ظاهرة فرط التدين العشوائي
جاءت تستشيرني في أن ترتدي النقاب، فقلت لها هذا أمر يخصك، فقالت ولكن ذلك سيستدعي تركي لوظيفتي بالضرورة، فسألتها: ولماذا تتركين وظيفتك وقد تعبت أسرتك حتى وفرتها لك وهي وظيفة حكومية محترمة، وأنت مازلت في الثالثة والعشرين من عمرك وأمامك مستقبل مبشر خاصة وقد كنت من المتفوقات في دراستك؟.. ردت بأنها ترغب في التفرغ للدراسات الشرعية وأنها ستلتحق بمعهد إعداد الدعاة؟.. فسألتها إن كانت ترغب أن تتحول لداعية فأجابت بالنفي، إذ هي لا تملك مقومات الداعية، ولكنها ستتعلم لنفسها.. وانصرفت وعرفت بعد سنوات أنها تركت وظيفتها وانتقبت، ولم تكمل مشوارها في معهد إعداد الدعاة حيث تعثرت فيه كثيرا، وهي تجلس في البيت ولا تفعل أي شيء سوى التردد على دروس العلم الشرعي المنزلي لدى بعض الدعاة الهواة، وهو يقنعها بأن ما فعلته هو الصواب.
سيدة أخرى تعب والدها وقطع من قوته الكثير لكي تدرس في الجامعة الأمريكية، وتخرجت وكان ترتيبها الثانية على دفعتها وحصلت على شهادة متميزة في علوم الإدارة تبعتها بدورات متقدمة في نفس الجامعة وتعرفت على زميل لها من نفس الجامعة وتزوجا، وكان في تخطيطهما أن يعملا معا في مشروعات خاصة ليحققا طموحاتهما العالية، ولكنها بعد الانخراط في بعض الجلسات الدينية المنزلية قررت التوقف عن كل شيء والتفرغ لحضور الدروس والندوات الدينية وابتعدت عن معارفها وصديقاتها وحتى عن أسرتها الأصلية، وأصبحت تشعر بالغربة تجاه زوجها، فهو منشغل بالنجاح في مشروعاته الحياتية وهي منشغلة بالآخرة، فانفصلا، وأصبحت تعاني معاناة شديدة في توفير وسائل العيش لها ولولديها وتعتمد في ذلك على ما يأتيها من معونات من إخوتها، ومما يجود به أهل الخير الذين يشاركونها حضور الندوات المنزلية، وهي لا ترى بأسا في ذلك على اعتبار أنها فعلت ما يجعل الله عنها راض فالدنيا فانية والآخرة باقية، وليس من الخير أن تزاحم الرجال في الشوارع والطرقات وأماكن العمل.
شاب قرر ترك الدراسة في كلية الطب، وقد كان من أوائل الجمهورية في الثانوية العامة وكان الجميع يعول على أنه سيكون أحد علماء مصر في الطب نظرا لتميزه الواضح وذكائه المتوقد، ولكنه قرر التفرغ للخروج في سبيل الله حيث انتمى إلى جماعة التبليغ والدعوة وأقنعه بعضهم أن دراسة الطب عمل دنيوي أما الدعوة إلى الله فهي ما سيتبقى له. وشبيه بذلك زميل قبطي رحت أتفقد أخباره لأنني كنت أتوقع أن يحقق إنجازات علمية هائلة في مجاله فإذا بي أعلم بأنه ترك كل شيء وأقام في أحد الأديرة بالصحراء الغربية.
هي للأسف ليست حالات فردية وإنما هو توجه يكاد يكون ظاهرة، حيث يهجر كثيرون من أبنائنا الحياة ويهاجرون إلى الآخرة قبل أن يعمروا الحياة الدنيا، وبينما تمارس الدول المتقدمة تنمية مواردها وتطوير حياتها ورعاية أبنائها وإرساء قواعد التفكير العلمي الذي ينهض بالحياة ويحسن جودتها، نرى انشغالا هائلا في مصر بما يمكن أن نسميه "فرط التدين العشوائي"، وهو نوع من الاستغراق والتشبع بمفاهيم وتصورات دينية بعضها موافق لصحيح الدين وبعضها صناعة بشرية مغلفة بغلاف ديني. وهذا التدين العشوائي يتم على يد أشخاص هواة يميلون إلى زرع توجهات دينية عدمية أو انسحابية أو هروبية، ويتلقاها منهم أشخاص يجدون صعوبات في التكيف مع الحياة فيسعدون بهذه الرؤى الدينية التي لا تتطلب منهم إلا حضور بعض الجلسات الدينية وإقامة بعض الشعائر.
