أصول الخلاف بين النفسانيين وثقافة مجتمعاتنا (1)
تم شرح الأصل الأول من أصول الخلاف بين النفسانيين وثقافة مجتمعاتنا في المقال السابق، وهو: الاختلاف في استخدام المصطلحات، كما تم تناول أهم مصطلحين يدور الخلاف حولهما، وهما: المرض النفسي، والاكتئاب...
وللوسواس، والقلق، والرهاب، حصتهم من الخلاف، غير أنه دون سابقيهما...
فأما الوسواس، فيتم الخلط بينه -كمصطلح طبي يدل على مرض نفسي معروف-، وبين وسوسة الشيطان التي يشترك بها سائر الناس،.... وقد تم شرح دور الشيطان في الوسواس القهري في المقال الثالث من مقالات منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري...
وأما القلق: فلا يدخل –في قاموس العامة- في الأمراض بأي وجه من الوجوه، وإنما هو نتيجة قلة الإيمان بالغيب فحسب...، ومثله الرهاب الذي هو عبارة عن جبن وخوف لا مبرر لهما إلا ضعف الإيمان!!...، وهكذا...
ولست هنا بصدد تفنيد كل شاردة وواردة، أو كل مصطلح مختلف فيه، وإنما المراد هو التنبيه على هذا الأصل، ليوضع في الحسبان أثناء النقاشات الحاصلة بين المختصين والعامة...
- مناقشة ما ورد في هذا الأصل
طبعًا إن الخطوة الأهم في هذا الأصل، هي إيضاح المصطلحات، وإيصال الفكرة والمعنى الطبي إلى الناس قبل إيصال المصطلح، احترازًا عن ردة الفعل التي ستجعل الناس تصم آذانها فورًا قبل إكمال المختص لكلامه. وإذا كان الناس يتحسسون من المصطلحات النفسية، فلا بأس أن يخاطبوا بمعانيها، وأن تستخدم المصطلحات السائدة بينهم للتعبير عن ذلك ما دامت مناسبة للحالة.
والشيء الذي لا يمكن إنكاره، هو أن الطبيب النفساني هو الطرف الأضعف في نظر الناس (ولا أعني في الحقائق العلمية)، فمصطلحاته جديدة على مسامعهم، وثقافته غريبة، والناس في غفلة عنها، والمرء عدو لما هو به جاهل، لهذا عليه أن يحاول جهد الإمكان أن يخاطب الناس بمفرداتهم، ولا يبرز مصطلحاته إلا بعد أن يقتنعوا بالفكرة التي تدل عليها.
ولا بد من مناقشة بعض النقاط المذكورة سابقًا وتوضيحها:
1- قضية لا يعذر إلا فاقد العقل: إن التكليف يكون إذا بلغ الإنسان وعنده قدرة على أمرين:
أولهما: قدرته على فهم ما أمره الله تعالى به، وذلك يكون بكمال العقل.
وثانيهما: قدرته على العمل بما أمره الله تعالى به. قال تعالى: ((لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) [البقرة:286].
وعلى هذا: يعذر المجنون لفقده العقل الذي به يفهم أوامر الله تعالى، وبه يقدر المصالح والمضار.
ويعذر فاقد القدرة على التطبيق، كالمكره الذي لا يستطيع اختيار ما يريد فعله. ومثله: الموسوس الذي يفقد القدرة على طرد الأفكار من ذهنه. ومثله المكتئب الذي يفقد السيطرة على مشاعره فلا يستطيع التحكم فيها. ومثله القلق الذي يكبله قلقه فلا يستطيع حراكًا، وتنتابه أعراض هو أشد الكارهين لها...
