسب حبهم واحترامهم فكانوا يلقبونه "سي عمر" وكان يعرف في قرارة نفسه أن هذه الأرض لا تعرف الخواجات والبشوات، هي تعرف فقط هذه الوجوه الطيبة والسواعد النحيلة التي تعزقها وهذا العرق الذي يسيل من جباههم فيرقق قلبها ويحننها فتخضرّ وتنضج ثمارها، ومع ذلك أيضا فلم يكن الخواجه سمعان بالمتسلط ولا المتجبر، ورغم أنه يهودي، اشكنازي الأصل فكان يصوم رمضان ويؤدي الزكاة مع المسلمين ويحتفل بالمولد النبوي وعاشوراء فيوزع على الفلاحين والأُجرية أثواب القماش التي ينتظرونها من الموسم إلى الآخر كي يخيطونها جلابيب جديدة تغنيهم عن الجلابيب القديمة التي امتلأت بالرقع وجار عليها الزمن، عندما خرج أبوك من السجن حكى له أولاد الحلال عن أمك وجمالها الباهر فتزوجها بعد أن توسمتْ فيه الخير فهو ابن أصول ومن نسل طيب.. ولكن السنوات التي قضاها في السجن كانت قد غيرت أخلاقه واكتشف أنه ضيع عمره وشبابه مقابل لا شيء، ولم يستمتع بحياته كما يجب، فبدد ثروته والبيوت التي ورثها عن أبيه على السكر والصرمحة وراء الغوازي.. ثم ربتت على ظهري براحة يدها ربتات عنيفة سمعت صداها في أذني وقالت:
الغوازي هؤلاء يا جمال يا ولدي غجر يسرقون الكحل من العين.. ولا يطول منهم الرجال لا أبيض ولا أسود وياما خربوا بيوت عامرة.. تعرف أبوك بعدها على تمورجية من المنصورة فتزوجها وعاش في كنفها وترك أمك، ولهذا طلبت أمك نفيسة الطلاق فماطلها قليلا ثم طلقها، ويبدو أن جمالها الفتان قد سبقها سريعا إلى القرى المجاورة ولم يظفر بها إلا الحاج عطية.. لقد ولدت مع ثورة يوليو ولهذا سمّاك أبوك جمال تيمنا بجمال عبد الناصر، ثم تنهدت ونظرت في عيني وقالت.. كأنك الابن الشرعي لهذه الثورة.. امرأة جميلة وزوجٌ ضال.. وشعب مثلكَ يتيم>>
***
لم أكن أفهم شيئا مما تقوله ، ولا أعرف من هو والدي "سي عمر" الذي تحكي لي عن أصله وفصله وجريمته دون أن أراه أو أعرفه، كل ما كان يشغل بالي وقتها هي النداهة ذات الشعر الأصفر، لماذا لا تأتي؟ ولماذا لا تقلد صوت أمي؟ فصار بيني وبينها جفاء شديد يغلب الإحساس بالخوف منها، بل ظللت أتمنى أن أقابلها في يوم من الأيام وأن أتحدث معها وجها لوجه وأنهرها لماذا لا تريني وجهها الجميل وتنادي على أمي كي أراها، وفي يوم من أيام الصبا كنت ألعب وأتشقلب فوق قش الأرز المفروش في الجرن الكبير، فامتلأت ملابسي بالشوك، وعند أذان المغرب هرب الجميع وتسربوا إلى بيوتهم واحدا تلو الآخر، حتى صاحبي حمدان حاول أن يأخذني معه لنعود، لكني تملصت منه، فلم أكن أستطيع ترك هذا الموسم الكبير للألعاب والشقلبة كي أعود لجدتي زُهرة لتحبسني طوال الليل، ولا أدري لماذا تسلطت علي هذه الفكرة الشيطانية بالذهاب إلى الترعة ورؤية النداهة وجها لوجه.