ونظرا للفراغ السياسي والجمود السياسي الذي يميز ثلث القرن الأخير في مصر فإن الناس ارتمت في أحضان التيارات الدينية التي تلوح لهم بالخلاص والسعادة في الدنيا والآخرة وتلطف من أثر ما يعانونه في حياتهم اليومية من شقاء. وفي مقابل انعدام الأحزاب السياسية الحقيقية في مصر ترى ازدهارا وتعددا في الجماعات والتيارات الدينية بما يناسب كل الأذواق والتوجهات من أقصى درجات التشدد إلى أكثر درجات التسامح، ومن السلفية الموغلة في التقليد إلى التيارات الموغلة في التحديث والحداثة. والفقر ليس فقط سياسيا وإنما هناك حالة من الفقر المادي وحالة من الفقر العلمي وحالة من الفقر الثقافي، وفوق كل هذا هناك انعدام للأهداف الوطنية أو القومية أو الأممية الكبرى التي تجمع شتات الناس حول مشروع مشترك. وحين قرر السادات أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، وحين ذكر مبارك أن السلام هو الخيار الإستراتيجي الوحيد، وصلت رسالة للناس أن ينصرفوا كل يبحث عن لقمة عيشه بطريقته، فالدولة قد اتجهت إلى الخصخصة، ولم تعد تقوم بدورها في تشغيل العاطلين أو رعاية المرضى، وإن قامت بشئ من ذلك فهو قدر رمزي لا يغطي احتياجات الجماهير الغفيرة. وهنا أصبح كل شخص يبحث عن مشروعه الفردي، واستشرت الأنانية والذاتية لدى الناس وضعفت الروابط بينهم، ولم يعودوا أصحاب وطن واحد بل أصبحوا وكأنهم سكان في مكان جغرافي واحد ليس بينهم أكثر مما بين سكان العمارات من علاقات سطحية عابرة وأحيانا بلا علاقات.
السلفية السياسية والسلفية الدينية
في انتخابات نقيب الصحفيين الأخيرة رفع جموع الصحفيين شعار: "الكبير كبير... مش عايزين تغيير"... وكان غريبا جدا أن يصدر هذا الشعار عن فئة الصحفيين بالذات، والذين يفترض أنهم من النخبة المثقفة وأنهم هم المحركون لوعي المجتمع وأنهم مواكبون للتغيير السريع في العالم وفي الحياة، ومدركون أن التغيير هو سنة الحياة السوية الطبيعية. وربما يفسر لنا هذا بقاء الحال على ما هو عليه في مصر لأكثر من ثلث قرن على الرغم من أن الدنيا حولنا تتغير، ويفسر حالة الجمود والركود التي نحياها، فهاهي النخبة الثقافية تعلن انحيازها لبقاء الحال القديم دون تغيير، وأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأن الكبار والقدامى على حق دائما، وأن الصغار والشباب والمحدثين لا يصلحون لقيادة الحياة، وهذا هو بالضبط نفس المنظور السلفي الديني، وكأننا الآن في مصر نعيش بين سلفيتين إحداهما دينية والأخرى سلفية، وكلاهما تحاولان تثبيت الزمن على التوقيت القديم وتكفران بكل ما هو جديد أو مستحدث.
والسلفية السياسية (مثل السلفية الدينية تماما) لا تؤمن بتعدد الرؤى والتوجهات، ولا تؤمن بتعايش المختلفين، وإنما تؤمن بوجود حزب واحد لا شريك له في الحكم، ورئيس واحد لا بديل له، وأن الخروج عن هذه الواحدية السياسية خيانة (كما أن الخروج عن عقيدة السلف كفر على المستوى الديني). ومن هذا المنطلق يصبح هناك توجها نحو نبذ الآخر وإنكاره واستنكاره ومحاولة إلغائه أو على الأقل تطويعه واحتوائه لينضوي تحت اللواء الواحد. هذه هي العقيدة السياسية التي تحكم مصر في الربع قرن الأخير على الرغم من بعض المظاهر والأشكال الديموقراطية التي لا ترقى لمستوى الحقيقة الديموقراطية إلا في مجال واحد وهو حرية التعبير الإعلامي (المشروط).
