يخال لنا أن الإنسان منذ البداية قائم على الخير، حتى يجعل من نفسه صورة الله على الأرض، لكن النظرية التحليلية المعتمدة على تحليل الإنسان وفق المعطيات الواقعية لسلوك الإنسان في الحياة المعاشة تقر بأن سلوك الإنسان نادراً ما يكون كله طيبة أو كله شر، فغالباً ما يكون في بعض الأحيان طيباً وفي حالات أخرى شريراً، وبذلك استخلص "فرويد" بأن هناك قوتان تحركان الإنسان من الداخل:
- الأولى: قوة الحب /EROS / هذه القوة تتمثل بأنها قوة في سبيل الحياة في الوحدة بين أبناء البشر في بناء القيم والحضارة، وبصورة خاصة تهدف إلى استمرارية الحياة عبر الإنتاج.
- القوة الثانية THANATOS/ وهي نزعة الموت قوة تعمل في الخفاء وتدعو إلى الدمار والتفكك الاجتماعي لكي تعيد الإنسان إلى حالة الجماد التي انطلقت منها الحياة وهي التي تلعب دوراً أساسياً في القتل والإساءة وأعمال الشر ضد المجتمع وخصوصاً في أخذ قرار الحرب ولو كان تحت غطاء الخير. وهاتين القوتين لا تتواجدان بشكل منفصل بل تتمازجان بنسب مختلفة حسب المناسبات أو تكون الواحدة في خدمة الأخرى.
أردت أن أعرض الرؤية النفسية لمكونات النفس الإنسانية قبل الحديث عن البنية النفسية "للقذافي" الحاكم الليبي المستبد لسنين في حكم بلاده، حيث أننا نبخسه حقه على رأي أحد النفسانيين "... على أنه مريض نفسي، إذ هذا التشخيص يبرئه بل أجد من المهم توضيح الدوافع السلبية التي تتحرك من الداخل وتنصب في خانة نزعة الموت يطالها الكبت المحكم، لكي يستطيع الإنسان أن يتعايش بسلام مع مجتمعه، وهذا لا يعني أنها قد محيت أو زال حيز الوجود متخفية بقناعات إنسانية عقلانية وخيرية مموهة لكي تحصل على إشباع غرائزها........ ففي ظل هذه الأحداث المتكررة على مدى شهرين من الآن بأننا نرى حرباً فضائية وكذلك حرباً شبكية عبر الـNET، فهذه الأحداث أعطتنا فرصة لعودة المكبوت الحضاري ويترجم فعلاً على الأرض حيث عند الحاكم تبدو رغبته بالقتل والبطش والتدمير وإزالة معالم الحضارة، وتحطيم القيم الاجتماعية والحياة دون أدنى رحمة لحماية منصبه، حيث يبدو الحاكم المحتضر الذي برز في شخصية "حسني مبارك" وكما يتوضح في شخصية القذافي أكثر همجية وبربرية الإنسان البدائي، هناك حقيقة تحليلية نفسية تقول: بأن الإنسان لا يستطيع أن يفخر كثيراً بمكتسباته الحضارية حيث يعود الإنسان إلى الأصل المتحدر من سلالة أجداد قتلة مجرمين / سفاكي دماء / وبدا لنا المشهد السياسي الذي تجلت تطبيقاته في قمع الثوار وظهرت الصفة الحيوانية الغريزية العدوانية البعيدة عن السلوك الحضاري التربوي في السيطرة وضبط النفس.
كل حكم دكتاتوري مكتوب عليه أنه يحمل في طياته مشروع الموت إلى العودة إلى الجماد، حيث كما تذكرون "نرسيس لم تقتله سوى نرجسيته عندما ألغى أن الأنا هو الآخر" أي عجزه عن رؤية نفسه في عيون الآخرين واكتفى بالتمتع بصورته......
وبشأن المرتزقة أيها الزملاء السؤال حول أفعالهم فهل يجب أن يحاسبوا برأيكم وهل يجب أن تساء إنسانيتهم، حيث هم يقوموا بجريمتين الأولى جريمة بحق الليبيين الآمنين على أرضهم وجريمة ثانية بحق انتمائهم الإنساني.
التحليل النفسي يبين لنا أن الإحساس بمشاعر الآخر و آلامه ومعاناته لا تتم إلاّ عن طريق التماهي "IDNTIFICATION" حيث من دون التماهي لا يوجد قيم إنسانية وحقوق إنسان ولكن كما نجد ونسمع من القادة السياسيين العالميين ومن تكرار كلاماً لثوار كثر، بضرورة تأكيدهم على اتهامهم كمسلمين راغبين بالسلطة والعداوة باسم الإسلام للعالم الغربي. فالعالم كما نعلم جميعاً ومنذ أحداث / 11 أيلول 2001م في أمريكا، لا يروا بالشخص المسلم موضوع للتماهي إضافة إلى إضماره الحقد والكراهية... حيث الأيديولوجيا تدخل في حقل إلغاء الآخر لتجعل أي انتماء قومي أو ديني معرض لمشاعر عدائية مسبقة قبل أن نعرف قيم الشخص، فكما وجدنا في العراق الجنود الأمريكان المرتزقة كانوا يحاربون من أجل المثل الأمريكية ويقتلوا من أجل مصانع أمريكا، فهم كانوا يقاتلوا لأجل نفط العراق، لذا قتال الجنود والمرتزقة الأمريكيين في العراق كان من أجل المزيد من الرفاهية والرخاء لشعوبها...
