من الصعب أن أتناول ذاتي بشكل جاد لسببين: أولهما، أنني لا أرغب بدخول هذه المعمعة من الصور المتشابكة، الآخر؛ لأنني لا أجد نفسي جديراً بأن أضيّع وقت إنسان في وهاد حياتي.
إذن، لِمَ أكتب هنا لعلكم تتساءلون؟ اليوم قد حدث ما ذكرني بنسبيّة الزمن، وبالكمّ الذي هزمته في تجربة لا يساويني بها إلا المنكوب بمدينته أو شخصية "آلفارو" من مائة عام من العزلة. الذي اشترى بطاقة لقطار لن يتوقف أبداً. عشتُ في خمسة بلدان، بأربعة ولايات، وزرت مدناً كثيرة حتى أمسيت رماداً ينسحق فوق بعضه. عالمي جرفان متقاطعان، بينهما وفوقهما وحولهما فضاء هلامي خالٍ حيث تتساوى كلّ الأشياء، لكن لكي لا تختلط الرؤيا بلهاث الزمن، لنعد بها لأوقات أكثر هدوءاً وبساطة.
ولدتُ عشيّة مطلع العقد الثامن من القرن العشرين، في خضم حرب كانت ستستمر لسبع سنواتٍ أُخَر؛ سبع سنوات بائسة كمساء بلا شاعر، كوجه أبي وهو ينقل على ظهر حوّامة بعد أن مزق صاروخ دبابته وقضى على طاقمه. ستّ شظايا اخترقن ظهره، والتصقت واحدة منهن بنخاعه الشوكي بعد أن برّدها دمه. تعرفت على أبي بسنّ مبكرة أثناء نزهات النقاهة القصيرة بأرضنا، تلك التي ملكناها قبل قرون ونيفٍ وما زلنا. رجلٌ يكره الثرثرة، له إيمان مطلق بأنه فارس يترجل ليس إلا، وما الحياة إلا وقفة عزّ كما يقول. رأيته يشرحها بتلك الأمسية، بعد أن غسلني بماء الفرات، وقف على جذع نخلة يشرح لماذا سميت "وقفة العز"؛ لأنها قصيرة، لأنها ثابتة، ولأنها تعنيك أولاً وآخراً. أنّى لصبي في الخامسة أن يفهم كلّ هذا؟ كانت أولى دروسه تعطى وهو يمسك عصا صغيرة يعدّها سيفاً ويتأمل معلمه بثغر صغير مفتوح، لكن الأب يعرف ما يقوم به، فهو أول درس علمه والده له كذلك.
والده الذي أنشأني لغياب ابنه بساحات الحرب اللامفهومة، والده الذي علمني الدرس الثاني: الأرض. طويل ضخم كثور بابلي، يمتطي صهوة جواده البنيّ الهرم وينحو في أرض آبائه، أرض واسعة قديمة النخل جديدة السنابل، عنبها حلو أخضر كعيني والدته التركيّة العثمانية. تزوجت أباه بعد أن سقط حكم الأتراك في العراق، ولم يجد والدها "البيك" إلا شريفاً من بني العبّاس ضماناً لأملاكه وحياتها بعد سقوط الدولة العليّة، ضماناً يملك من المال والسنَد ما يحفظ له ماله. تزوجت تلك الفتاة التركية العشبيّة العينين لتكون جدة لأبي وجدّة لي. في العام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعون، التحق زوجها بجيش ذاهب نحو الغرب حيث القدس، لم يعُد. أوصلوا لها قلادة موسومة بالدماء وبشارة بأنه لقي مصرعه بجنين، لم تهرق دمعة واحدة أمامهم، فأعابوا عليها صمتها، وتشبثت بابنها ذي العشرِ سنوات.