التكتلات الدينية المستقطبة
تحتل الظاهرة الدينية مساحة كبيرة في الوعي المصري بعنصريه المسلم والمسيحي، وربما يرجع ذلك إلى سببين رئيسين: الأول هو تجذر العقائد الدينية على مدى تاريخ طويل من الأديان في مصر القديمة وما تلاها في الحقبة اليهودية ثم القبطية ثم الحقبة الإسلامية حيث احتضنت مصر الأديان السماوية الرئيسية وساهمت بقوة في نشرها على مستوى العالم، الثاني هو حظر الفعل السياسي على المصريين في حقب تاريخية كثيرة مما دفع المصريين إلى الانصراف إلى لقمة عيشهم ودينهم.
ولما كانت فكرة الأحزاب والتعددية السياسية وتبادل السلطة مرفوضة على المستوى العملي والواقعي (على الرغم من التغني بها ليل نهار) فإن الناس اتجهوا إلى تجمعات دينية بعضها رسمي وأغلبها غير رسمي وأحيانا محظور، وأصبحت الانتماءات الدينية بديلا للانتماءات السياسية. ولما كانت الدنيا تضيق وتضيق بالمصريين فقد تزايدت الأعداد التي تفر إلى الآخرة وتبحث عن طريق الجنة لدى التجمعات الدينية. ومن هنا ازدهرت التجمعات والجماعات الدينية في مصر، وكل منها توحي بالخلاص من عناء الدنيا وتوحي بالوصول إلى نعيمي الدنيا والآخرة، وتقلصت الاهتمامات بجهود إعمار الحياة وتطويرها بالعلم والجهد والابتكار، وازدحمت المساجد والكنائس وخربت المدارس والمعاهد والكليات والمصانع ومراكز البحث. وانتشرت معاهد إعداد الدعاة ومدارس اللاهوت على أمل أن يتحول أكبر عدد من الناس إلى دعاة ومبشرين. وهذه المعاهد والمدارس الدينية تعطي للدارسين علوما دينية متخصصة جيدة، ولكنها لا تهتم بعلوم الحياة فمثلا لا تعلمهم اختيار شريك الحياة ولا تعلمهم طرق المعاملة بين الزوجين ولا تعلمهم كيف يربون أبناءهم، ولا تعلمهم كيف ينجحون في وظائفهم وأعمالهم ولا تعلمهم قبول الآخر، وإذا أشارت إلى أي من هذه الأشياء فهي إشارات سطحية غير منطقية وغير علمية وغير ناجحة.
وكل مجموعة دينية تعتقد أنها تمتلك الحقيقة المطلقة وبالتالي فإن ما عداها باطل أو كفر، ومن هنا نشأت حالة شديدة من الاستقطاب المتباعد الذي لا يسمح بالتقارب أو التفاهم أو التعايش، لأن اعتراف أي مجموعة بالمجموعة الأخرى يسحب بساط الحقيقة المطلقة التي تجتذب بها مريديها وأعضائها والمنتمين إليها.
وراحت كل مجموعة دينية تربي منتسبيها على مبادئها، وغالبا ما يحدث هذا في مجموعات صغيرة في دور العبادة المفتوحة أو المغلقة أو في البيوت، ثم اتسع الأمر وامتلكت كثير من المجموعات أسلحة تربوية وإعلامية ثقيلة متمثلة في قنوات فضائية أو إذاعات أو مواقع ومنتديات على الإنترنت، ومن هنا يتوقع أن يحتدم الصراع ويشتد، وأن يتحول إلى مواجهة بالأسلحة الدعوية والإعلامية الثقيلة.