إن وجود القذافي بالسلطة بدا في هذه الأيام وكأنه مستعمر لبلاده وغازي دائم لهم على مدى عقود...
هل نهاية القذافي هي نهاية لحقبة تاريخية مريرة من تاريخ الدكتاتوريات العاتية في العالم وبداية لتاريخ جديد لليبيين، وكم هو هام اليوم أن تعيش بلداننا وعي شعبي مبني على أسس حقوق الإنسان في حرية التعبير والاحتجاج بحيث يستعاد كل الموروث الحضاري لأسلافنا الذين كانوا في حقب ماضية في مراحل مختلفة من تاريخ المنطقة العربية منارة لشعوب أخرى، وبذلك يتم وصل الإنسان العربي بتاريخه الحضاري بعد انقطاع دام عدة قرون..... وما يجعلنا نأمل بهذا الوصل مع الأصل الحضاري للشعوب العربية، حضارة قرطاج وحضارة مصر القديمة وحضارة بابل وما إليها من حضارات أخرى عاشت في بلادنا ونحن نتاجها، فما شاهدناه في ثورة شباب تونس ومصر واليمن والآن ليبيا وغيرهم من الأصوات الشابة التي تصدح في أفق البلاد العربية ونجد أن وعيهم العصري لمفهوم الحق والواجب تجاه بلادهم، وغدا القائد عندهم ليس إلاّ إنسان من طينة الجماهير يستمد قوته منها، فيكفي أن تنزع هذه الجماهير عنه هذا التوكيل حتى يصبح رجل عادي ليس أكثر؛
وبذلك يكون عذاب القائد ومعاناته، لاسيما عندما تحاك هذه الصورة على غير مقاسه، فهو يطلب الكمال وهو ليس كلي القدرة ويطلب المعجزات وهو لا يملكها.. فعندما تطلب منه الجماهير منه العدالة يعدهم بعدالة مطلقة كما ظهرت في كلام القذافي وكما تعلمون العدالة المطلقة من اختصاص الأنبياء، فالتفاوت مابين الصورة التي تكونت عند الجماهير ومابين ما هو واقع الحال في شخصية القائد النبي... اختبرتها شعوب المنطقة على محكات عدة وهم في انتظار استجابة تلبي الطموح لمطالبهم، وظهر القائد وقد اختلطت عليه الأمور بداية ووجد في صورته تكامله مع جماهيره تعكس له صورة مضخمة...... حيث القائد إذا لم يتمتع بالرؤية الواقعية يفقد السيطرة على جمهوره فيخرج عن إرادته وتصبح الصورة القدسية المتمثلة بالأنا الجماعي هي التي تفرض قوانينها وتحرك جمهورها باتجاه مدمر لم يكن حتى القائد يريدها بداية.....
إيماني أن هذه الثورات هي مؤشر إنذار يخرج الواقع العربي الساكن لسنيين تحت الخوف والكبت والقهر من سلطة المخيال للقائد المكرس بفعل التأثير العاطفي لسلطة الأب (البطريركي) وينقذ المصلحة الوطنية من براثن النرجسية التي تدمر صاحبها قبل أن ينعكس أثرها على شعبه، وبذلك تكون حالة هذا القائد الذي انتظره شعبه لسنين وهم يرجون منه الرحمة التي يترجوها من أب عطوف بأن يكون المنقذ لهم كما وعد عندما تولى قيادة البلاد وركب في قطر الزعامة ونسى وعده أمام شعبه في اللحظات الأولى التي ذاق في طعم الزعامة، هذا الأب الذي نُصّب ليكون منقذ يستجيب لإغاثة شعبه، نجده عندما دبّ اليأس في الانتظار، حينها نجده يطل قاصر الذهن في فهم الحدث من حوله وصيحات بنيه بالاحتجاج على أدائه فتجده مرات ينكر ومرات يهدد ومرات يعترف وفي اللحظة الأخيرة يستعطف ليعزف على الحس الوجداني النبيل وقيم الأبوة الراقية في تراثنا العربي، لذا نجد هذا القائد من أشد أعدائه الديمقراطية لأنه يعتبر المشاركة انتقاص من كمال أبوته المثالية أي مفهوم القائد المكرس في وجدانه وبذلك نتيجة هذا الصراع والتناقض عند القائد المكرس في بلادنا بين صورته تجاه نفسه ونظرة شعبه له ونتيجة هذا الصراع تكون الكارثة بالنسبة له من حصول أبنائه المردة على حريتهم وكسر طوق الحمامة لديهم الذي طالما حبك سلسلتها كثيراً......