يكبُر الابن، وتبقى الأم تتحدث عربيّة عرجاء، وتبقى لعامها الحادي والتسعين، لترى حفيدها وابن حفيدها: تراني. "عرب أوغلو" هو لقب ابنها وحفيدها وابن حفيدها، أي ابن العرب. لم يكن استخفافاً، ولكنه كان تذكرة لها لغربتها ولقسوة دنياها ولتعبها. ربما، أيضاً، شيئاً من الفخر الأشبه بفخر سليم الأول العثماني، حينما سلمه المتوكل على الله الثالث سيف الخلافة وكسوتها. وهكذا، خسرها أجدادي وأخذها أهل عشيرتها بيوم مضى، هل يهم كلّ هذا؟ نعم، لأن تلك التركيّة الصلبة قد علمت وورّثت وأرضعت نسلها عناداً صخرياً. بلحظة ما، فقدت تلك السيدة أملها بالرجوع لتركيا، وقررت أن تبقى بأرض الجنون تلك، ألقربها من دمنة أبيها؟ ألأجل حلمه الذي أزهر بها أيضاً؟ مضى سرها معها، ولكنها بقيت لتعلم ابنها معنى أن يتشبث بأرضه وأن يفخر بأصله. "بن آسليم... بن آسليم" كانت تعلّمه، أي أنه "ابن أصل" وأنه من الأرستقراط، متناسية أن الزمن قد طوى قبيلتها كما طوى قبيلة زوجها قبلاً. لكن جدي، عاش ومات كأرستقراطي، درَس العربيّة وعلّمها، وعاش على صهوة جواده بملابسه الإقطاعية العربيّة حيناً، وفي صفوف مدرسة يتأنق لها وكأنها أهم جامعة في الكون.
بأمسيات الجمعة، كان يخلع جزمته ذات العنق الجلدي الطويل، يرفع ثوبه العربيّ ويشده حول خصره، يرفع كمي بنطاله العربي المزكرش الجوانب، يلف شماغه متلثماً، ويغطس بطين أرضه بفخر. يحصد بمنجل لا يختلف عن مناجل عمّاله أو أبنائه. أتحمس أنا أيضاً، وأهِمّ بالحصاد بسكين منشارية صغيرة، "عفيّة النشمي أبو شهاب" يقولها مع ضحكته المميزة وهو يرى أول حفيد لأكبر ابن له يحصد معه، يرفعني على كتفيه، ونصعد تلة صغيرة ليريني أرض آبائه وآبائي، يخترقها جدول صغير تتفرع منه ترع للسقاية، ويغزو غربه نخل وحشي متعانق، بينما يغط جانبه الشرقي بسنابل الرزّ الساهمة. أما خلفنا، يكاد المرء يسمع لهاث العنب تحت حرّ الشمس التي تنضجه. وهكذا، بدأ العراق يتكوّن في ناظر الطفل، وصارت للأرض لافتة بذاته.
كانت الأرض ما زالت تنحت يومياتنا، حيث الأماسي المتأخرة ببستاننا الذي غصّ بذات صيف بعبّاد الشمس. للغروب صخب بأرض أوروك، ولقد خشيه أجدادي الذين سبقوني قبل ستة آلاف عام مضينَ كأنهن شهاب يرحل نحو السماء. كانت اللقالق تحلّق واجمة على علوّ منخفض بين النخيل وسعفه، بينما أصيبت السماء بعدوى الطيور، مئات الأسراب تشق كبد السماء كأن الطوفان قادم، وتحمرّ الدنيا بجلال مهيب، ثم يبرد النخل وتنسدل أوراقه براحة. لا غيوم بأرض أوروك، فالسماء أنقى من جرح شهيد، ألذ من قصيدة شاعر، وأوسع من الحياة كلها.
أقف متأملاً تلك اللوحة المروّعة بسحرها، فيقف جدي لجانبي مستريحاً، يغرز منجله بنخلة قربه، يحلّ لثامه ويتأمل الدنيا الغاربة بصمت. أشعر بأن الأرض تدور بنا، أشعر أن العالم يلهث حولنا، لكنه &ndashعلى نحو ما&ndash يحمل ذاك العناد العصيّ على التغيير. عناد الزرازير الهائجة، العصافير المستميتة للوصول لأعشاشها ونسمات الأرز الذي داعبت شَعر جلجامش يوماً. فجأة، ينتبه الكل لحمرة الشمس المتوحشة، كأنها فارس قاتل بألف جُرح وها هو ذا ينهار بجلال ملك يلفظ آخر أنفاس قداسته، تزدرد السماء آخر جراحات الشمس، لتنطفئ هي الأخرى، ولتنقطع الطيور فجأة، ولتخفت الأنوار وكأن ستار قد أسدل على مسرح عظيم. مسرح نفّر المقدسة قد أغلق أبوابه اليوم يا سادتي العِظام.
