"الأحوال النفسية لوضعية الموظف الصغير والكبير"
دأبنا نتعلم أن السمك الكبير يأكل السمك الصغير، كل السمك يعيش في الماء، لكن السمك الصغير في مصر الآن أصبح يأكل السمك الصغير وبعض السمك الكبير، والكل يعيش في الماء والهواء الفاسد والملوث، ولأن السمكة عادة ما تفسد من رأسها، وداء المرض الاجتماعي هو (النفاق) بكل ما يحمله من أسماء وتلاعب وقبح؛ فإن التلاعب بالناس، بالسياسة، بالدنيا، والدين. المشي على حبل الغواية والتأرجح كالأراجوز، الرقص كالبهلوان ومسح الجوخ ولبس الطراطير على كل لون كالبلياتشو العجيب، مهنة من لا مهنة لهم، موجودون بكثرة وفي كل مكان لكن ظهروا على السطح وسوقهم أصبح زحمة مع الاستفتاء وظهور المعارضة ونزولها إلى الشارع. التلاعب نوع من التفاعل القذر بين جهة وأخرى، على المستوى العملي وفي الساحة، يبدأه شخص أو مجموعة للتأثير على مشاعر وسلوك الآخرين. مارسته الحكومة على الناس ومارسه الحزب الوطني على الأحزاب الأخرى وعلى الناس كلها، وتمارسه قوى خارجية على الحكومة، ومارسته الحكومة على الإخوان، وهم بدورهم مارسوه على الحكم، وهكذا...
يصب كل ذلك في بوتقة تجمع أهدافاً محددة وتخدم مصالح معروفة. "المتلاعب" أو "الضلالي" (من نشر الضلال التي هي المعتقد الخاطئ الذي لا يقبل الشك)، يُصرّ إصراراً على أن يحصل على ما يريده (وجبات ساخنة أو بضعة جنيهات هنا وهناك)، وبين هؤلاء في الشارع وعلى الساحة، كان بيننا وبين الحاكم سلالم وقصور وموتوسيكلات وعربيات 4 4X لاسلكي وموبايلات ورغبة شديدة في إرضاء السيد ولي النعمة، تطل من بين كل ذلك حسب قول وائل عبد الفتاح وجهة نظر مهمة للغاية: (يسيطر على المسئول شعور خفي بأن فساده شرعي ـ الفجر 2-6-2005) أو كما قال بطل رواية (المرتشي) أو (المقصوم) للطاهر بن جلون، (أتمنى ألاّ أكون مرتشياً بلا تجاعيد) لأن الذي تظهر له تجاعيد التوتر والزمن والإحساس بالذنب يكون لديه الإحساس. أما المرتشون الذين بلا تجاعيد فهم كُثر.
ذلك النموذج الذي يغطي (التلاعب والسيكوباتية) بقناع (الاتضاع)، هنا يبرز ذلك المفهوم الغبي لـ"المنافق الذليل"، يسلم ويستلم بيديه المنداة بالعرق البارد (مزج بعض الصراع الذي يخبو ويظهر)، يتزلف ويتملق مالك السلطة، وكأنه الكلب يبصبص بذنبه تودداً وإخفاءاً لكرهه العميق لهؤلاء الذين خدعهم، ولاعتماد تيه المتواطئة المحسوبة على ولاءات وانتماءات مريضة، براعته في نسج الشرك، كل ذلك يجعله خطيراً خسيساً، جديراً بالازدراء. يمهد طريقه اللولبي كالدودة التي تبعث على الرثاء، مصعداً ثقته بنفسه بتجاربه كموظف كبير أو صغير متسلق (مطمئن إلى أن مؤسسة الفساد في مصر، قوة تعاظمت وتزايدت في ظل غياب حركة تداول السلطة وفي ظل تنامي مراكز القوى داخل النظام السابق السيئ طويل العمر).
