شعيب حليفي يكتب نصا ًجديداً عن رحلته إلى القاهرة، يصف بعضاً من تفاصيل الأيام التي قضاها، كما يورد نسيجاً من متعلقات وجدانه تجاه الأرض والأصدقاء والحياة...
يقول في رحلته:
دخلنا... وبعد ست ساعات خرجنا. دخلتُ متردداً حائراً فخرجتُ مقتنعاً! دخلتُ وأنا في جبة الفقيه الورع، زاهداً مالكياً متمسكاً بما يُبقيني حيّاً أُرزق فخرج مني الشافعي والحنفي والحنبلي والهرمي، وقد صرتُ ثورياً حاسماً أستطيع تقديم دمائي نشيداً يتقطر لإرواء عطش الفقراء ويبوسة أحلامهم القديمة دائماً.. وآذان الفجر يدعو الأمة النائمة والصاحية إلى الصلاة، شعرتُ بخشوع غريب ورغبة للتوجه نحو سيدنا الحسين.. لكن سالم لم يكلمني، فركبنا السيارة عائدين إلى الفندق، وفي آخر الشارع رأى اثنين من العسكر فتوقف دون أن يطلبا منه ذلك، ودس في يد واحد منهما ورقة نقدية من فئة مئة جنيه من غير أن يكلمهما.. ثم واصلنا سيرنا وأنا ألح في الذهاب إلى الحسين بينما هو صامت لا يلتفت إليَّ.
ماذا جرى في تلك الساعات الأندلسية؟
ويقول في مكان آخر:
شخصياً لم أعرف مصر –مثل غيري من قبل ومن بعد– إلا من خلال روايات نجيب محفوظ وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وخيري شلبي وغيرهم، من نفس جيلهم أو من الأجيال الجديدة، كما لم يكن من الممكن أن يتحقق الالتحام الثقافي المصري العربي والعالمي، في شكل غير مسبوق ومستمر، منذ تسعينيات القرن الماضي، إلا بفضل د/جابر عصفور الذي جعل من أسئلة الثقافة جزءاً من أسئلة الحاضر والمشهد العام.. وهو الآن يواصل تأسيسه للخط الثاني من السكة، برفقة باحثين ونقاد، في المركز القومي للترجمة.
أسبوع في مصر المحروسة:
زمن القاهرة
1
0 العودة فجراً
في يومي الأخير بمصر غادرنا فندق بيراميزا- الدقّي في الساعة الرابعة زوالاً من يوم الخميس الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر متجهين لمطار القاهرة الدولي بعد انتهاء رحلتنا التي دامت ثمانية أيام، مؤملين وصولنا إلى الدار البيضاء في الساعة الحادية عشرة ليلاً، لكن التأخيرات المفاجئة للرحلة إثر أعطاب في الطائرة الأولى أو في الثانية التي نزلنا منها بعد ركوبنا بحوالي ساعة.. أخَّر وصولنا إلى غاية فجر اليوم التالي، الجمعة.
بقيتُ في البيت طيلة ذاك اليوم مستريحاً من الوعكة الصحية التي ألمّت بي في اليومين الأخيرين بالقاهرة، غير أني توجهتُ غداة السبت -برفقة زوجتي وأبنائي- إلى مدينة سطات حيث قضيتُ النهار بجوار والديَّ الفاضلين، ولم نعد إلى الدار البيضاء إلا في ساعة متأخرة.
بُعيد الفجر بقليل، من يوم الأحد، لبستُ جلبابي الصوفي الأشخم.. هابطاً في صمت غريب إلى مكتبي. جلستُ إلى مصيري التاريخي، مثلما كانت مصائر غيري من الرحالين إلى أرض الكنانة، أدونُ وقائع رحلتي إلى القاهرة خشية تلف تلك التفاصيل الرقيقة.
في الساعة الواحدة انتهيتُ من التحرير فقمتُ وحملتُ أهل بيتي متوجهين نحو الميناء حيث تناولنا وجبة سمك طريّ كنتُ متشوقاً إليه.
0 يوم السفر إلى القاهرة
استفقتُ باكراً وفي نيتي البقاء بالبيت طوال النهار، الذي يصادف يوم الخميس التاسع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر، موعد سفري إلى القاهرة، قبيل منتصف الليل، للمشاركة في المؤتمر الدولي الأول للقصة العربية والذي ينظمه المجلس الأعلى للثقافة بمص، غير أني تذكرت ضرورة قضاء بعض الضرورات التي أخذت مني النصف الأول من اليوم، ولم أعد إلى البيت إلا في الثانية زوالاً. تناولت غدائي وهممتُ بتجهيز حقيبة سفري وكل الوثائق الضرورية، وفي نيتي، مرة أخرى، قضاء ما تبقى من الوقت بالبيت.
يرنُّ الهاتف، فيكلمني أحد أصدقائي من مدينة برشيد مفزوعاً، يُخبرني بنقل والده الحاج عبد القادر إلى إحدى مصحات القلب بالدار البيضاء، في سيارة إسعاف بعد إصابته بنوبة قلبية مفاجئة. لم يطلب مني شيئاً ولكنه أخبرني فقط وانقطعت المكالمة. ارتديتُ من جديد ملابسي، وفي المصحة بقيتُ معهم خلال كل الفحوصات الأولية والإسعافات الضرورية لوالده الذي تجاوز مرحلة الخطر في انتظار تدخل جراحي في صباح يوم الجمعة أو السبت كما أخبرنا البروفيسور المُعالج.
