ضرب الشيخ محمد الغزالي مثلاً في كتابه: "مستقبل الإسلام خارج أرضه.. كيف نفكر؟" للعامل الأجنبي الذي يجيء إلى بلد عربي، وبدل أن يتقن لغة القوم الذين ضمنوا معايشه، يريد بوقاحة أن ينقل الناس إلى لغته الأصلية أو إلى اللغة الإنجليزية التي استعمرت بلاده، وقد يبقى سنين طويلة لا يفكر أبداً في تعلم العربية أو احترامها واحترام الناطقين بها!
قارنت بين هذا المثال الذي يعاني منه كثير ممن يذهبون إلى بعض أسواق دول الخليج ويجدون صعوبة في التعامل مع البائعين من الدول الآسيوية مع أنهم يعملون في بلاد العرب ومع العرب، لكسب القوت وتحصيل الرزق! قارنت بين هذا المثال ومثال آخر حدث معي، وأظنه يتكرر مع كثيرين، بل وأظن أن عدداً من قراء هذه السطور يقفون ذات الموقف الذي أعترض عليه، فقد رفض زميل لي أن يسجل اسمي على هاتفه باللغة العربية، وحين استفسرت منه عن سبب هذا السلوك، وجدته يقول إن هذه الأجهزة والبرامج الحديثة قد صنعها الغرب، ولابد أن نتعامل معها بلغتهم!! فتعجبت من هذه النظرة السطحية ذات الأبعاد الخطيرة والدلالات الهامة.
إن هناك خلفية حضارية لهذا التصرف ذكرها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة وهي: "المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب"، فهذا التصرف دليل ولع بالغالب ومنجزاته لدرجة أنه يرفض استخدام لغته الأم (العربية) في تعامله مع اختراعاته، مع أن استخدام لغته لا يكلفه شيئا، بل لقد أتاح صناع هذه الأجهزة والبرامج استخدامها بلغات متعددة، لأن هذه هي طبائع الأشياء، فلكي تروج سلعة أو فكرة فلابد من أن تروجها بلغة من سيستعملها أو يتلقاها، ولقد أرسلا الله الرسل بألسنة أقوامهم "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (إبراهيم:4)، لكن من عجائب مصر وبلادنا العربية أنه قد وصل بنا انكسار النفس أمام حضارة الغالب إلى درجة إن يتحدث أحدنا فيقحم الكلمات الأجنبية في حديه إقحاما لا مبرر له، ولا فائدة ترجى من ورائه، اللهم إلا إن كان من يفعل ذلك يرى فائدة في ألا يفهم السامعون حديه أو أن يحصل خيرا من وراء تفضيل لغة الغير على لغته الشريفة، ولا يدري المسكين أن اعوجاج اللسان علامة اعوجاج الحال، كما يقول ابن حزم الأندلسي، ولعل لمحة ابن حزم الصائبة هذه تفسر سلوك العامل الأجير القادم من مجاهل آسيا للعمل في بلادنا، فرغم فقره فإنه يأبى إلى أن يحافظ على لغته خشية أن يعوج حاله، ولذلك تجد تقدم الدول الآسيوية يجرد مع تمسك بالعادات والتقاليد والطقوس الاجتماعية والدينية وهذا ما نراه في دول مثل الصين والهند التي تقدمت بالحفاظ على مجتمعها الداخلي دون الارتماء في أحضان الغرب، وأصبحت الآن ذات شأن كبير.
إن اللغة العربية لها خصوصية لا تتوافر لأي لغة، فقد نزل بها القرآن الكريم: "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الزخرف: 3،4)، ودُوِّن بها تراث العرب وآدابهم، وتكفل الله بحفظها حين تكفل بحفظ القرآن الكريم: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر: 9)، وأظن أن هذا الحفظ الذي تكفل به الله –سبحانه وتعالى- حافز كي يسعى الإنسان لأن ينال شرف حفظ الله لهذه اللغة وهذا الذكر بواسطة حفاظه على لغته وتمسكه بها وإضفاء الصبغة العالمية عليها، لا أن يعيش منهزماً نفسياً أمام لغة الغالب منتظراً ما يلقيه إليه من فتات اختراعاته وبقايا تقدمه.