هناك، في أرضنا بعيداً عن المدينة، ننام أحياناً ببيت صيفي يتوسطها. كلّ شيء ينام في أرض أوروك، وكلّ شيء يصحو على ضفاف حلم آخر. أرض الأحلام أم أرض النيام؟ ليل أرض بابل لا يشبه أي ليل، فهو مدى هلامي ضيق ما بين الوعي والموت. حلمتً بجبال من الرز، بوجوه بشر على أجسام طيور، بقطط تتكلم، ونهر من الزعفران وآخر من رماد. أسير هائماً في فجرٍ بارد مغسول بندى مجّ الطعم، كماء نهر غزير السمك، الدجاج نائم بكسل، الديكة لا تجرؤ على الصياح فشمش لم يأذن بعد. "هاااا هووووو" أصيح كقرد مشاكس ثم أركض بين الدجاج الساخط عليّ، أضيع بين سنابل الأرز ضاحكاً، يخطفني عمي كمجنون ثم يركض بينما يعلو صوت جدي بغضب: أسرع أسرع أسرع. كان يقف على سطح داره مصوباً بندقيته الطويلة بثبات وأصابع غليظة. بلحظة ما، دوّى انفجار الرصاصة كصرخة هلع من أيام ستأتي، لقد قتل الذئب الذي كان يتربص بي فوق التلّة الجرداء.. يومها، أدرك الطفل أن أرض أوروك الجميلة تملك لوناً آخر يدعى الخطَر.
أعود لمدينتي لألتحق بمدرسة قريبة لدارنا، كنت أسير نحو جدرانها الخضراء بمشقّة لكبر حقيبتي ولانشغالي برسوم جدران مكتبة قريبة. تلقيت أولى الدروس التي تغلغلت فيّ كما الليل: بصمت وثبات. دار، داران.. زرَع، يزرع.. وفلسطين عربيّة. أولى الدروس كانت، ثم تلتها قصائداً عن البلبل الذي يرفض قفصه الثمين، لأن "حريتي لا تُشترى بالذهب". ثم تعلمت الاعتصام حول العَلم، وبعدها سألت الرماح العوالي عن معالينا. كان جدي يسمّعني القصائدَ تباعاً، كان أبي المدرّس يعلمني الانجليزية بدأب، كانت أمي المعلّمة تكنس حديقتنا وتنصت لي معرباً جملاً تختارها. في الثاني الابتدائي، كنت أقرأ بلا تلكؤ، بلا تلعثم أو خطأ، ينظر إليّ خالي بصمت ذات ظهيرة، ويقرر أن يبدأ فصلاً آخر من حياتي. يعود من غرفته برواية لمحمد شمسي: كمينٌ في الأدغال. أقرأها في أسبوع، ثم تليها رواية "لصوص البحر" وتتعاقب الروايات بلا انقطاع... كان الصبي يلتهم السطور كما الحلوى، بقيت فيه القراءة كعادة مرذولة لا يمكن الفكاك منها، وسيأخذها معه لقبره أيّاً كان مكانه.