قلت لنفسي حينها ماذا قد يحدث يعني؟ أنا لا أخاف من أي شيء.. وعندي كثير من الأسئلة لا أملك إجاباتها.. وحدها النداهة من تعرف كل شيء، فأخذت الطريق المختصر للترعة ومشيت بجوار ماكينة الطحين المسكونة بالعفاريت، جريت بسرعة عندما وصلت إليها، واجتزت بعض نباتات التين الشوكي التي لسعتني في يدي واشتبكت بملابسي هي الأخرى وعندما وصلت للترعة كان الظلام يغطي كل شيء، حتى أنني كنت أضع يدي أمام عيني فلا أراها، مكثت قليلا وبدأ اليأس يتسرب إلى نفسي بسرعة فأنا توقعت أن أراها بمجرد وصولي إلى ماسورة المياه الكبيرة التي تجتاز الترعة ويقولون أنها تجلس عليها طوال الليل.. هذا أنا أمام الترعة وعند الماسورة بالضبط ولا توجد نداهة ولا عفريت ولا يحزنون وجدتي زُهرة أكبر كذابة في هذه القرية وكل الحكايات التي تحكيها للنساء من نسج خيالها، وخلال لحظات سمعت وقع أقدام تتحرك خلفي ببطء شديد كأنما تقدم قدما وتؤخر قدما ثم سمعتها تنادي علي بصوت أنثوي مرتجف: إنت جمال؟؟
ركبني مليون عفريت وسقط قلبي وتدحرج أمامي على الأرض، إنها النداهة على مرمى حجر مني، إنها هي صدقا لا كذبا وتعرف اسمي دون أن أقوله لها كما تعرف كل شيء، فجريت بكل ما أوتيت من قوة وصرخت "إلحقوني.. إلحقوني.. النداهة.. إلحقوني.. هتموتني" فما كان منها إلا أن صرخت وجرت خلفي فكنت ألهث وأتعثر وأقع على وجهي ثم ألتفت خلفي مفزوعا فأرى خيالاً ممشوق القوام مستطيلاً وذو رأس كبير لا يتناسب مع جسمها النحيل.
وعندما وصلت إلى بيت جدتي زُهرة كنت أصرخ وأركل الباب بيدي ورجلي حتى تفتح لي بسرعة "إلحقيني يا ستي.. النداهة.. النداهة طلعت لي... آآآه النداهة بتشوكني" فأخذتني في حضنها كما تفعل كالعادة عندما أخاف، ولكني كنت أشعر أن كل مكان في جسدي من قدمي إلى رأسي يلسعني والنداهة تنهش في جسدي بأسنانها وأظافرها إلى أن جردتني جدتي من ملابسي كلها فوقفت أمامها مثل الطرزان وعرفت أن الشوك مغروس في ملابسي، ثم ألبستني ملابسَ أخرى ونمت على صوتها وهي تهدهدني <<هوه.. نام نام يا جمال.. وانا ادبحلك جوز يمام.. هووه>>
***
في صباح اليوم التالي انكشف المستور، عندما علمت جدتي زُهرة أن جارتنا محاسن زوجة إبراهيم البقال كانت تملأ البلاص ورأتني من بعيد فخافت هي الأخرى عندما سمعتني أصيح بعلو صوتي، وخيل لها أنني رأيت النداهة حقا، وكلما جرت كي تلحق بي كانت المياه تقع من البلاص وتطشطش على الأرض فتزيدني رعبا، وقالت لجدتي أنني قد قطعت خلفها ولا أمل لها في الأولاد بعد الآن، وظلت جدتي لا تكلمني ولا تنظر في وجهي لأنني خالفت تعاليمها الصريحة التي نشف ريقها وهي تلقنها لي فكانت تأكل وحدها وتترك لي الأكل أعلى الفرن في وسط الدار فأقف على كرسي خشبي صغير وبالكاد أقطع جزءا من فطيرة وألوكها بالقشدة وآكلها في ركن بعيد، وأعود لأكرر المحاولة من جديد حتى تمتلئ بطني، واستمر هذا الخصام عدة أيام كنت قد نسيت خلالها النداهة وحكايتها وما حدث لي فعدت للشقلبة من جديد والاختباء وسط أكوام القش ذات الرائحة الذكية العتيقة، وعندما رجعت إلى البيت في يوم من الأيام كانت الحاجة زُهرة تضع في حجرها بعض حبات البرتقال والجوافة وتأكل منها دون أن تعيرني انتباها كي تغيظني، نظرت إلى أعلى الفرن.. لم أجد شيئا، فظننت أنها ستأكلها وحدها، هكذا خُيل لعقلي الصغير وقتها فما كان مني إلا أن بركت فوقها وشددتها من شعرها بطول الصالة الكبيرة ومرغت وجهها في تراب الفرن وهي لا تلوي على شيء ولا تنهرني وكلما خنقتها أو ركلتها كانت تضحك وتقول لي <<كل اللي يهمك بطنك الجرباء وما يهمك جدتك يا واطي زي أمك.. خذ كل. بكره لما تكبر تعرف إن أعز الولد ولد الولد>>
وعادت المياه لمجاريها وعادت جدتي لحنيتها وطيبة قلبها بعد أن لقنتني درسا قاسيا لا يقل عن الدرس الذي لقنته لمحاسن وقطع خلفها فما كان يجب عليها أن تتأخر لهذا الوقت أيضاً، وبالرغم من الرعب الذي تعرضت له فكنت حزينا ممتلئا بالوحدة وخيبة الأمل لأنني لم أصل لحل ولم أعرف كيف أصل لأمي أو أسلط عليها النداهة كي تخبرها أنني أريد رؤيتها ولو قليلا وبعد ذلك تذهب للحاج عطية هذا الذي قلب حياتي رأسا على عقب.