ودعتُ صديقي بعدما أخبرته بسفري بعد ساعة، لأعودَ إلى البيت، هناك وجدتُ زوجتي قد استكملت تهيئ الحقيبة وباقي أغراض السفر، فتناولت بسرعة بعض الطعام، ثم توجهتُ نحو مطار محمد الخامس، وقد ناب علاء -وأنا أغادرهم- عن أخته في تقييد ورقة بها أسماء بعض اللعب، دسها وسط جواز سفري بعناية وهو يوصيني ويتمنى لي سفراً ميموناً، أما زينب فكانت خرساء تنظر إليَّ بعينين حزينتين امتلأتا بالدمع، فيما الصغرى "مريم" شرعت تلح عليّ بمرافقتها لي وهي لا تعرف بالتحديد، وجهتي.
***
ركبتُ الطائرة وحيداً، لكوني سافرت سابقاً بيوم واحد باقي الوفد المغربي المكون من تسعة أدباء، لحضور بدء العمل ضمن لجنة تحكيم جائزة القصة. خلال أزيد من خمس ساعات عرجنا في ظلام ساكن من الدار البيضاء إلى مطار القاهرة، وقد وصلته في السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي الذي يزيد عن توقيتنا بساعتين.
في الطائرة، أسندتُ رأسي إلى الوراء، أغمضت عيني أستعيد أنفاسي، بل أنتشلها... فاسترخيتُ شاعراً بحزن يخيّم على صدري مثل غيوم شاردة وثقيلة، وذاكرتي تستعيد ما وقع في مثل هذا اليوم من سنة خمس وستين وتسعمائة وألف بباريس، حينما اختطفت أجهزة المخابرات المغربية بتعاون وتواطؤ مع أجهزة خارجية أخرى، المهدي بنبركة. كان عمري آنذاك عشرة أشهر، وربما في ذلك اليوم، وفي تلك الساعة التي رموا فيها أياديهم القذرة على سي المهدي كنتُ أرضع الحليب من ثدي أمي.
استفقتُ على جلبة تقديم العشاء، فاعتذرتُ عنه ثم خلدتُ للنوم وصورة المهدي بجلبابه الصوفي لا تفارق وجداني.
عدتُ فاستفقتُ والطائرة ما تزال سابحة في ظلام مطبق، وقد بقي على هبوطها أقل من ساعة، شعرتُ بتحسن في مزاجي. فتململتُ وأخرجتُ دفتراً صغيراً وجزءاً من قلم رصاص وليس في ذهني سوى غيوم شاردة.
0 في كل حياة.. شيء يستحق الانتباه
وأنا أتهيأ للسفر إلى القاهرة، تهاجمني نفس الأحاسيس التي أحسستُ بها خلال سفرتي الأولى ذات كانون أول/ ديسمبر (زرتُ القاهرة سبع مرات في رحلات كنتُ مدعواً خلالها لمؤتمرات ثقافية:14 كانون الأول/ دجنبر 1996، 22 شباط/ فبراير 1998، 15 نيسان/ أبريل2000، 18 تشرين الأول/ أكتوبر 3200، 8 كانون الأول/ دجنبر2003، 26 شباط/ فبراير 2005، 17 شباط/ فبراير 2008 ثم الرحلة الثامنة، هذه، في 29 تشرين الأول أكتوبر 2009). هذه المرة تضاعفت وانصهرت؛ فقد ذهبتُ أول مرة وأصدقائي هناك لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.. أما اليوم فهم بعدد أصدقائي هنا بالمغرب.
منذ الرحلة الأولى إلى القاهرة، ازددتُ طمعاً فيها.. لأن أثراً شعرياً عميقاً كان واضحاً في كل طبقات ملامحها المهيبة، حينما نظرتُ إليها رأيتُ كل المراجعات التي راهنتُ عليها.. هل أرى في هذه المِرآة نفسي، أم النفس الكلية التي لا تموت؟.
القاهرة، وقد استعادت دهشتي المفتقدة في غمرة المجرى المزدوج والمتعدد لحياتنا "هنا". هل كل ما قرأتُ منذ ابن خلدون إلى الآن يقف اليوم في مجرى الاختبار؟.
لماذا أحسستُ بالنيل جزءاً من دمنا الجماعي الذي ساح من الأجساد المطهرة منذ ماري جرجس إلى المهدي بن بركة؟. (لا.. بل ساح من الأرواح المخلدة لأحلام الشهداء من الأموات والأحياء...).
القاهريون في بحث أسطوري عن معنى نسبية الوجود ومطلقية الخلود، وثمة الأثر الشعري للحياة التي رتقت نسائجها من صرخة الحسين للانفصال الأليم بين الرأس والجسد والابتهالات المذوتة للسيدة زينب.. والأحلام المفتقدة في اندفاع كلي بين حدَّيْ الموت والحياة لشهيد الخلود.
لن أشك لحظة، بعد الآن، أن الدهشة نفسها ستفارقني لأنني شربتُ منها احتياطي ما تبقى من عمري... بين القصرين أو بين الحلمين تنساب اختبارات البديهة للذاكرة وللملاحم كلها، فلا استثناء في القاهرة غير الموت.. لأن كل شيء فيها بوجهين: مقدس ومدنس، طهراني وأزلي.
توهمتُ أن يسألني رجل في الأربعين –ونحن هناك في النادي اليوناني أو داخل مسجد الحسين أو في قبو مظلم لامتناهٍ أو في خان شقاوة بالدرب الخلفي– يسألني بلغة صافية أقرب إلى البوح.. عن جمال عبد الناصر والمهدي والأموي وبويا والشيخ الهبطي وجدنا المقدس سيدي علي الشاوي. ولما لم أجبه اعتقدَ أنني حزين لأجلهم.. حزين حينما أحس بحزنهم على حالنا.
واقرأ أيضا:
ذَوَبَـان! / عبث الفرشاة! / قِـطَّـةٌ،،/ آخر العمى / جوع / أحتاج عينيك / لو مرةً