في سيكولوجيا الثورة المصرية1
حين دخل الشباب المصري ميدان التحرير في 25 يناير، صار مشهد الصراع أشبه بلعبة كرة قدم في مباراة نهائية على كأس مصر بين فريقين: النظام الذي يمتلك الخبرة ويعرف قواعد اللعبة، والشباب الذي تحدّى فريقا عريقا ولا يمتلك غير الحماسة وروح المغامرة.
كان كل فريق يريد أن يسجّل هدفا في مرمى الفريق الآخر، وحين تعالت هتافات الجماهير بادر رئيس فريق النظام ليسجّل هدفا بإعلانه أنه لا ينوي الترشيح للرئاسة بعد الآن، مذكّرا إياهم بهتافاتهم له للأهداف التي حققها في تاريخه، وأنه يكفيه أنه كان صاحب الضربة الجوية الأولى في حرب أكتوبر فتعاطف الناس معه وانشق الجمهور إلى قسمين وبدأت هتافات التأييد تعلو للفريق العتيد المتمرس بفنون اللعبة والمغرور بقوته والمتحصّن بمليوني رجل شرطة وأمن ومخابرات. وكادت اللعبة تنتهي لولا أن فريق الشباب استنهض قواه، بعد هبوط، وباغت خصمه بأسلوب فني جديد مكّنه من مواصلة اللعبة، وببقائه في الساحة سجّل هدف التعادل، وعندها أدرك فريق النظام أن خصمه ليس كما يظن وأن "تكتيكه" جديدا عليه وليس من السهل هزيمته؛
ولكي يحرمه من تسجيل هدف الفوز بادر رئيس فريق النظام إلى تسجيل هدف ثان (هدف الاطمئنان) بأن أحال مسؤولياته إلى نائبه ليسقط شعار (ارحل).. وما درى أن "هدف الاطمئنان" هذا لو أنه افتتح التسجيل به لكان أجدى، فعند هذه اللحظة تحديدا التقط فريق الشباب نقطة الضعف السيكولوجي في خصمه وأدرك أن فعله هذا هو في حقيقته تنازلا، فاستغلها وعمد إلى التصعيد بأن علاّ سقف مطلبه من "ارحل" إلى "إسقاط النظام".. وعندها أدرك فريق النظام أن اللعبة إذا استمرت فأنه سيهزم بالتأكيد ما لم يقم بمناورة كانت ابتكارا جديدا هو "القضاء على المظاهرة بمظاهرة مؤيدة" ولكن على ظهور الخيل والجمال هذه المرّة، وبهذا الخطأ "الفاول" القاتل الذي أخلّ بقواعد وأخلاقيات اللعبة، تضعضع فريق النظام فيما واصل فريق الشباب لعبه على الطريقة الألمانية، الحماس حتى اللحظة الأخيرة والإصرار على الفوز.
وما زاد في انهيار معنوية فريق النظام أن جمهوره أنحسر بعد ذاك الخطأ القاتل وأن العالم انحاز إلى فريق الشباب بمن فيه صديقه أمريكا التي دعت إلى "التغيير" في البدء وغيرته إلى "الانتقال السلمي للسلطة". حين سجّل فريق النظام هدفي التعاطف ونقل السلطات لنائب الرئيس الجديد "حفاظا على مصر وأمن مواطنيها" ثم حسمت الموقف للكفة الأرجح، وانتهت اللعبة بفوز ساحق ومدهش وفريد في تاريخها لفريق الشباب مساء الجمعة 11 فبراير 11.
قد يبدو هذا الوصف تسطيحا في نظر المحللين أو اختزالا لثورة عدّت نادرة في تاريخ الثورات لكنه في فعله السيكولوجي كان كذلك فعلا، أما سياسيا فالتحليل يخص الأسباب وليس الفعل وردّ الفعل والسلوك الصاعد والهابط، المتموج لدى الفريقين بين 25يناير و11 فبراير، فالظاهرة هي حصيلة عوامل سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية اختمرت وتفاعلت لتنفجر بقانون اجتماعي شبيه بالقوانين الفيزياوية.