كانت الحَرب تتسلق قامة العراق كزجاج مصهور حارق خانق قاتل. لم أدرك من هما المتحاربين إلا حينما صُرعت الحَرب ذاتها، فهطل على مدن أوروك رصاص السعاد،. يا للمغفلين البُسطاء. بعدها، زرتُ ووالديّ أرض مصر وشمال العراق. جبنا شقلاوة طولا وعرضاً، وقطّنا نزلاً أشبه بصدفة ملتصقة على سفينة غارقة تكسوها النباتات الأزليّة. من كلّ جهة، كانت السفوح تحيط بشرفتنا وكانت زهوراً لم أرَ أشدّ منها بهاءً. رباه، أهي الذكرى أم أن أرض إنليل هي السبب؟ في مدينة أمام الأطلسي من مدن أمريكا الشمالية الصغيرة، رأيت شوارع مرصوفة بالصخر كشقلاوة، لكنها لم تحمل زخم البلوط والأسى العميق الذي حملته إينليل وهي تتجه للعالم السفلي كي تضع ابنها ننار. وهناك، بأرض مصر كانت الأهرامُ تحنّط الزمان، ليخضع الزائر لتوقيتها لا النقيض.
يمر الزمن كزوبعة ترابية صغيرة، نعود لوادي الرافدين، لأرض المفاجآت الحيزبونيّة، في الحرب التالية، كنتُ أعرف ما يجري بشكل أفضل، فالحرب هذه المرّة فوق رؤوسنا مباشرة. قُصِفَت المدن، الجسور، الطرقات، البيوت، وانقطعت الكهرباء. الصدمة تدفع الرجال للصمت، أو لإطلاق بعض الشتائم القصيرة حينما لا يسمعنهم النساء أو الصغار. كان العراق وحده أمام جحافل أربعين دولة، وبدا العراق كشيخ وقور مدجج بالسلاح وهو يقف مدافعاً عن حرَمه ومعسكره، يالعراق الحُسَين. مرِضَ جدي بشدة، وعبثاً حاول عمي الطبيب مساعدته، كان غاضباً على نحو ما، فأن يرى نعوش القتلى تجوب الشوارع لثماني سنواتٍ أرحم من رؤية جدارنه متلطخة بسخام الإطارات المحروقة.
قيل ولا ندري من الذي قال أنهم لن يقصفوا من يحرق ناراً حول منزله، قالوا أنهم قتلوا أربعمائة طفل وامرأة بملجأ العامريّة، وأنهم شموا رائحة اللحم المشوي لأشهر. لم يحرق جدي أية إطارات، لكنه جمع أحفاده وحرَمه بمنزل واحد، ثم حمل بندقيته وجلس على كرسي قرب باب داره يحرسهن، لا يعلم ما مصير أبنائه على جبهات عدّة، ولا يأكل سوى خبز شعير وفوح رزّ ثقيل، بينما يتأمل باب داره الأخضر بوجوم حزين. كانت العجوز زوجه تلفه بمعطف صوفي يخلعه عند أدائه للصلاة، كنت أقف قرب مدخل الغرفة متسائلاً أو خائفاً. فتحتُ أقرأ "المزمار" مقلباً صفحاتها، وبلحظة ما أمطرت السماء مناشيراً قرأتها باستغراب، وعرفت لاحقاً أن الحلفاء يطلبون من العراقيين الثورة على حاكمهم.