كنت أعود نهارا إلى الترعة حيث يقولون أنها تظهر هناك وأدعو الله بلسان طفولي ألثغ وفؤاد مكلوم.. يارب رجع لي أمي نفيسة، الحاجة زُهرة طيبة وتشبه أمي وبتأكلني برتقال.. بس يارب خلي النداهة تقول لأمي نفيسة إني عايز أشوفها، ويبدو أن الله قد استجاب لدعائي ورتب أقداره، فعندما عدت إلى البيت في هذا اليوم حدث ما لم أكن أتوقعه ولا أضعه في الحسبان.
تسلقت الحاجة زُهرة السلم الخشبي لتلقي ببعض "الحمية" من فوق السطح كي تخبز، وكان البيت كبيرا علينا أنا وهي، فحجراته واسعة للغاية مفتوحة على بعضها وبينهم صالة كبيرة يتوسطها الفرن، نمكث في غرفة واحدة فقط وتفيض علينا. السرير ذو النموسية بجوار الشباك الكبير ذي الدرفتين الطويلتين، وبجوار الباب كانون نقال عبارة عن مربع من الطوب اللبن ينقصه ضلع، بجواره أقراص الجلة اليابسة، وتحت الشباك الآخر مصطبة كبيرة نضع عليها لوازم المطبخ وعدة الشاي، أخذت الحاجة زهرة اللمبة نمره خمسة وتركتني في الظلام الدامس وبعد قليل سمعت صوتا مدويا وكأن أحد الجدارن قد سقط على الأرض، فطار عقلي وسمعت صوتها من بعيد يئن ويستغيث <<إلحقني يا ولا>>.
قمت مفزوعا أدور في الظلام محاولا أن أهتدي للباب دون جدوى، كنت أتعثر في كل ما يقابلني وأدور في الغرفة الكبيرة مثل المجنون وأنادي عليها وأنا أبكي <<ستي.. يا ستي.. يا أمّا زهرة إنتي فين>>
**
بعد الفجر بقليل وسط صياح الديوك التي اجتمعت هذا اليوم في أنشودة تأبين لروح جدتي الصاعدة للسماء كان بصيص النور قد بدأ يتسرب من فتحات الشباك وطاقة صغيرة في الحائط، فتحسست الجدران إلى أن وصلت لباب الغرفة وفتحت باب الدار الكبير المغلق بعُصفرة خشبية، فوجدتها ممدة على الأرض وقد انكشفت بعض خصلات شعرها الأبيض، فنزلت على الأرض وجلست بجوارها وأنا لا أفهم لماذا تنظر لي هذه النظرة المتحجرة ولا تتكلم، فوضعت رأسها على حجري ورتبت شعرها ثم حدثتها كثيرا دون أن أدرك أن "السر الإلهي" قد خرج منها كما قالت محاسن جارتنا لزوجها إبراهيم البقال بعد أن تفقدتها، هذا السر الإلهي الذي ربما قد صعد إلى السماء من نفس الباب الذي صعدت به دعواتي أن أرى أمي، وما هي إلا أيام كانوا قد باعوا البيت فنزعوا الأبواب والشبابيك وعروق السقف كما نُزعت روح جدتي من جوفها، وانتقلتُ للعيش مع أمي في بلدة الحاج عطية الكائنة بجوار بلدة جدتي زهرة عليها رحمة الله.
البغل -الحاج عطية- نظر لي شزرا وتأملني من قدمي الحافية إلى وجهي المتسخ وشعري الأشعث، أما أنا فقد تهت في ملامحه وتركيبة جسده التي تشبه البغل. أقدام مفلطحة قصيرة كأنها قوائم، وكرش ضخم يشبه بطن البغل هذا الحيوان الهجين من الحمار والحصان، وشارب كثيف عريض من المنتصف مفتول الأطراف، وعينان واسعتان طويلة الأهداب يعلوهما أثر حاجبين ذوي شعر خفيف وأذنان منكفئتان للأمام، وقال لي بالحرف الواحد <<أنا كنت ناقصك إنت كمان.. أبوك يتزوج من البندرية أم كحل وبودره وقمصان شفتشي ويتركك تقع في أرابيزي يا ابن ستين في سبعين.. غور جهز هدومك خلينا نرجع للبلد قبل ما الشمس تحمَى>>
قفزت إلى الغرفة منزوعة الشبابيك وأخرجت كومة من ملابسي التي تشابكت مع ملابس الحاجه زهرة من هذا الصندوق الكبير الذي يشبه التابوت ونحتفظ فيه بملابسنا، وناولتها له فوضعها في الخُرج المتدلي على ظهر الحمار وله جيوب واسعة من الناحيتين، ثم حرك قدميه لليمين واليسار وفي لمح البصر هرول الحمار وانعطف في الزقاق الصغيرة التي تؤدي لطريق البلدة الرئيسي.