إن السبب الرئيس لما حصل هو أن الحزب الحاكم في مصر تحول بدءا من منتصف التسعينيات إلى مؤسسة اقتصادية تظمّ رجال أعمال، وأنه وظّف كل إمكانات الدولة لخدمة مصالحهم، وعلى رأسهم المهندس أحمد عزّ صاحب شركة الدخيلة للحديد والصلب وشريك جمال مبارك. الواقع أن جمال هذا الذي ورث "سيكولوجيا الخليفة" أيضا، كان هو الرئيس الفعلي لمصر بعد أن طمأن والده أن مصر بأيد أمينة، وأن عليه أن ينعم بشيخوخة هانئة، وأنه سيبقى الخيمة والأب والمستشار.
والمشكلة هنا أن المسؤولين السياسيين والمتنفذين في الحزب الحاكم انشغلوا بجمع الثروة وولعوا فيها وأهملوا قضايا الناس.. وهذا يفضي بالضرورة -كما هو الحال في أنظمة عربية أخرى- إلى انعدام العدالة الاجتماعية وتفشي الفقر والبطالة، ونمو قلّة سياسية حاكمة ومحتكرة للثروة تضع نفسها فوق المساءلة والقانون مقابل جماهير واسعة تشعر أن حقها مغتصب وكرامتها مهدورة، وأن الغاصب يذلّها.. ويحتقرها.. ويتعالى عليها. وكان أكثر من أصابه هذا الحيف وأشدهم تحسسا له وتأثرا به هم الشباب الذين تخرجوا في الجامعات وصاروا بين عاطلين وممارسين لأعمال لا تليق بهم كعمّال تنظيف وبناء وبائعي صحف وخضار.
أن زواج السلطة من الثروة، وحمايتها بأجهزة أمنية، هي الحالة التي تشترك بها كل الأنظمة العربية -وهي المعول التي سيطيح بها تباعا- وإلا فأن الحرية والديمقراطية متوافران في مصر بشكل أفضل بكثير مما هي عليه في ليبيا والجزائر مثلا، بل أن توافرهما في مصر كان سببا مشجعا لما حصل.
وحقيقة أخرى هي أن ما حصل في ميدان التحرير يوم 25 يناير بدأ بانتفاضة قامت بها مجموعات شبابية متنوعة الاتجاهات تجمعها سيكولوجيا تطعمت بشحنات وقيم جديدة لمفاهيم العدالة والحرية والكرامة، ووعي جديد لكسر حاجز الخوف مختلف عن وعي جماهير عريضة موزعة بين مستكينين ومتفرجين وقدريين. فالذي حصل أن عشرات آلاف من الشباب من بين (88) مليون مصري بدءوا الانتفاضة، وحين أثبتوا وجودهم وتعاطف الإعلام العالمي والعربي "وتحديد العربية والجزيرة".. أخذت تتحول إلى ثورة شعبية بأن التحق بها أربع فئات: قوى أحزاب ومعارضة سياسية، مثقفون وفنانون من جيل الكبار والوسط، صامتون يغلون من الداخل ويحتاجون لمن يصرخ ليكونا معه، ومترددون يراقبون المشهد لينظموا لحظة يدركوا أن الكفة صارت أرجح وأن ترجيحها بثقلهم يكون لصالحهم.
تلك هي الحقيقة..أن عشرات آلاف من الشباب قدحوا شرارة الانتفاضة، تحولت في عشرة أيام إلى ثورة شعبية شارك فيها الكبار أيضا، وأن الذين شاركوا في الثورة لا يزيد عددهم على ثمانية ملايين فيما توزع الثمانون مليون الباقي بين مستكينين وقدريين ومتفرجين ومعتبرين التظاهرات مضرّة بالبلاد والعباد، ومنتفعين من النظام، ومؤيدين لحسني مبارك.. الذي حصل في آخر استفتاء أجرته وكالة أبحاث أميركية على 16% من أصوات المصريين فيما حصل البرادعي على 3% وعمر سليمان على 17% وجمال مبارك (صفرا).
إن الهدف المركزي لثورة مصر الفريدة في التاريخ هو إقامة دولة مدنية حديثة تؤمن العدالة الاجتماعية والحياة الكريمة للمصريين، فهل تنجح والشباب الذي قدح شرارتها لا يمتلكون خبرة الكبار في السياسة؟.. ذلك هو موضوع الحلقة المقبلة.
واقرأ أيضاً:
سيناريو الثورة المضادة!/ تنظيف مصر من آثار الفرعون بالمقشات/ حكاوي القهاوي