إن عدم اهتمام الإنسان بلغته يفصله عنها وعن تذوقها كما أن معانيها ودلالات ألفاظها تكون مُشوَّشة أمامه، لا يدرك مرامي الألفاظ والمصطلحات ولا معانيها إلا بصعوبة بالغة، فكما أن للغة دوراً هاماً في صياغة شخصيتنا وعقليتنا وأسلوب حياتنا لأنها إحدى المكونات الرئيسية للهوية، فإن لها دوراً هاماً أيضاً في فهم كثير من الأمور التي تحدث حولنا وفينا، ولها دور هام في مقاومة عوامل إفساد هويتنا وإهدار تاريخنا وتدمير مستقبلنا، لأن نظرتنا لها تحدد موقعها من السياسة الثقافية التي تترابط مع السياسة الاقتصادية والسياسة الاجتماعية لتحدد ما إذا كنا سنستسلم أمام الغالب أم سنقاومه ونتفوق عليه، فاللغة وعاء الفكر، وإهمالها كما نفعل الآن يُرسِّخ في أذهاننا ونفوسنا أنها لغة الجمود والتحجر والعجز والتخلف، في مقابل إسباغ صفات التطور والارتقاء والنهوض والتقدم على اللغة الأجنبية، سواء كانت إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية أو إسبانية... إلخ.
وهذا مما يكسر النفس وقف حائلا أمام التقدم والنهضة، ولذا نجد أن كثيراً من الدول التي تقدمت بعد تخلف أو ضعف أو هزيمة قد تبنت نموذجا حضارياً يعتمد في الأساس على ثقافة هذا البلد ولغته وهويته، مثل الصين والهند واليابان وماليزيا وغيرها، وما تقدمت أمتنا إلا حين كانت متمسكة بلغتها ورسالتها؛ تنشرها في ربوع العالم بكل جهد ومثابرة وإخلاص، حتى وصلت إلى مجاهل إفريقيا وأطراف آسيا وأواسط أوربا، ولننظر إلى نسبة استخدام اللغات في الإنترنت كمؤشر دال على تنافس الأمم في الاحتفاظ بهويتها ولغتها وعدم الانسياق وراء (موضة) الأمركة، فبينما يبلغ استخدام الإنجليزية نسبة 19% فإن الصين تحل في المرتبة الثانية بنسبة 22% ثم الإسبانية 8% تليها اليابانية 5% ثم الفرنسية والبرتغالية والألمانية وكل منها 4%، في حين يبلغ استخدام اللغة العربية 3,3%، لم تقل الصين إن لغتها ليست قادرة على التطور ومواكبة الركب، ولم تسلم قيادتها – كما نفعل – للغرب، بل تفوقت عليه في كثير من المجالات، وأوضحت رقماً صعباً في المعادلة الدولية يحسب له الجميع ألف حساب، وأول من يفعل ذلك الولايات المتحدة ذاتها، كما حاول أصحاب اللغات الأخرى التمسك بلغتهم رغم قلة عدد مستخدمي لغاتهم.. وبقينا نحن دون ما نستحق!!
أيها السادة: لا يوجد سيد دائم وعبد دائم، إن الأيام دول، والحضارات تتناوب القيادة، وعلى كل حضارة أن تحاول النهوض بما تملك من مقومات، حتى يتسنى لها أن تقود ذات يوم، لا أن تركن وتستسلم للحضارة الغالبة، بل إن حضارة الغرب أمامنا الآن تعتصرها الأزمات المتسارعة، لا تكاد تفيق من إحداها حتى تمسَّها أختها بسوء، وقد تسلم من هذه الأزمات وتتقدم أكثر، أو تتراجع أمام حضارة أخرى.. فهذه سنة الله في خلقه، فلنعتز بما نلك.. لاسيما أنه كثير وقوي وعزيز.. ولا يملكه سوانا.. ولنتمسك بلغتنا وهويتنا فهي ليست مانعة أبداً من التقدم والنهوض، ولم تكن قط عائقا أمامه ولن تكون، كما أنها لن تأبى أن تتعامل مع منجزات الغرب والشرق العلمية والثقافية في العصر الحديث، فقط نحن من يصيبها بالعجز أو يبث فيها الروح.. ونحن أيضا من سيخسر إن لم نستعملها وأهملناها، ولم نُضَمِّنها رؤيتنا الحضارية التي نسعى بها نحو التقدم.
مجلة الساقية الورقية
واقرأ أيضاً:
لغتنا الجميلة