الأسئلة والوصايا، للشبان والصبايا: (3 من ؟)
نبض الثورة، ودورة القلب، وإيقاع الحياة!
ما هذا الذي يتواصل ضد كل قوانين الحياة والإبداع والتطور والحضارة؟
بعد كل الخير الذي أجراه الله رحمة بهذا البلد على أيديكم فأيدينا معكم، نحن ننزلق إلى أقبح ما يمكن أن نصل إليه حتى على يد من سرقوها وهم يزعمون الآن –ربما ببعض الصدق- أنهم كانوا يبنون اقتصادا قوميا لمواجهة الإغارة المالية العولمية، ليس هذا وقت مناقشة هذا الاحتمال، لكن استمرار الوضع هكذا، بما يعلنه اضطراد العد التنازلي نحو غول الجوع وأشباح الخراب والموت عطشا، ينبغي أن يوقف فورا وبنفس حماس الشباب وثوريتهم.
آن الأوان أن نحافظ على شبابنا ممن يسحبونهم إلى ما يمكن أن يقلب كل فخرنا بهم، وفخرهم بأنفسهم إلى ما يقترب من مرتبة الخيانة العظمى.
لو سمحتم: يا أيها الشبان والصبايا، لا تجعلوا من أزحتموهم من على صدورنا يشمتون فينا، وفيكم
لو سمحتم: لا تجعلوا آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم في طول مصر وعرضها، يترحمون على أيامٍ لكم أنتم الفضل في تعرية فسادها
لو سمحتم: لا تضطروا من يحب مصر بعقل أرجح، ونفس أطول، ومسئولية أشمل، وأمانة أثقل، لا تضطروهم أن يفيقوكم قسرا حماية للوطن، بما يسارع أكثر فأكثر بمزيد من الخراب والموات
لو سمحتم: إلحقوا مصر حبيبتكم بنفس روحكم الشجاعة، ونفس زخم قدراتكم الخارقة
وبعد؛
أنا لا أريد أن أزيد من الخطابة، ولعل هذا هو ما منعني من أن أرص الوصايا مختصرة، فاسمحوا لي أن أقدم صورة مصر الجميلة الآن في تشكيل واقعي حدث لي من يومين.
كنت قد عزفت عن السفر للخارج منذ سنوات، إلا مضطرا لإلقاء محاضرة أو بحث هنا أو هناك، صباح الأربعاء الماضي كنت في إحدى هذه الرحلات السريعة القصيرة، دخلت إلى المطار ولم أكن قد رأيت تحديثه الأخير، ودعوت الله أن يوفق الفريق أحمد شفيق إلى تحديث مصر كما حدّثه، لكن يبدو أن إدارة الحرب والمطارات غير إدارة السياسة والناس، وبعد إجراءات بسيطة سريعة منظمة، لم أعرف الطريق إلى إنهاء ما تبقى من إجراءات جوازات السفر، وجدت ضابطين جالسين بعيدا عن مكاتبهم، وأيضا عن احتمال أن يكونوا هم المسئولون عن هذه الإجراءات؛
تقدمت من أحدهم، وألقيت تحية الصباح، كان في العقد الخامس تقريبا، وسألته عن مكان إتمام إجراءات الجوازات، نظر في وجهي، وأعتقد أنه لم يعرفني شخصيا، ففرحت بيني وبين نفسي حتى لا تحرجني أية معاملة خاصة، تزحزح الرجل قليلا، وهو يفسح لي مكانا لأجلس بجواره، ويمد يده ليأخذ مني جواز السفر الذي كان بيدي ظاهرا، أخرج قلما، وسحب الورقة التي أعطوها لي بداخله، وملأها بنفسه من واقع الجواز وهو يبتسم في تعاطف صبوح، ثم قال لي بهدوء أنه "مع السلامة"، وهو يشير إلى أين أتجه بعد ذلك، شعرت بطمأنينة عجيبة وشكر غامر، لكنني لم أشكره، أخذت أتأمل وجهه المصري الجميل، ثم قلت له بألم حقيقي: "أنا متأسف"، فقال مندهشا "خيرا متأسف على ماذا؟ قلت له "على كل شيء يستأهل الأسف"، فهمَ وصمتَ، ولست أدري أينا اغرورقت عيناه بالدموع أولا، أشحت بوجهي قليلا، ثم عدت ألتفت إليه، وأنا مازلت بجواره، وقبلت رأسه وأنا أهدهد ظهره، فاغروقت عيناه وحاول أن يبعد عني وجهه هو الآخر، ثم عاد فمال على كتفي الأقرب إليه، وقبله، صافحته وانصرفت دون أي ينطق أن منا بحرف آخر.