بالتدريج يحوّل الموظف الصغير ضعفه وصغره، إلى يدّ عليا في وزارته أو مؤسسته؛ (وقصص الفساد والصعود الإجرامي لموظفي الدولة الصغار كثيرة، تمتلئ بها صفحات الجرائد، لكننا لا نعتقد أن المسألة في انحسار نتيجة هذه التحقيقات بل ونعتقد أن هؤلاء ما هم إلا قطرة في بحر الفساد ويمثلون نسبة ضئيلة من الهمّ العام وأنهم مجرد كباش فداء). وتتحول التبعية والخضوع إلى سطوة وسيطرة وفجور، ويتحول الموظف الكبير أو رجل الأمن المنوّط به (خدمة الشعب) إلى (خدمة السلطة)، يتحول إلى ممثل بارع ومتلاعب فج بالناس.
المصيبة في أغلب هؤلاء المنتشرين في المناصب العليا لبعض الوزارات والذين انكشف أمر بعضهم لاحقاً أنهم يتمتعون بنوع من الجاذبية الخاصة، فهو يظهر مساعداً للناس، بل ويبدو في إطار الغواية يقدم الطعم لفريسته بذوق وعذوبة ولكن (في الباطن، ومن تحت لتحت) عدواني مسيطر، سافل، وفي أحسن أحواله (متعادل)، يحاول أن يوزن الأمور.
المتلاعبون أصحاب أهداف تختلف باختلاف الناس، مناصبهم، نفوذهم، مواقعهم، وأيضاً حسب ضحاياهم. ولكنها عادة ما تقع ضمن ثلاثة أطر: الأول والأكثر انتشاراً (تحقيق المنفعة الذاتية). والثاني أن يُفسد ويفْسَد، يتفقون ويبلطج، ينافق ويخدع في محاولة مرضية مميتة لتحقيق ثبات وتوازنا اعتباره النفسي الذي للأسف الشديد، يقوم على تدمير الآخر، محوه، إذلاله، انتهاكه، السيطرة عليه. لأن المنافق، الضلالي والبلطجي مهتز مرتبك وضعيف، لا يملك القوة الداخلية، وداخله خواء ووهن وضعف وفقر نفسي شديد لا يمكنه من الوقوف على رجليه ولا العيش إلاّ بسحق من أمامه تملقاً ونفاقاً للكبير أو للوصول وأن يصبح هو كبيراً وكأنها (تدمير للقهر، للنفاق) وكأنها دائرة مغلقة من الأسى والعنف غير المبرر والرغبة في البقاء ولو على أنقاض الآخر، ولو بالعيش في المستنقع، وذلك الأسلوب المتعفن يستخدم إما للتكيف مع واقع جحيمي نشأ من كيانات طفيلية أو للدفاع عن مصالح مسروقة من أصحابها، (بالواسطة، بالرشوة، بالخداع، بالتدليس)، يتواجد بعض ذلك أو كله في شخصيات تمتد لتشمل الكل في دوائر تتسع وكأن حجراً ألقي في الماء.
هناك فروقاً هامة بين (السيكوباتى / البلطجي) وبين المتلاعبين الآخرين وأهمهم (النخبة السيكوباتية) أو (الصفوة المنافقة)، وأهم هؤلاء المقاولون: مقاولو السياسة والبيزينس، مليونيرات ومحترفي كذب ودهاء ومؤامرات. مقاولو السياسة ممكن أن يكونوا بلطجية، وأن يكونوا (لصوص)، وفي نفس الوقت لا يظهر عليهم اجتماعياً أي شيء من ذلك، فهم ناجحون، أصحاب أسر مصونة، وأولاد في مدارس أجنبية، ويصفون في أوروبا، بينما (المسجل خطر)، محروم من المال والجنس، محروم من الغذاء والكساء والسكنى اللائقة، لكن العلاقة بين هذا وذاك وطيدة، وعلى الرغم من عدم سخاء المقاول (وليس بالضرورة أن يكون مقاول أنفار للحزب الوطني، لكن ممكن أن يكون مقاولاً بالمعنى الخطير في مطبخ السياسة ودهاليزها أن يكون (البيزنيس) الخاص به يخدم المؤسسة الحاكمة وأفرادها بشكل ما، أن يوظف حياته وماله للسير على درب الهوى من أجل مصادرة الديمقراطية وقهر الناس وعدم السماح لأي (كلب) بأن يفتح فمه، بمعنى أن يؤصل لمصادرة المشاعر، وتأكيد التحرش وبيع الذمم وشراءها).