وقد كانت المؤسسات الدينية الرسمية في الماضي لها القدرة على ضبط إيقاع الحياة الدينية بما يحقق التناغم والتعايش ويوسع دائرة الإيمان المتسامح للجميع ويعلي من جوهر الدين وروحه، ولكن لأسباب سياسية داخلية وخارجية ضعف دور هذه المؤسسات نسبيا أو تم تسييسها واحتوائها، مما أعطى للتكتلات الدينية غير الرسمية مساحة أكبر للتأثير والحركة والاستقطاب فخرج الأمر – أو كاد أن يخرج – عن السيطرة، خاصة وأن كثيرا من هذه التكتلات الدينية تعلي من قيمة الشكل الديني بما يعطي لونا صارخا للتدين الظاهري على الرغم من ضعف الجوانب الإيمانية والروحية، وهذا الشكل الصارخ للتدين يؤدي إلى حالة من استفزاز المجموعات الدينية الأخرى والتي تبادر هي الأخرى بالإعلان الصارخ عن تدينها.
من الانشطار إلى التشظي
وقبل الثورة كان يعيش المسلمون والأقباط واليهود والجاليات اليونانية والإيطالية وغيرها في وئام وأمان، وكانت محلات التجار اليهود متناثرة في حي الأزهر وفي القاهرة الفاطمية، ومشروعاتهم الاقتصادية لها شهرة واسعة (عمر افندي، وينزايون وعدس وريفولي)، وفي ظروف معينة تم التضييق عليهم ربما بأمر من عبد الناصر وهاجروا أو هجروا من مصر إلى إسرائيل، وخرج اليونانيون، وعلت لهجة المصريين والأجانب بشكل شبه عنصري.
وفي عهد الرئيس السادات ومع تنامي دور التيار الإسلامي في الشارع المصري (بدعم من السادات)، حدث بالتوازي نوع من التسييس لدور الكنيسة وبدأ البابا يظهر على الساحة مدافعا عن حقوق الأقباط ومتحدثا باسمهم أمام الدولة، ومن هنا نشأت حالة من الانشطار في الجماعة المصرية إلى مسلمين وأقباط، وتزايدت حالة الاستقطاب على الجانبين بتأثير عوامل داخلية وتحفيزات خارجية، خاصة وأن المناخ الديني على الجانبين تحكمه الرؤية السلفية التي ترى الآخر (أي آخر) خارج عن دائرة الإيمان كما تراها أو تعتقد فيها.
وعجزت الدولة (الرخوة سياسيا والمستأسدة أمنيا) أن تعيد اللحمة لعنصري المجتمع واكتفت بمعالجات جزئية تبدو على السطح وكأنها حلت المشكلة في حين أنها تغطي عليها لتتفاقم تحت السطح يوما بعد يوم.
ولم يقتصر الأمر على هذا الانشطار بين عنصري الأمة الرئيسيين وإنما بدأت تحدث انشطارات داخلية أخرى على الجانب الإسلامي والجانب القبطي، فمثلا وجدنا انقسام الشارع الإسلامي بين الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية والجمعية الشرعية وأنصار السنة والتبليغ والدعوة والجهاد وغيرها من الجماعات والتجمعات والتيارات، في حين انقسم البيت القبطي إلى الأورثوذوكس والكاثوليك والإنجيليين وبينهم جميعا صراعات هائلة.
وقد يقول قائل: إن هذه اختلافات في التناول والرؤية والممارسة الدينية وهي علامة صحة وعلامة تعددية تعطي خيارات متنوعة للناس حسب طبيعتهم وتوجهاتهم، وهذا مما يدعم حرية الاعتقاد. وقد يكون هذا صحيحا لو أن هناك حالة من التفاهم والتعايش بين هذه التيارات والجماعات الدينية المختلفة ولكن الصورة غير ذلك حيث هناك تناحرا وتصارعا بينها يصل إلى درجة التفسيق أو التكفير بما يؤدي إلى مزيد من التمزق والمواجهة.