إذن فسائر الاضطرابات النفسية التي يعجز فيها الإنسان عن التحكم بأفكاره ومشاعره، يمكن أن يطلق على المصاب بها: مريضًا، لاختلال شيء في طبيعته التي خلقه الله تعالى عليها. ويكون معذورًا –حالة سيطرتها عليه- لفقده القدرة على العمل بما فيه مصلحته، وبما يفعله الأصحاء عادة. ويختلف المرضى النفسانيون في عذرهم على حسب فقد القدرة على التحكم لديهم، وعلى قدر مسؤوليتهم في تسببهم في الحالة بطريق غير مشروعة.
2- قضية أن الأمراض النفسية، -وعلى الأخص الاكتئاب- عقوبة على الذنوب: هذه النظرة ليست خطأ، لأن الأمراض النفسية ومنها الاكتئاب بلاء، والبلاء كفارة للذنوب. ولكن الخطأ هو قصر عقوبة الذنوب على الاكتئاب وسائر الأمراض النفسية.
إن الله تعالى قد يعاقب المذنب بأي نوع من أنواع العقوبات، والعقوبات التي عاقب بها الله تعالى الأقوام التي كفرت بأنبيائها عديدة متنوعة، فمنهم من خسفت الأرض به، ومنهم من أغرقه الله تعالى، ومنهم من أخذته الصيحة...
إذن قد يعاقب المذنب بأمراض عضوية كما يعاقب بالأمراض النفسية، ولا أدري أين هو دليل التفريق بين الأمرين!
وقد سوَّى رسول الله تعالى الألم النفسي بالألم الجسدي في تكفير السيئات بقوله: ((مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)) والحديث في البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: ((ما يصيب المؤمن)).
والنصب: التعب. والوصب: المرض الملازم الدائم. والأذى: كل ما لا يلائم النفس، والظاهر أنه مختص بما يتأذي به الإنسان من غيره. وهذه الأمور تشمل البدن والنفس.
والهم والغم والحزن حالات نفسية معروفة، وقد قال شراح الحديث في الغم: إنه الحزن الذي يغم الرجل أي يصيره بحيث يقرب أن يغمى عليه، وهو أشد من الهم والحزن.. وهو أبلغ ما يكون في وصف المكتئب.
والشوكة تختص بالبدن فتؤذيه وتؤلمه...
إذن الألم النفسي والألم الجسدي متساويان في أمرين:
أولهما: إمكان إصابة المؤمن بهما، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المؤمن)).
وثانيهما: أن كليهما كفارة لذنوب المؤمن، وليس في هذا غضب من الله تعالى عليه، بل هو تطهير له ورفع لدرجاته، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)) والحديث رواه الترمذي وقال عنه: حيث حسن صحيح.
ولو صح تعيير صاحب المعاناة النفسية بأنه مذنب، لصح تعيير من سواه من مرضى الأبدان. وأين هذا الذي لا يخلو من ذنب، ولا يخلو من بلاء ومرض؟
ثم إن التجرؤ على احتقار المريض النفسي، والشماتة به، واعتقاد أنه أصر على كبائر المعاصي، من أعظم الذنوب، التي تربو وتزيد على ذنوب ذلك المريض. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)).
هذا بالإضافة إلى ما في ذلك من سوء الظن بالمسلمين، والحكم عليهم من غير دليل، وما فيه من تزكية النفس ورفعها فوق الآخرين من غير دليل أيضًا، وكل هذه أمور محرمة في الشرع، فكيف تلصق به؟؟
بالمقابل، فإن الذين ينظرون إلى المرض النفسي إلى أنه مرحلة انتقالية (سواء للأحسن أو الأفضل)، يخطئون أيضًا بقصرها على هذا النوع من الأمراض فقط، فكم وكم سمعنا أن فلانًا تغيرت حياته بعد فقده ولدًا، أو بعد حادث أليم، أو بعد إصابته بالسرطان، أو غيره... فهذه ابتلاءات يمحص الله تعالى بها عباده، وهو أعلم بهم وبحالهم.