إن أسوء ما في الثورات أنها بلا تنظيم وتؤدي مفعولها العكسي بأسرع من تأديتها لأهدافها. لقد تمزقت قيادة أركان الجيش العراقي، وقررت فلول الجنود العودة لبيوتهم بلا أدنى مقدمات: لقد خسروا الحرب!. كانت المدن خراباً، كأنها رايخ ثالث آخر قد سقط، كأنها عنقاء تحترق، كأنها بابل تنهب من جديد. عاد الرجال وبأفواههم مرارة السخرية والسخط العميق ضدّ كلّ شيء، لم يكونوا من المؤمنين بتلك الحرب الغبيّة، لكنهم لم يقبلوا الخسارة أيضاً. أتوا غاضبين وقرروا أن يلحقوا النقمة بالجلاد. كانت ثورة سريعة متوحشة، وقد علا الرصاص فوق صوت الأنفاس، فوق الأفكار، الدموع وحتّى الصلوات، يومها عصراً قررت جدتي أن تشتري خبزاً، تأملها جدي بضيق ولوقت مديد، ثم أعقب: "لم يخبز يحيى اليوم" لم تجبه، أخذت بيدي ومضت نحو المخبز، وكان ذلك بعد سويعات من ركود الجنون، هل تبحث عن الخبز أم أنها لم تعد تطيق منزلها الذي مكثت بين جدرانه شهراً؟ قالت بلهجة الجدّة الوديعة: "لا تنظر للقتلى" هززت يدها موافقاً، بينما تجمدت نظارتي أمام جثّة مغطاة بالدماء مفتوحة العينين يبدو أنها قد طعنت مراراً، التقت عيناي بعينيه، فالتفتُّ للجهة الأخرى، هناك رقد رجل عارٍ محترق الجثّة، لم أشعر بالخوف، إنما بحضور للموت قد سلب مني تلك الرعشة التي تصيب الأبدان حينما يحضر. بعد سنوات طويلة، ستنقلب بي السيارة ستّ مرات على الطريق السريع، وكلّ ما سيشغلني هو ثمن تصليحها! كانت يدي مسلوخة وصديقي ينزف بغزارة، وبكني بقيت أفكر بثمن تصليحها... يالطفولة المغتالة بنصل الدم. لما وصلنا ليحيى كان قد بدأ بتوزيع خبز مجاني لسعادته بموت الطغاة، وكانوا سيربطونه بسيارة ويجرونه بالطرقات حتى يتفكك جسده حينما يعاودون الحكم.
مرّت أسابيع قصيرة قبل أن تهتز المدينة بخمسة وخمسين صاروخاً سقطن بلحظة واحدة؛ طوّقت المدينة ودخلت الدبابات تهرس الأرصفة بلا رحمة وتقتل كلّ من لا يسلّم نفسه. كلما تقدمت بي السنون، تراودني تلك المجازر يومها وأزداد غضباً لسماح العالم بها، لقد حصد مئات البشر بمرقد الإمام عليّ بن أبي طالب وألقي الجرحى من نوافذ المستشفيات العالية، لقد أعدم عمّاي دفناً على قيد الحياة رغم صيامهما، رغم أي شيء ذو قيمة لأي شيء. على سطحنا، قمت بغسل دماء جارنا الذي حاول الفرار من رصاص الطغاة، كانوا ذوي حقد لا يقارن بأي حقد، كانوا يتعمدون القتل حتى وإن سلّم المرء نفسه. أما في كربلاء، فقد وقعّت الأضرحة والمشافي بدم الضحايا: الأوباش كانوا هنا، لقد قتلوا حتى الممرضات والأطباء، قتلوا جميعهم. تأمل جدي السماء وسمعته يتمتم بحزن وشفاه جافة: "يالثارات العِراق" لقد بقي يغالب خبر مصرع ولديه أياماً دون أن يفقد حتى ابتسامته. في تلك الأمسية الدامية السماء، الحزينة الراكدة حتى ليكاد يسمع صوت الحنفيات التي لم يجد أصحابها وقتاً لإغلاقها سقط بأولى جلطاته الدماغيّة. كنت قربه، مشغولاً عنه بحمرة السماء الغاضبة، وشعرت بيده تخمش ياقتي فتراجعت خائفاً.، كان الجدّ يطلب العون من الحفيد، لكن الخوف منعه فارتطم رأس العجوز على الإسمنت بعنف. ليومي هذا، أتمنى لو يعود الزمن كي أقبض على يده، لن أسامح نفسي ما حييت.
كانت فترة عصيبة على الجميع، فقد انشغل كلّ من في البيت بمرض الجدّ الذي كان بزمن مضى أشبه بطود منيع، هي ذات الفترة التي تقرر أسرتي الهجرة. سافرنا نحو الأردن عند الرابعة والربع فجراً، كان فجر أرض أوروك ضبابياً بارداً ومنعشاً عصيّاً على النسيان. أصرّ جدي على توديعنا عند الباب رغم إعيائه، وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي سنراه بها، لأنه سيموت بعد عامين من ذاك الصباح الجميل المحكوم باللعنة، كان ذاك هو آخر فجر قضيته في العراق، ولا أعلم إن كان الأخير.
