رفض عنترة بن شداد العبسي المشاركة في قتال من هاجموا مضارب بني عبس قبل أن ينال حريته؛ فالعبد كما قال هذا الشاعر والفارس المغوار لا يُحسن الكرّ، بل يُحسن الحلب والصرّ، لهذا أطلق والده العبارة التي مثَّلت صكّ الحرية لابنه الشجاع: "كرّ وأنت حرّ"! فعنترة رغم بلاغته وشجاعته وفروسيته، لا يرى بأنه مكلف بالذود عن حيّ عبس ما دام بدون حرية وكرامة!
وحين هاجم الحلفاء قوات الجيش العثماني استبسل جنده من الأتراك في أكثر من موقع في الذود عن بلاد العرب التي كانت تحت حكم سلطنتهم، إلا أن الناس وبسبب القمع الشديد الذي مارسته أجهزة السلطنة في سنيّها الأخيرة لم يكترثوا، والبعض أحياناً استغل ظرف الحرب الدائرة لنهب وسلب الجنود الأتراك، ويشـهد الأتراك لأهالي فلسـطين عموماً ولأهل غزة خصوصاً بأنهم قاتلوا الإنكليز وإياهم بمنتهى الشـجاعـة؛ هذه الشهادة من باب الاستثناء لما حصل، وسقطت البلاد في أيدي استعمار الذي قسّمها وأذلَّ أهلها، وزرع الكيان العبري لاحقاً، ولو شعر الناس بأنهم أحراراً ولهم كرامة وعِزة لكانت القاعدة هي الوقوف مع الجنود الأتراك، والاستثناء هو العكس، ولكن جيوش وقيادة الحُلفاء أدركت بأن شـعوباً بلا حريـة وكرامتها مسـلوبـة لن تقف في وجـه العدوان، حتى لو كان الجندي التركي يُدافع عن أرضها وشـرفها ويُشـاركها الدين والمعتقد والمصير، بل إن الحلفاء وجدوا من يتعاون معهم بسلاحه وجهده ومعلوماته لطرد العثمانيين وليكن ما يكون!
وقصف العراقيون قلب الكيان العبري بتسعة وثلاثين صاروخاً أثناء حرب الخليج الثانية ـ "عاصفة الصحراء" حسب التسمية الأمريكية ـ وتحدى صدام حسين أمريكا؛ وبينما كان (بوش) الأب يُستقبل كملك للأرض في غير دولة، فإن صورته قد رسمت على أرضية مدخل فندق الرشيد كي تدوسها أحذية الداخلين والخارجين، وفي ذروة انتفاضة الأقصى شكّل صدام «جيش القدس» وقدم لذوي الشهيد الفلسطيني 15 ألف دولار ولذوي الاستشهادي 25 ألفا، ولكن حين اجتاح الأمريكان والبريطانيون أرض العراق سقط الجيش وانهارت الدولة ومعها النظام، بلا مقاومة تُذكر في العاصمة بغداد، بل كان التعليق الممزوج بالغيظ والأسى بأنه لو كانت الدبابتان فوق جسر الفردوس، في جنين أو نابلس لتصدى لهما الشبان بسلاح خفيف أو حتى بالحجارة والقاذورات، كنوع من التعبير عن رفع صوت المقاومة للاحتلال وتأكيد على رفضه بما هو متاح، ولكن هذا لم يحدث في بغداد، رغم أن سقوط واحتلال العراق يُمثل ضربة قاصمة للعرب والمسلمين وبالتأكيد للشعب العراقي، ولكن هذا الشـعب لم يُدافع عن دولـة غمره إحسـاس بأنها اختُزلت في حزب واحد، واختُزل الحزب في فرد أو مجموعـة أفراد، وكأن لسـان حال الشـعب يقول: لا شـأن لنا؛ فليُدافع أصحاب الدولـة المتنعمين بثروتها، والمسـتأثرين بإدارتها، عن وجودها وكيانها!
الأمثلـة الثلاثـة السـابقـة تدل على أن الانتماء للقبيلـة أو للمجتمع أو للدولـة والكيان لا وجود لـه إذا شـعر الأفراد بأن حريتهم وكرامتهم مسـلوبـة تحت أي عنوان أو مسـمى؛ سواء كان شعاراً برّاقا من قبيل «المصلحة القومية والوطنية العليا... لا صوت يعلو فوق صوت المعركة... لنتصدى جميعاً لعدوٍ مشترك يتربص بنا...إلخ» أو تنظيراً عقيماً مفاده أن أمتنا لم تنضج بعد لتنال حريتها وحقها في اختيار حكامها وممثليها... فالأحرار فقط يدافعون عن البلاد ويذودون عن العباد، أما العبيد فلا يضيرهم ما سـيكون!