في البداية ظننت أنه يمازحني أو سيتخير مصطبة أو مكاناً عالياً أستطيع الركوب منه ولكنه أكمل إلى الطريق الأسفلتي الذي يربط بين القريتين دون أن يلتفت لي.. بدأ جمبي يؤلمني من كثرة الركض خلف البغل الذي يركب فوق الحمار، ولا أعلم من أين لهذا الرجل بهذه القسوة التي حلت في صدره فتركني للأرض تلسع قدمي وتشويهما في هذا القيظ لمدة ساعة على الأقل، فطفرت من عيني بعض الدموع سرعان ما جفت في حدقتها ثم أكلت بعض حبات الملبس المتسخة والمتعرقة في يدي التي أعطتها لي محاسن عند رحيلي، ومن حين لآخر كنت أتعثر أو أقف لأنزع شوكة قد تسللت بخبث بين أصابعي، وكنت قد هممت أكثر من مرة أن أجلس فوق أشجار الموز المقطوعة والمنصوبة في الطريق مثل الكمائن ولكنَّ ظلال الأشجار على الطريق الأسفلتي كانت تعطيني فرصة كي تبرد قدمي قليلا لأعاود الركض مرة ثانية حتى تنعم قدمي بظل شجرة أخرى، كانت الظلال وروث الحيوانات والبهائم المتناثر في الطريق أكثر حنانا من قلب هذا الرجل.
عندما وصل إلى شجرة الجميز أبطأ من سرعته وسرعان ما تلفت ليبحث عني لا لشيء سوى أن يستأنس بي ويتجاوزها بسلام. كنت منهك القوى وكذلك الحمار الذي تعرق وارتفع صوت الأزيز والصفير في صدره، ولما وصلنا إلى البيت أخذتني أمي في حضنها ثم تأملت وجهي المحمر والعرق الذي ينساب خلف أذني، وتحسست رأسي الذي بطحته الشمس، فأمكست الحاج عطية من طوق جلبابه وقالت له بشراسة <<بقى يا راجل يا يهودي ياعديم الدين والملة.. أقولك روح هات هدوم الولا.. تجريه وراك وتشحططه يا كافر يا ابن النصارى.. حط في عينك حصوة ملح. وإلا قسما عظما أوريك النجوم في عز الظهر.. مش عايزه يعيش معانا طلقني من دلوقتي.. أنا ألف مين يتمناني.. يا بغل ياعديم الإحساس والإنسانية>>
انتفض الحاج عطية مثل العصفور وتضاءل وتلجلج في نطقه وقال لها <<ديه ده يا نفيسة.. حقك عليا يا بنت الحلال..>> ثم أمسكت بي يد قوية من أسفل إبطي ورفعتني لأعلى فوجدتني مقرفصا على كرش ضخم متحجر، مثل جزيرة نائية تضربها الرياح والأمواج من كل الجهات، فظهر لي الأفق كما لم أرَه من قبل وتكشفت لي الدنيا بنوارسها وسباعها وهوامها كما يراها الكبار وسمعت صوت الحاج عطية يهدر في أذني.. <<حقك عليا يا جمال يا غالي يا ابن الغالية.. إنتي عارفه إن ربنا لم يرزقني بأولاد والخير كثير الحمد لله.. دا أنا أحطكم في عيني>>
في هذه اللحظة بالذات تفتحت عيني على الدنيا وفهمت اللعبة؛ أمي التي تزوجت ثلاث مرات ما زالت تباهي بجمالها وتراهن عليه رغم كبر سنها، والحاج عطية ميسور الحال ويستطيع أن يشتري كل شيء بماله، إلا الحب لا يُشترى ولا يباع، فاشترى بدلا منه الجمال، وأبي آثر التمتع بالحياة والرفاهية بعد أن فاته قطار الشباب. كلهم كانوا كبارا نالوا من الدنيا نصيبا وفاتهم نصيب، أما أنا فكنت صغيرا لم يفكر أحد بي، ولم يدرك أحدٌ ما يدور داخلي، فكان نصيبي هذا التشتت وعدم الاستقرار، منذ أدركت أن الدنيا يجب أن تسمو وترتفع فوقها حتى تفهمها بشكل صحيح، ومنذ علمت أن جسدي ضئيل جدا بجانب الحاج عطية!
واقرأ أيضاً:
أكل العيش / في كل شوك وردة! / أحزان هذا المساء / تغيّرنا ! / على رأسي فانوس ! / الذي لابد منه / أنا شخصٌ جميل لا يشبهني!