والأخطر في الأمر أن التكتلات الدينية سابقة الذكر لم تبق على حالها إذ عملت حالة التشرذم والتفكك الاجتماعي من ناحية وعوامل التوظيف والتدعيم الخارجي على إحداث مزيد من الانشطارات والتصدعات داخل كل كتلة فتحولت إلى كتل أصغر وكلها تتصارع مع بعضها البعض. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل بدأت شظايا صغيرة تتطاير من الكتل الصغيرة المنشطرة، وهذه الشظايا يصعب معرفة مصدرها ووجهتها، وهي مهددة للجميع ومهددة للاستقرار. وهذه الشظايا تجدها بكثرة على مواقع الإنترنت تسب وتلعن وتحقر في الجماعات والطوائف والديانات الأخرى، وإذا سألت عن انتماءاتها الأساسية ربما لا تعرف، فهي شظية شاردة تطيح بالرؤس والأفئدة وتشعل الحرائق في كل مكان، وتحفز خروج شظايا مضادة.
ولما كان هناك صعوبة في الوئام السياسي وصعوبة في تقبل فكرة التعددية السياسية المتعايشة في سلام، كان هناك بالتوازي كفر بالتعددية الدينية وكفر بالتعايش الديني السلمي، وأصبحت هناك رغبة في إقصاء الآخر أو إضعافه للاستئثار بمقعد القيادة والريادة، وكأن الدنيا لا تسع إلا لشخص ولا تسع إلا لحزب ولا تسع إلا لدين ولا تسع إلا لطائفة ولا تسع إلا الجماعة ولا تسع إلا لمجموعة منشقة، وهذه هي فلسفة الإنفراد والإقصاء والاستبعاد التي تسيطر على الحالة السياسية والدينية في مصر وتشكل أرضية خصبة للصراع الديني والطائفي والسياسي.
مراحل الصراع الطائفي
"يا كنيسة يا قيادة.. إحنا جاهزين للشهادة" كان هذا هو الشعار الذي رفعه شباب الأقباط (حوالي خمسة آلاف) في تظاهرة في الكاتدرائية القبطية بعد حادث نجع حمادي الذي قتل فيه ستة أقباط أمام كاتدرائية نجع حمادي في عيد الميلاد 2010 م. هذا الشعار يجب أن ننتبه إليه جيدا إذ هو يعبر عن المرحلة التي وصلنا إليها أو التي اقتربنا منها "جدا"، وهي مرحلة المواجهة الطائفية المسلحة التي ينتج عنها شهداء، وأن الكنيسة هي التي ستقود (حسب ما جاء في الشعار) هذا الجهاد المقدس. ويؤيد هذا الشعار عنوان لموقع على الإنترنت هو "الأقباط متحدون" وحين تتساءل: متحدون ضد من؟.. تأتي الإجابة حاملة معها كل السيناريوهات المرعبة. وعلى الجانب الآخر خروج المظاهرات الإسلامية تطالب بإطلاق سراح وفاء قسطنطين وكاميليا. ثم تصاعد المواجهة الإعلامية لتنتقل من مستوى الشباب على الإنترنت إلى مستوى قيادات دينية وفكرية كبيرة على الفضائيات. وتزداد الصورة وضوحا وخطورة مع أحداث العنف في العمرانية، ورفع الصليب في المظاهرات، ثم حادث كنيسة القديسين.
ولكي نفهم لماذا وصل الأمر إلى هذه المرحلة الخطرة لابد وأن نرجع إلى المراحل السابقة التي مرت بها الحالة الدينية في مصر، والتي غفلنا عنها وتركناها تتصاعد بينما نغمض أعيننا ونقنع أنفسنا بأن الأمور بسيطة وتحت السيطرة مادامت القيادات الدينية على الجانبين مازالت قادرة على التصافح والعناق أمام كاميرات التليفزيون، ومادام الأمن قادرا على اعتقال مثيري الشغب من الطرفين وعقد جلسات الصلح "المضغوط أمنيا" بين الجانبين. وفيما يلي المراحل التي يمر بها الصراع الطائفي في أي مجتمع:
1 – المناخ الطائفي: وهو حالة وجدانية تتسم بالشعور بعدم الارتياح بين طائفتين دينيتين أو أكثر، وهذا الشعور قد يترجم بشكل متناثر في صورة نكات على الطرف الآخر أو تقليل من شأنه أو النظر إليه على أنه الأدنى، أو أن رائحته كريهة، أو أن طعامه فيه زناخة، أو أن بيته ليس نظيفا، أو أنه ماكر ومخادع، أو أنه ناقص الإيمان، وفي المقابل يشعر كل طرف أنه الأصح إيمانا وأنه الأقرب إلى الله وأنه الأفضل في كل شيء وأنه الأجدر بتسيير دفة الحياة في المجتمع. وقد تنفجر بعض هذه المشاعر بصورة فردية من وقت لآخر بين شخصين أو أكثر ولكن غالبية الناس لا تستدرج إلى صراع جماعي رغم المشاعر الطائفية بداخلها إذ مازالت ترى أن التعايش ممكنا على الرغم من بعض الصعوبات والتحديات. وفي هذه المرحلة يحاول كل طرف أن يجمع أسباب قوة مادية وروحية ومعنوية وكأنه يتوقع ضغطا من الطرف الآخر فيتحسب له، ثم إنه يهتم بتربية أبنائه على الولاء للطائفة التي ينتمي إليها بشكل مطلق وربما يحتاج هذا الأمر إلى بيان عيوب وتشوهات الطرف الآخر لكي يتأكد هذا الولاء المطلق.