في حالة مقاول السياسة ذا الجلد المضوي والسحنة الممتلئة والطاووسية الخطيرة، يكون تلاعبه مطوعاً ومسهلاً ليرضي نزعاته الداخلية، أهدافه وأطماعه الراقدة في عقله الباطن Intrapsychic Aims ، وفي نفس الوقت مربوطة بسلوكيات مرتبة تخدم أهداف الفئة ولا نقول الطبقة، لأن الطبقة عادة ما تكون منسجمة مع ذاتها، لكن (الفئة تجمع أفراد من طبقات متعددة ووظائف مختلفة مثل: البنكي، صاحب العمل، المسجل خطر، الانتهازي، رئيس التحرير، الوضيع، الواشي، الساعي، السائق، الضابط وكلب الحراسة الذي يشم كل شيء ويهدف لشيء واحد فقط).
البلطجية الجدد، المنافقون الممتازون أصحاب الباقات البيضاء، المتلاعبون الفاسدون والمفسدون برابطات العنق الأوروبية والنظارات الايطالية والبدلات الفخمة والسيارات الفارهة يهيمنون ويتلاعبون وبالحقيقة وبالوطن وثرواته محققين مكاسب خارجة لهم (جاه وسلطان ونفوذ وفلوس)، مكاسب داخلية نفسية (خداع أنفسهم بأنهم شرفاء ناجحون محققون لذاتهم)، في حالة (السيكوباتى) المجرم المسجل خطر المحروم نفسياً وجنسياً ومادياً متعجل يعوز إشباع حاجاته بسهولة، هنا يكون من السهل تأجيره واستخدامه وإشباعه وقتياً وحتى مهمة أخرى، والإبقاء عليه في حالة الحرمان تلك، حتى يكون ذئباً ينهش اللحم المعارض وقت اللزوم وبأبخس ثمن؛
أما (الضلالي) الأنيق (النصاب الشيك)؛ فيمكنه تأجيل رغباته لحين، لأنه يخطط ويرسم ويرمي بالشباك وعينه على الهدف الثمين والسمين، وهنا تكون اختياراته وأولوياته مرسومة بدقة؛ بعكس حالة (السيكوباتى) الذي يضطر اضطراراً لفعل ما قد يفعله من انتهاك أعراض، سرقة، ضرب، تحطيم، عنف، للحصول على المكافأة (هنا والآن)؛ لأنه مستعجل ونار الحرمان تأكله، جائع، التلاعب هنا يكون وسيلة متعادلة يستخدمها الشرفاء لتحقيق هدف معين؛ بعكس البلطجية والضلالية الذين يستخدمونها كمركبة لتدمير البشر وسرقة الوطن من ضميره، ماله، وشرفه.
الاتجاه الحديث في الخطاب "الطبي النفسي السياسي" يركز على (التشخيص) وعلى (اضطرابات) بعينها. لكن يبقي أمرٌ غاية في الأهمية في إطار كل هذا، ألا وهو عملية تقييم حيل النفس الدفاعية، الشخصية وأنماطها، لا لشيء إلاّ لأن (الشخصية) و(الدفاعات النفسية) من الممكن أن تنبئنا بذلك الصراع المرير قبل حدوثه، ذلك الصراع المراوغ قبل أن يبدأ، بل ويمكنها إرشاد القوى الوطنية بالمخاطر والأمور قبل وقوعها.
إن فهم يقين التلاعب والنصب، الفهلوة والبلطجة والنفاق، كعملية استمرارية لهؤلاء الموظفين الكبار في مناصبهم العامة، وهؤلاء الموظفين الصغار، في مكاتبهم المزدحمة.
وبالطبع سيكون هناك من يتحسس موطئ قدميه، وهناك من سيصوب الرصاص على قدميه، وهناك من يتحسس رأسه التي عليها بطحة، وللأسف الشديد فإنهم كثر.
واقرأ أيضاً:
الثورة تضرب على قفاها / مفهوم الحرب النفسية / الحرب النفسية وغسيل الدماغ