من الأردن اتجهنا إلى سوريا، كانت تشبه العراق على عكس الأردن. ذات الوجه والشوارع والنظام الاجتماعي، لكنهم أقل قلقاً عمّا ألفته في عراق الأيام التي سبقت السفر. بدأت دمشق تنمو بداخلي مع الزمن، فأنا ابن العراق كلّه، لكن أمّي دمشق وحدها. كان السوريّون يضربون أعظم أمثلة الأخوة بمعايشتهم لأشقائهم برحابة صدر حقيقية، دخلت المدرسة كما يجب وبدأتُ التجذيف نحو المراهقة. كانت الحياة سريعة في سوريا، ولا تبطؤ إلا بالساعات الخمس التي أقضيهن يومياً في المكتبة العامة، عند الثامنة ليلاً أتجه لمكتبة أصغر، إلا أنها معدّة للبحث أكثر من الاطلاع. كانت قليلة المصادر الأدبية كثيرة بمصادرها الدينية والعلمية والتأريخية.
على طاولة تتسع لثلاثين شخصاً، كنت غاطساً بين الكتب رغم أعوامي الثلاثة عشر، على يميني المجلد التاسع عشر الذي يحوي الجزء الثاني من تأريخ القرن الثامن عشر، وعلى يساري الموسوعة الميسّرة الثانية وفوقها هاملت وفوقه كتاب مدرسيّ غالباً ما يكون الرياضيات. كنت ألعب كرة القدم أيام الجمعة والثلاثاء فقط، كما أمارس بناء الأجسام بين العاشرة ليلاً و الثانية عشرة برفقة شاب يكبرني تعرفه أسرتي وتأكدت أنه لن يسمح لي بأن أقع بالمشاكل. بقي الحال هكذا حتى عامين آخرين، وعندها بدأت أولى تلك العلاقات التي لا تعتبر حبّاً لكنها تحوي الكثير من مشاعره. كان اسمها ناهد، في الصف الحادي عشر، ذات وجه عاجي يصعب تذكره لأنه يشبه كل ما هو جميل ربما.
ابنة صاحبة العمارة، من أسرة شاميّة عريقة. بدأت القصّة بزيارات مشروعة لبيتي بحجّة التمرن على الرياضيات بمساعدة والدتي، ثم وصل الأمر لوجودها وحدها ببيتنا لأجل الدراسة. عدتُ لغرفتي مساء يوم كرويّ حافل، كانت الخسارة صعبة على فريقي فضربنا شباب منطقة "الزاهرة" ضرباً مبرحاً، صرخ منظّم الألعاب الشعبية وكان يعمل ببقالة كبيرة يمتلكها والده بمنطقتي أن الخسارة لن تمحى وأن علينا أن ننقلع لبيوتنا، عدت للحجرة التي أتشاطرها مع أخي فوجدتها رتيبة، على مكتبي الحديدي البدائي ورقة مطوية بعناية، تكللها رائحة غير مفهومة أشبه برائحة الياسمين الخفيف. قرأتها بدهشة أولاً، ثم بتأنٍ شديد ولم يكن هناك أدنى مجال للشك: تصريح حُب. كان بيتاً شعرياً واحداً من تأليفها، وبدا لي ركيكاً للغاية، كتبتُ لها أبياتا لنزار قباني يقول مطلعها:
إني عشقتكِ واتخذتُ قراري ** فلمن أقدّم يا تُرى أعذاري
أحبيبتي إن السفينة أبحرت ** فتكومي كحمامة بجواري
سلمتها الورقة بشفاه يابسة، فأخذتها بصمت و هربت تريد الخلاص من خوف سيطر عليها. استمرت الرسائل المحمومة لشهر أو بعض الشهر، حتى صارت علاقتنا شبه إدمان. كنت أراها تعود من مدرستها عصراً فأبتسم لها وتبادلني الابتسام، وتجول بداخلي أفكار كثيرة أهمها أنني أريد منها ما هو أكثر دون أن أعرفه. لاحقاً، عرفت أني أرغب بعناقها، لكن الوقت قد فات. كنتَ أشاهدها بيضاء بشعر قصير أسود، وعيون واسعة سوداء، تسير بشموخ وهي تشدّ كُتبها لصدرها الناهد، بدت بهية بزيها العسكريّ الطلابي. خلفها، سار اثنان أحدهما كويتيّ يزور سوريا مع أسرته سنوياً بموسم الصيف، والآخر لبناني ظهر فجأة بالمنطقة. تكلما بأمر أردافها وضحكا، وكنت قد كظمت غيظي كي لا يصلا غضبي بها.