2 – الفكر الطائفي: وهنا ينشط الدعاة والمنظرون والمفكرون من الجانبين ليظهروا صحة معتقداتهم ومذهبهم الديني، ولا يكتفون بذلك بل يعمدون إلى بيان آفات ومنزلقات وأخطاء الفكر المقابل ولا يخلو الأمر من الغمز واللمز والتحقير والاستخفاف. ويبحث كل طرف في تراث الآخر على نقاط الضعف – أو ما يعتقد أنها كذلك – لكي يحرق بها عقيدة الآخر أو يضعفها في نظر معتنقيها، ويحاول أن يستقطب أكبر عدد ممكن من المنتمين للطرف الآخر ويعتبر هذا دليلا على صحة عقيدته.
3 – السلوك الطائفي: وهنا يتشكل السلوك في المجتمع على قاعدة مسلم ومسيحي، أو إخواني وسلفي، أو أورثوذكسي وإنجيلي، ويتم التمييز في المعاملات والوظائف والحقوق بناءا على الهوية الدينية. وهنا يستشعر الطرف المظلوم (أو من يظن أنه كذلك) بالخطر ويحاول جمع شتاته وحشد مصادر قوته وربما حاول الإستقواء بعناصر خارجية تساعده في الحصول على حقوقه وحماية نفسه. وفي هذه المرحلة نرى تفرقة بين الناس على أساس هويتهم الدينية تصل إلى حد الحرمان من الفرص التعليمية أو الوظيفية، أو الحرمان من حق ممارسة الشعائر التعبدية، أوغيرها.
4 – الصراع الطائفي: وفي هذه المرحلة تحدث مواجهات متناثرة على القاعدة الطائفية وعلى الهوية الدينية، وتصبح هناك حالة من الحساسية الشديدة والاستنفار لكل حدث يكون أحد طرفيه من طائفة والطرف الآخر من الطائفة المخالفة، وحينئذ لا يسأل الناس: من ومتى وأين وكيف ولماذا، وإنما يندفعون بقوة المشاعر المخزونة وبتوجيه من الأفكار السلبية تجاه الآخر. وفي هذه المرحلة يزداد الاستقطاب وتزداد قوة القيادات الدينية وسطوتها إذ تصبح هي الملاذ لأصحاب الطائفة فيرتمون في أحضانها ويسألونها الحل.
5 – المواجهة الطائفية: وهي تبدأ حين يشعر الطرف المستضعف (أو الذي يشعر بأنه مستضعف) بأن الوقت حان كي يرد بالقوة، وأنه لا يصح أن يسكت على حقوقه، وأن لديه من عوامل القوة (الداخلية والخارجية) ما يجعله يقف ويواجه ويأخذ حقه بيده. ويتأكد خيار المواجهة إذا شعر الطرفان بأن آليات الدولة ليست كفيلة بتحقيق العدل أو التوازن، أو أن الدولة متعاطفة مع أحد الأطراف أو متساهلة أو متهاونة مع طرف آخر، هنا تشعر الطوائف المتصارعة أن عليها أن تحمي نفسها بنفسها، وهنا ينهار مبدأ المواطنة في لحظة فاصلة، ويحل محله مبدأ المواجهة الطائفية حتى النصر أو الشهادة. وخطورة الصراع الطائفي أنه صراع شديد الحدة حيث يستند إلى العقيدة الدينية وهي ذات جذور عميقة في النفس البشرية (بصرف النظر عن صحتها أو خطئها) وهي تدفع الإنسان إلى التضحية بحياته بمنتهى السهولة رغبة في نصرة الدين أو الشهادة في سبيل الله.