لهذا اختار الله، سبحانه وتعالى، جزيرة العرب ومكة المكرمة لتكون موطن آخر الرسالات وخاتم النبيين؛ فهؤلاء قوم لا يخضعون لفرس، ولا يُدينون لروم، وحيث أنهم أحرار وكرامتهم محفوظة وتعززت وتجذّرت وشملت من كانوا فيهم من العبيد والموالي كبلال وعمَّار بعد اعتناقهم عقيدة الإسلام، فقد حرّروا إخوانهم العرب في البلاد المجاورة بأعداد قليلة من الجُند مقارنة مع ما لدى الخصم، فسقط هرقل، وتمزّق ملك كسرى، واستسلم المقوقس، وسلَّم (صفرونيوس) بيت المقدس لعمر بن الخطاب؛ هذا الرجل صاحب العقيدة التي علّمتـه أن الناس وُلدوا أحراراً ولا يجوز بأي حال أن يُسـتعبدوا!
كامب ديفيد.. متى تنتهي؟
ما زال البعض يرى بأن الثورة المصريـة ليسـت إلا مخططاً أمريكيا بامتياز؛ لأن أمريكا ـ حسـب رأيهم ـ تريد تبديل نظام متعاون بنظام آخر يتميز بالاسـتقرار ويُنفذ تعليمات واشـنطن، ومن هؤلاء من كان إلى الأمس القريب يرفض أن يصف النظام المنهار بأنه طوع أمر أمريكا، ولطالما تصدروا وسائل الإعلام ليُشيدوا بحكمة النظام وحنكة رئيسه السياسية، وحرصه الشديد على مصالح مصر الوطنية ومصالح العرب القومية، واليوم اكتشفوا بأن هذا النظام كان تابعاً لأمريكا، وأنها قررت تغييره، فسبحان الذي قلب الحكيم الوطني القومي إلى عميل انتهت صلاحيته..!!
وحتى يُثبتوا صحة تحليلهم المريض لثورة عظيمة دخلت رغم أنف الجميع تاريخ مصر والعرب والمسلمين والتاريخ الإنساني، يطرحون مسألة (كامب ديفيد) فيقولون بأن المتظاهرين في ميدان التحرير لم يرفعوا شعارات تُطالب بإسقاط (كامب ديفيد) أو شعارات تُطالب بتحرير فلسطين، أو شعارات تُدين وتهاجم أمريكا وسياساتها، بل إن شعاراتهم اقتصرت على مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية أبرزها المطالبة بإسقاط النظام.
وللرد على هذه التُرهات الصادرة عن فئتين؛ الأولى قليلة العدد تهمها مصلحة مصر والأمة ويدفعها الخوف من المستقبل لطرح هذه الفكرة، والثانية لا تؤمن بأن الشعب قادر على التغيير وترى بأن أمريكا تُحرك كل ما يجري في هذا الكون بالـ «ريموت كنترول»..! للرد عليهم أضع الملاحظات والحقائق التالية:-
أولاً: هناك بُعد عن الدقة في التعميم على شعارات الثورة العظيمة بأنها كانت خالية من موضوع (إسرائيل) وأمريكا، فمن ضمن الشعارات التي رُفعت كان هناك شعار «لا مبارك ولا سليمان الاثنين عملاء الأمريكان» ورُفعت صورة لحسني مبارك عليها نجمة سداسية، وكان هناك شعار «حسرة عليه يا حسرة عليه (إسرائيل) بتبكي عليه»، وغير ذلك من الشعارات المشابهة، رغم أن أغلب الشعارات تركزت على مسألة رحيل مبارك وإسقاط نظامه.
ثانياً: لا يمكن لأي عالم اجتماع أو مؤرخ متعمّق أو محلل سياسي أن ينكر أن موقف النظام المنهار من (إسرائيل) وأمريكا الذي وصل حد الاستخذاء المخزي كان عاملاً أساسياً في تفجر الثورة الشعبية؛ فالمصريون شعروا بإهانة كبيرة واستصغار لشأنهم بسبب ممارسات نظامهم الذي ربط نفسه بمصالح أمريكا وتحقيق مطالب (إسرائيل) الأمنية إلى حد لم تحتمله ثقافة المصريين الوطنية.
ثالثاً: قبل الثورة بسنوات ومنذ (كامب ديفيد) بقيت العلاقات مع (إسرائيل) ذات طابع رسمي ولطالما قيل بأن السلام يتصف بالبرود، ورغم أن (إسرائيل) استطاعت الحصول على الغاز المصري بسعر لم يحلم به المقبور (مناحيم بيغن)، فإن هذا تم من وراء ظهر الشعب ورغماً عن إرادته، واستفزت مشاعر المصريين، وشعروا بجرح غائر في كرامتهم الوطنية، ولطالما سعت (إسرائيل) لإحداث اختراق في الأوساط الثقافية والاجتماعية والأكاديمية المصرية، ولكنها فشلت رغم كل الجهود التي بذلتها، وكان الأفراد الذين يُطبّعون العلاقات معها وتحت أي مسمى يتعرضون للازدراء الشعبي، وتُتخذ بحقهم إجراءات ضمن أُطرهم مثل الاتحادات والنقابات وسائر المؤسسات الوطنية والأهلية، أو يُعبر الناس عن سخطهم بطردهم من المقاهي أو الفنادق أو المتاجر والأمثلة كثيرة لمن شاء أن يتذكر...