والخلاصة: إن المرض النفسي كالمرض العضوي سواءً بسواء، وليس دليلًا على صلاح أو فساد، وإنما ننظر إلى أفعال الشخص قبل المرض، فإن كان صالحًا، فهو باق على صلاحه، ولا يزيده المرض إلا رفعة في درجاته، وإن كان سيئًا فهو على سوئه، ونرجو من الله تعالى أن يكون مرضه تنبيهًا له ليعود إليه تعالى...
3- المرض النفسي دلع ودلال: قد يكون هناك من يتدلل ويوهم الآخرين أن به ألمًا ما ليشحذ عطف الناس ويلفت انتباههم. لكن هل يعقل أن يتدلل الإنسان بالأمراض النفسية التي يعلم يقينًا أنه لن يلقى من دعوى الإصابة بها إلا القسوة والنبذ؟!!!
ولو فرضنا حصول هذا، فلماذا لا يترك المريض النفسي دلاله المزعوم عندما يجد أنه لم يأت بالنتيجة المطلوبة، بل زاد من قسوة الناس عليه؟!! لم لا يترك دلاله ليسلم من ألسنتهم التي تصفه بالمجنون والعاصي؟! لا بد أن قضية الدلع والدلال تحتاج إلى إعادة نظر!
4- المرض النفسي سحر وعين وتلبس جن: الحقيقة أن هذه المسألة شائكة وغائمة، ولا زلت أبحث فيها، وأجمع الحالات لدراسة الأمر. فعند سؤال المشايخ المنضبطين بالشرع عن أعراض هذه الأشياء، نجد أن هناك تشابهًا كبيرًا بين أكثر ما يذكرونه، وبين أعراض المرض النفسي!!
وهناك أمر آخر: وهو أن هذه الأمور وإن لم تكن أعراضها شبيهة بالمرض النفسي، فإنها كثيرًا ما تخلف وراءها مرضًا نفسيًا.
قد لا يوافقني البعض في هذا، وقد يفهمون من كلامي أني أحصر سبب المرض النفسي أو أعراضه بهذه الغيبيات، وليس هذا المقصود.
وكمثال للتقريب: كسر الرجل، قد يكون بسبب السقوط من مكان مرتفع، وقد يكون بسبب شجار، وقد يكون بسبب حادث سير... وهو على كل حال كسر رجل، والمهم مداواته!
والمرض النفسي قد يكون بسبب أحد تأثير هذه الأمور الغيبية، وقد يكون بسبب عضوي، وقد يكون بسبب ظروف محيطة بالمريض، وهو على كل حال مرض نفسي، والمهم مداواته!
ثم هذا الذي تعرض لحادث سير فكسرت رجله، رحلت السيارة، ولكن رجله بقيت مكسورة!! فمن تعرض لسحر أو مس ونحوه، قد يزول عنه هذا بالرقية ويرحل، لكن يبقى به الأثر النفسي الذي لا يزول إلا بالعلاج الطبي.
وبغض النظر عن آلية تأثير السحر والجن والعين على الإنسان (والتي لا تعنينا في شيء)، فإن هذا التفسير محتمل لا ينكره العقل كافتراض. ولتصديق هذا الاحتمال أو تكذيبه لا بد من إجراء دراسة واسعة، غير أني شخصيًا شاهدت عددًا من الحالات، وأنا واثقة من الشيوخ الذين تولوا الرقية، وواثقة مما أنقله عنهم في تشخيص الحالة:
من تلك الحالات: حالة أذية من الجن، تحولت بعد الرقية وذهاب الجن إلى مرض ذهاني، وصاحبها ما زال يتعالج عند طبيب نفساني، وهو الآن فوق الثلاثين، وإدراكه لا يتجاوز إدراك طفل في الرابعة.
كذلك حالة أذية أخرى من الجن، تمت الرقية منها، وزالت أعراض المس، وبعد أيام تحولت الحالة إلى اكتئاب ثنائي القطب.