ويبدو أن هناك من يعمل على أن تجتاز مصر هذه المراحل المذكورة لكي تصل بسرعة إلى مرحلة المواجهة (وقد اقتربت منها فعلا للأسف الشديد والدليل على ذلك ما حدث من مواجهات في الإسكندرية وفي نجع حمادي) ليتم الانشطار الذي يصل إلى حالة التشظي، وعندها يعاد ترتيب البيت المصري طبقا للأجندة الأمريكية والصهيونية والعالمية. وهذا هو ما حدث في أفغانستان والعراق، ويحدث حاليا في السودان واليمن ولبنان.
هل إلى خروج من سبيل؟
1 – إعادة المجتمع إلى صوابه من حيث استعادة التوازن بين الدنيا والدين، وبمعنى آخر مواجهة "فرط التدين العشوائي" والتدين التعصبي والتدين العدمي والتدين الهروبي والتدين الدفاعي والتدين الانتحاري الغاضب، من خلال فتح مجالات للعلم والثقافة والعمل الجاد والتنمية الاقتصادية الحقيقية، وأن يكون ثمة مشروع قومي للخروج من دائرة الفقر والجهل والمرض بشكل حقيقي يجعل الناس مقبلون على عمران حياتهم وممارسون لشعائر دينهم بشكل عميق متوازن ومتسامح.
2 – إصدار قانون لمنع التمييز العنصري يطمئن الجميع على أن حقوقهم مرعية بواسطة الدولة فلا يلجئون إلى معابدهم أو كنائسهم أو مساجدهم بحثا عن حقوقهم لدى المشايخ والقساوسة.
3 – استعادة هيبة الدولة فلا تخضع لابتزاز طائفة أو ضغطها، ولا تحابي أحد على أحد بناءا على اعتبارات طائفية أو سياسية وإنما تطبق القانون كما هو على الجميع.
4 – عودة رجال الدين إلى ثكناتهم الدينية والروحية، وأن لا يفتئتوا على حق الدولة في الفصل في قضايا مواطنيها، إذ ليس هناك شعبا مسلما وشعبا قبطيا، ولكن هناك شعبا مصريا تحكمه حكومة مصرية ذات هيبة وعدالة.
5 – عدم ترك الملف الديني والطائفي في يد الأمن وحده، فهذا فوق طاقته، وإتاحة الفرصة للحلول السياسية والاجتماعية بشكل واسع ومؤثر للوصول إلى حلول حقيقية لمشكلات الطرفين.
6 – الانتباه إلى عمليات التسخين والتوظيف الخارجي الذي يسعى إلى زعزعة الاستقرار وخلق حالة من الفوضى في مصر بغية إعادة ترتيب الأوراق بناءا على تحقيق مصالح أجنبية في مصر والمنطقة العربية على اعتبار أن مصر هي النواة الأكبر والأقوى، وكسرها يعني السيطرة الكاملة والدائمة على العالم العربي.
7 – الحذر من شبهات الإستقواء بالخارج، فهي تزرع الضغينة في النفوس، وتحمل على تخوين الطرف المستقوي ونزع رداء الوطنية عنه.
8 – تجنب توسيع دائرة الخلافات الشخصية والعائلية والقبلية إلى خلافات طائفية، فالطبيعي أن يختلف الناس وربما يتصارعون حتى داخل الطائفة الواحدة، إذن فليس كل شجار بين مسلم ومسيحي هو شجار طائفي بالضرورة.