لاحقاً بعد الفطور برمضان قمت بهجوم كاسح عليهما. كان الكويتي قد فرّ بعد أول لكمة، بينما تماطلت مع اللبناني بحرب شعواء كنت بها حاقداً على البشر كلهم. ذكران يتقلبان على الطين في التاسعة والنصف ليلاً، يتلاكمان لأجل أنثى. ما أقدم هذه الحرب؟ تعب هو، فران أن يركض فلحقته وعاجلته بركلة بظهره. نهض وتكرر المشهد لأربع مرات أُخر عندها لجأ للحيلة التي أسقطني بها، قال أنها "صاحبته" ورفيقته وأنها تخدعني.
تركت ياقته وشعرت بدوار ثم سخط شديد. دفعته عني بعدائية وسرت منكسراً للبيت. في اليوم التالي، انتظرتها لحين عودتها من المدرسة وواجهتها بكل شيء، جلست على الأرض وبكت مغطية وجهها براحتيها، سألتها، وأنا أعجب لوخز غريب بقلبي، عن السبب؟ أقسمت أنها لا تعرف ما أقوله، وعندها دخل أخوها الذي يكبرني وفهم المشهد. لحقني فلذت بالفرار كي لا أضربه أمامها أو يضربني. بقيت أركض وهو خلفي ثم توقفت فجأة واستدرت لمواجهته وبي سخط لعله أخافه، قال بأنه يريد أن يعرف ما جرى فقط، أعلمته بأنني أدافع عنها بسبب ساقطين ليس إلا، فتأملني مليّا ثم قال أن أترك هذا له، هززت كتفيّ ومضيت.
لاحقاً، ساءت العلاقة بين أسرتينا (بسبب غضب والدتها مني) ودعينا لإفراغ البيت أو مناداة الشرطة. شعرت بحزن أبي وهو يجلس على الرصيف تلك الليلة، وقد عدد مشاكلي التي طالت المدرسة والشارع والمنزل الآن، كنت أؤجر مقاعد الدراسة للطلبة، وأعمل بالحماية المدفوعة الأجر حيث أحمي طلبة وأقتص من آخرين لأجل مالٍ أحدده مع مساعدين لي. سألني بتعب عما أريده؟ قلتُ وأنا أغالب رغبة بالبكاء تقرص بلعومي بأنني ضائع وبلا أمل؛ نصف المجالات ممنوعة على العراقيين وحتى السوريين إلا من لهم سند بالدولة، وأنا أنهيت التاسع ولا يبدو أنني سأدرس شيئاً حتى لو أنهيت الثانويّة هنا، جلستُ قربه متسائلاً: لماذا لا نهاجر؟ لقد رفضت الهجرة أربع مرات، وكل من نعرفه هاجر، هزّ رأسه بحزن وتمتم بأنه لا يعلم.