حالة أخرى، تحولت إلى نوبات هلع.
حالة شاهدتها أيضًا، سبب السحر لها اكتئابًا وإن كنت لم أعلم من أي الأنواع هو.
وأخرى أصيبت بالعين، فخلفت الإصابة بعد الرقية اكتئابًا ثنائي القطب.
وأخرى خلف السحر عندها حالة وسواسية شديدة مستعصية، والمؤلم في حالتها أنها وُسوست من قراءة الرقية، فلا هي تعالجت من السحر، ولا الأدوية نفعتها في شيء!!
وكل من هؤلاء –عدا الحالة الأخيرة- ذهبوا إلى الطبيب النفسي بعد تخلصهم من إصاباتهم الغيبية، وكانت الأدوية تؤثر عليهم كما تؤثر على غيرهم، ومنهم من شفي...
بالمقابل: هناك حالة كانت تشتكي من رؤية الجن والكلام معهم وسماع أصواتهم، فلما سألت الشيوخ، كان الجواب: ليس بها من بأس وإنما هي حالة نفسية عصبية. وفعلًا ذهبت للطبيب، وحسب ما علمت شخص لها اضطرابًا وجدانيًا، وزال عنها معاناتها، وما كانت تسمعه وتراه...
ومع هذا كله فأنا إلى الآن لا أستطيع الجزم بأن الإصابات الغيبية، تتسبب بأمراض نفسية، فهذا –كما قلت- يحتاج إلى كثير من البحث.
لكن ماذا يفيد كلامي الآن؟
طبعًا إن الطبيب النفساني ليس مكلفًا أن يدخل متاهات السحر وأشباهه، وليس مكلفًا أن يتعلم كيفية الكشف عن وجود ذلك، ولا علاجه، وإنما هو مكلف بما يعلمه فقط، وإنما الملاحظة التي أود قولها:
أنه إذا جاء أحد المرضى إلى الطبيب واشتكى من مس أو سحر، ما ينبغي أن يقابل بالإنكار فورًا ولا أن يستهزأ به. وإنما ينكر عليه ذهابه إلى الدجالين والمشعوذين صيانة له من أذيتهم، وصيانة لعقله ودينه من تصديق خرافاتهم. ثم يتم إفهامه بأن هذه الأمور ليست من اختصاص الطبيب، لهذا لن يتم النقاش فيها، وأنه سيتم تشخيص حالته وعلاجها حسب اختصاص الطبيب.
ثم إذا ذهب أحدهم إلى الراقي، وقال للطبيب: إنه تخلص من الجن والسحر. ثم رجع إلى طبيبه بعد ذلك يشتكي أعراضًا نفسية زالت بالأدوية النفسية، فليس من الضروري أن يكون كاذبًا، ولا أن تكون شكواه نفسية في البداية. وإن كان الطبيب ليس ملزمًا أن يصدق هذا، إذ لا تأثير له على طريقة العلاج النفسي أيضًا.
والأفضل أن يتم إرشاد المريض إلى بعض الرقى الواردة في القرآن والسنة، إضافة إلى العلاج النفسي الذي يتلقاه، والقرآن شفاء على كل الأحوال...
وأظن أن معاملة المريض بهذا الشكل، تجعله أكثر قبولًا لعلاجه النفسي، وأكثر اطمئنانًا وراحة لطبيبه.
وبهذا يكون قد انتهي شرح الأصل الأول في الخلاف ومناقشة ما فيه، وسيأتي الأصل الذي بعده في مقال آخر بإذن الله تعالى...
ويتبع >>>>>: أصول الخلاف بين النفسانيين وثقافة مجتمعاتنا (3)
واقرأ أيضًا:
وصمة المرض النفسي : ليست من عندنا! / المسلسلات النفسية ووصمة المرض النفسي / اعتذار إلى أساتذتي المرضى الطيبين / الطب النفسي الكيميائي