رابعاً: إن من الحكمة السياسية تحييد أمريكا و(إسرائيل) قدر المستطاع، ولا ننسى أن عقل الأخيرة طار بدليل تصريحات (نتنياهو) خاصة الأخيرة، وعودته إلى قرع طبول الحرب مع مصر، لأن النظام البائد كان يستقوي على شعبه الثائر بالخارج، ولا ضير من طمأنة مؤقتة لهذا الخارج لسحب ورقة قوة مهمة كان يلعب بها النظام دوماً؛ بأنه الضامن الوحيد للمصالح الأمريكية ولأمن (إٍسرائيل)، وتحت هذه اليافطة فتك بالناس بمنتهى القسوة وازدادت أجهزته تغوّلاً ووحشية ودموية.
خامساً: هنا أعود لما بدأت به هذه المقالة وهو حرية الناس أفراداً وجماعات وكرامتهم المصادرة؛ أتريدون ممن يعيـش في المقابر مع عائلتـه أن يُطالب بتمزيق (كامب ديفيد) وتحرير فلسـطين!؟ أتريدون من موظف راتبـه خمسـمائـة جنيـه أن يُفكر في قضايا الأمـة وهو لا يسـتطيع توفير الحد الأدنى من مطالب العيـش ولو على الكفاف!؟ أتريدون ممن لا يرى اللحوم إلا في المتاجر وأكلها يُشـكل حُلماً بعيد المنال أن يشـتم أمريكا ويلعن (إسـرائيل)!؟ أم تريدون ممن يتعرض لأبشـع وأفظع أنواع التعذيب في مخافر الشـرطـة ومراكز الأمن بلا ذنب وقد يُقتل تحت سـياط الجلادين، أن يفكر في حرب مع (إسـرائيل) أو التصدي لأمريكا!؟
إن هذه الشرائح يجب أن تنال حريتها وتستعيد كرامتها وما نُهب من ثروة هي في الأساس من حقها قبل كل شيء وعندها ستكرّ، وإلا فحالها كحال عنترة قبل أن ينال حريته!
سادساً: الشعب حي وقد استيقظ ويعرف طريقه، وحين يتحرر تماماً من قيوده، وتُصبح العبودية من الماضي فإن أي طفل مصري سيُمزق معاهدة (كامب ديفيد) ويُلقيها في صندوق القمامة، وسيكون الغاز المصري لشعب مصر وأشقائه دون سواهم وسيتصاعد الغضب تجاه (إسرائيل) ومن خلفها أمريكا وصولاً إلى ما نشتهي ونتمنى، ولكن الحريـة أولاً والحريـة دائماً.
وبالطبع لا يمكن أن نقتنع أن أمريكا قد غيَّرت جلدها فجأة، وأصبحت مع الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، على الرغم من تصريحات (أوباما)، ولكن أليس الله بكاف عبده؟ ألا نثق بالشعب بعد حالة اليأس التي كنت أنا شخصياً من ضمن المصابين بها؟ ولنتذكر تصريحات (هيلاري كلينتون) بعد ثورة الحرية في تونس الخضراء بأن حكومة مصر مستقرة، فأمريكا ليست كما كانت؛ ولكن بعضاً من الناس يتعاملون مع الواقع الجديد كتعامل قوم موسى، عليه السلام، مع وضعهم الجديد بعد أن أغرق الله فرعون وأخرجهم من مصر؛ فالعبودية بقيت كامنة في نفوسهم ومستقرة في عقولهم، حتى نشأ جيل جديد، أو أن حال هؤلاء كحال الجن مع سيدنا سليمان، عليه السلام، حيث لم يُصدقوا بأنه مات إلا حين أكلت دابة الأرض منسأته، ويُشيع هؤلاء أجواء الإحباط والتشكيك بعد أن امتلأت قلوبنا بالأمل، وأنا لا أُقلل من الأخطار المحدقة بمصر ومحاولات اختطاف الثورة ومحاولات الالتفاف عليها من قِبل الكثير من المتربصين والمتآمرين، ولكن مهما كان الأمر فإن العودة إلى الوراء أصبحت مستحيلة، شاء من شاء وأبى من أبى، وبعد الحرية ستُطوى صفحة (كامب ديفيد)، بل ستُطوى صفحة تقسيم السودان، وتذكروا دعم النظام البائد لـ (جارانج) وحركته، وستقترب نهاية المشروع الصهيوني وما ذلك على الله بعزيز، ولكن الحرية هي كلمة السر، وسـيئات الحريـة أفضل من حسـنات الاسـتبداد...، فالحرية أولاً والحرية دائماً.
الثلاثاء 22/02/2011م
واقرأ أيضاً:
إسرائيل: البيئة السياسية كحاضنة للعنصرية/ عظماء في أكاديمية الصمودوعد بلفور فلسطيني/ الكيان الصهيوني ويهود العالم/ ندين سياسة العنف والعدوان التي تستخدمها دولة إسرائيل!/ يوم استقلالهم.... يوم نكبتنا....