مرّت ستة أشهر كانت هي الأسوء لنا في سوريا، وذلك بالتعب الذي ألحق بنا لإنهاء معاملة الهجرة التي تشجعها الحكومة السورية للتخلص من الأعداد المتزايدة من العراقيين. بالأسبوع الأخير لي في سوريا، قمت بزيارة تدمُر للمرة الأخيرة عند عودتي من الحسكة حيث نقطة الأمم المتحدة، وكانت تلك الزيارة ضرورية كعدة زيارات أقوم بها وحيداً لتسجيل الحضور هناك حيث مركز اللاجئين العراقيين، وقفت أمام استراحة بمواجهة تدمُر وتأملت الأعمدة المتهدمة، وآثار المنجنيق الروماني الذي دكها بليلة ليلاء. أعاد بصري دوران الأرض، لتنهض الأعمدة من جديد، ترتفع الأتربة والأحجار لأماكنها، وتطلى العواميد بألوانها الزاهية ويتحرك الناس هناك بأمان وبذخ، أحسستُ بمساعد السائق يهزّ كتفي متمتماً "البولمان سيتحرك يا ابني.. تعال"عدتُ لدمشق، ودخلت المتحف الوطني لآخر مرة، وتأملت ماضي أجدادي العرب، ثم زرت المتحف الحربي، التكية السليمانية وأخيراً توجهت لمحطة الحجاز. وقفت أمام ساحة المرجة حيث أعدموا الأحرار العرب بعام 1916 وقرأت الفاتحة لهم، مضيت لمكتبة الحلبوني وتجولت بين رفوفها واشتريت كتاباً قد ضاع بعدها بثلج قارّة بعيدة بعيدة.
غذيت المسير لسينما السفراء وشاهدت آخر فيلم بها مع صديقي المفضّل، وبعدها اتجهت لقبر صلاح الدين فزرته واخترقت الجامع الأموي ومررت قرب مقهى النوفرة وانحرفت يساراً لمرقد السيدة رقيّة. كانت الطائرة ستقلع في العاشرة ليلاً نحو الأردن فأمستردام، صباح يوم السفر، قمت بحلاقة شعري وتوديع قليل من جيراننا، مضيت لحديقة تشرين حيث كنت أقرأ وحيداً، ومن بعدها ودعت مدربيّ الحديد والتايكوندو. قررت أن أحمل كتاباً معي في الطائرة: الحُب في زمن الكوليرا لغابريل غارسيّا ماركيز. كنت أريد قراءة الصفحة الأخيرة برهبة عندما يعلن فلورنتينو أريثا أن الحبّ يستحق أن يُغامر لأجله لمدى الحياة. قبل السفر بأربع ساعات، ودّعت صديقي ومضيت لبيتها بلا هدف. أكان حبّاً؟ لا لم يكن، لكنه كان شيئاً ما. لم يبقَ الكثير لقوله، بل بقيت أنتظر مع أسرتي. أطلقت سراح حمامتي فعادت بعد ساعة، لكننا تركناها بعشّها فوق السطح مع أكل يكفي لشهر أو أكثر. اتجهنا للمطار ليلاً، كانت السيارة تصدح بصوت دعاء ما لا أذكره. أقلعت الطائرة بابن أوروك، نحو أرض جديدة وعالم كبير، ولم يبقَ من القصّة إلا القليل.
وصلتُ لعالم مختلف، كانت أشبه بالولادة. أقف أمام الأطلسيّ متوحداً بشتاء جديد عليّ، السماء تلتفع بذاتها وتتجه نحو الأفق كأنها تسيل بالمحيط بنقطة أخرى. يهبّ الهواء بارداً ويضرب الموج الصخر تحتي، فيرتد صداه عميقاً بين صدغيّ. يا للإنسان، أرددها بلا كلمات، وثمة شيء، أشبه بثعبان لا مرئي، يعتصر قلبي وينوي افتراسه. بمدينة قريبة، وقبل قرن مضى، وقف جبران أمام الأطلسيّ أيضاً ليتسائل عن ذاك الشرق المتواري خلف غضون البحار والحنين، لكن حذار، فالحنين مضلل ويقتات على اليأس. لذا، استدرت عن الشرق وسرت نحو المدينة العتيقة. قيل أن الأب المؤسس للوطن قد زارها، وأنها ما زالت ترحب بالمهاجرين منذ ثلاثة قرون مررن كما السحاب.
واقرأ أيضاً:
غزة والصحافة العربية/ جوائز ثقافية / بَعْدُ وَبَعْدُ... / فِـقْـهُ الرَّغْـبَةِ ! / وجوهٌ شتي !! / عسى..يا عَسى! / سببٌ مَبْـحُـوح !