9 – وضع حل منطقي لما ينشأ من علاقات عاطفية أو جنسية بين الشباب والفتيات من الجانبين، ويشارك في وضع قواعد هذا الحل مجموعة من المفكرين والعلماء من الجانبين حيث أن تشابك العلاقات سيفرز أحداثا على هذه القاعدة تحتاج إلى نظرة غير طائفية، نظرة تضع في الاعتبار طبيعة الميول العاطفية والجنسية وكيف نضعها في إطار اجتماعي آمن.
10 – عدم اللجوء إلى الكنيسة في كل مشكلة قبطية لأن هذا يسحب دور الدولة في رعاية مواطنيها ويوحي بأنها طرف معاد للأقباط ويزيد من حالة الاستقطاب الخطرة، مما يدفع إلى استقطاب مقابل، فالكنيسة لها سلطة روحية وليست سلطة سياسية.
11 – المعالجة المجتمعية المستنيرة والحقيقية لمشاعر الاضطهاد لدى الأقباط، ويقوم بذلك مجموعة من علماء النفس والاجتماع والسياسيين للوقوف على مصدر أو مصادر هذا الشعور وكيفية علاج أسبابه.
12 – الكف عن نغمة مسلم وقبطي في الحياة العامة لأن هذا يرسخ فكرة التعامل على الهوية، ويساعد على ذلك قانون منع التمييز العنصري الذي يجرم التفرقة في التعامل على أساس الدين أو المذهب.
13 – مراجعة الفكر السلفي الإقصائي ذات الرؤية الأحادية على الجانبين حيث أن تفشيه يزكي الصراع طول الوقت خاصة وأنه يتمتع باستحسان شعبي وله من الإمكانات الإعلامية والدعوية ما يجعله في كل مكان. وهذا يتأتى بمناقشة هذا الفكر وتصويبه، وإعطاء الفرصة للعلماء الراسخين والمعتدلين أن تصل أصواتهم إلى الناس.
14 – الإصلاح السياسي "الحقيقي" للخروج من حالة الجمود التي دفعت الناس للتصارع فيما بينها يأسا من التغيير ويأسا من الحياة. والإصلاح السياسي سينتج عنه أحزابا قوية تستوعب الناس من الطرفين وتمنحهم الفرصة للتعبير عن احتياجاتهم بشكل آمن ومتحضر، وسينتج عنه حكومة قوية منتخبة "فعلا" من الشعب بلا تفرقة تحقق مصالح هذا الشعب، وإن لم تنجح في ذلك يسقطها الشعب في الانتخابات ويأتي بغيرها. والإصلاح السياسي سيتبعه إصلاح اقتصادي يفتح للناس آفاق العمل والإنتاج وأبواب الحياة الكريمة الرغدة ويسحبهم من التقاتل الطائفي اليائس والبائس. والإصلاح السياسي سيؤدي إلى توجيه أنظار الناس للعلم النافع الذي يحسن أحوالهم ويرتقي بسلوكهم.
والإصلاح السياسي يعطي القدوة للجميع بقبول التعددية وقبول الاختلاف والتعايش مع التبادل السلمي للسلطة، ويزيل الاحتقان الذي يتم إزاحته إلى أحداث وصراعات طائفية. ومع الإصلاح السياسي يزدهر مبدأ المواطنة، ويزدهر الانتماء الوطني، ويشيع العدل بين الجميع ويأمن كل شخص على نفسه وأهله، ويمارس شعائر دينه بحرية لا تؤذي الآخرين. ومع الإصلاح السياسي يشعر الناس أنهم مواطنون في دولة حقيقية ذات مؤسسات فاعلة، ولذلك حين تواجههم مشكلات حياتية يلجئون إلى مؤسسات الدولة وإلى الجهات القانونية وإلى الأحزاب السياسية، ولا يلجئون إلى الكنائس أو المعابد إلا في مسائلهم الروحية.
ولم يعد الأمر يحتمل كثيرا من الانتظار والتسويف والتمييع والإنكار، وسوف ندفع الثمن جميعا إذا تركنا مصر تسير نحو نار الطائفية ونحن عنها غافلون.
واقرأ أيضا:
الخطيئتان الأعظم في حياة المصريين / الرئيس الموظف / سلوك القذافي... هل هو جريمة أم مرض؟ / نجح العقل القطري وفشلت الفهلوة المصرية