بعد بضعة خطوات، تذكرت أنه لم يكن معي قلم لأملأ به البيانات أصلا، وأن هذه المبادرة أعفتني حتى من أن أبحث عن قلم نسيته، فسألت شابا مصريا يقوم بتنظيف الأرض في هذا الصباح الباكر، وكنت بجوار محل عملاق، لعله السوق الحرة أو شيء من هذه الأشياء التي لا أفهم فيها، سألته أين أجد محلا أكثر تواضعا أشتري منه قلما، فأشار إلى ناحية معينة حيث سوف أجد مكتبة لعل فيها ما أطلب، شكرته وتوجهت إلى حيث أشار، وفعلا وجدت مكتبة، لكنها كانت في نفس فخامة السوق الأولى، ولم ألمح بها أحدا، ومع ذلك دخلت، فوجدت المسئول شابا ربما لم يتجاوز الثلاثين يرتب أشياء على ناحية، تقدمت إليه، وذكرت حاجتي إلى شراء قلم، فقال بترحيب حقيقي، أي نوع من الأطقم تريد؟؛
تلفت حولي فإذا بها مكتبه تبيع أيضا الهدايا الثمينة، من أدوات مكتبية وغيرها، فضحكت وأفهمته أنني أريد أن أشتري قلما من "أبو ربع جنيه" أخطط به ما أقرأ أثناء سفري، ابتسم الشاب وهو يسمع الثمن الذي حددت به طلبي، وقال "ربع ماذا؟، صححت نفسي بسرعة قائلا "أعني إتنين تلاتة جنيه"، فقط ليؤدي المهمة أثناء القراءة وأنا مسافر، فضحك، وتأسف، وبدون تردد مدّ يده إلى جيبه، وأخرج قلمه الخاص، وفهمت، واطمأننت أكثر إلى أنه قلم ما زال متواضعا لكنه أقل تواضعا مما كان بذهني (لا بد أن ثمنه ليس أقل من خمسة أو عشرة جنيهات، لا أعرف)، ناولني الشاب القلم بتلقائية وكرم، حتى خجلت أن أسأله عن ثمنه أو أن أعرض عليه الدفع لما وصلتني الرسالة من وجهه الصبوح، كان الموقف واضحا، قلت له، "وأنت ؟: قد تحتاجه في عملك هنا الآن"، قال: لا عليك، مع السلامة، وأنا سوف أتصرف، ودعا لي، فدعوت له.
قلت لنفسي: هذه هي مصر
وحين وصلت، وأديت العمرة مباشرة، دعوت أثناءها، لمصر وهي تتجسد أمامي في هذين الرجلين، ثم يتلاحق وراءهما وحولهما شباب التحرير، ثم من تيسر من خلق الله جميعا ممن كانوا يطوفون ويسعوني معي، من كل لون وجنس، بصراحة، دعوت لكل من خلقه الله، من كل الأديان، واستطاع أن يقاوم التشوه الذي يفرضه السلطان والطمع علينا نحن البشر.
في المساء، بدأ المؤتمر العلمي بمحاضرتي الافتتاحية، وكنت ما زلت أذكر ما حكته ابنتي عن دموع خطيب جمعة 11 يناير في المسجد النبوي الشريف وهو يدعو لمصر بالسلامة والأمان، ودموعه تسيل منه أثناء الخطبة.
قبل أن ألقي أطروحتي العلمية، بدأت مخاطبا الحضور بأنني –وأنا قادم هذا الصباح من مصر- أقرأ في وجوهكم الأسئلة تقفز دون كلمات تسألني بحب واحترام لتطمئن عن "كيف الحال في مصر الآن؟"، قلت لهم "إنها بخير"، "إنها بخير" برغم كل شيء، وحكيت لهم حكاية الضابط وملء الجواز وقلم شاب المكتبة، ورأيت عن بعد في عيون المصريين والعرب الحاضرين ما كان في عيني وعيني ولدى: ضابط البوليس، وشاب المكتبة.
هذه هي مصر
بلغني بمجرد وصولي إلى القاهرة ظهر الخميس نبأ استقالة الوزارة برجلها الشريف المصري الطيب الحاذق، وتكليف شريف آخر مصري طيب حاذق أيضا غالبا، ثم رأيت في اليوم التالي دموع د. يحيي الجمل وهو في وداع رئيس الوزراء، ولم أستطع أن أميز بينها، وبين ما دار بيني وبين الضابط الرقيق، مما ذكرته حالا.
لو سمحتم،
لو سمحتم أيها الشباب، لو سمحتم: أستأذنكم أن أتقدم بوصية واحدة اليوم مما حجبت عنكم نناقشها باختصار، تقول هذه الوصية (السادسة من المجموعة الثالثة):
"الوقت ثروة حقيقية أنت مسئول عنها لصالحك وصالح بلدك، صدِّق أنك قادر على عمل أكثر من ذلك في أكثر من مجال، بطريقة أدق وتوقيت محسوب، أوله وآخره، بشكل أفضل، وأيضا بتصميم مماثل وأصلب"
يا أيها الشباب والصبايا:
أربعون يوما مضت حتى الآن، هي كفاية وزيادة، حققتم فيها، ونحن معكم ووراءكم، ما لم نكن نحلم أن نحققه في أربعين عاما، الأسماء ليست هي الأهم، المطالب ليس لها سقف إن لم يصاحبها اقتراحات برامج تحقيقها منكم، ومن كل من يهمه الأمر: برامج، وبدائل، ومحكات اختبار، ومناهج نقد،
فبالله عليكم كيف يتم أي من هذا مع كل هذا الإيقاع السريع هكذا؟
هذا الرقم (أربعون) له عندي دلالة علمية خاصة، بل ودينية سواء في تاريخ نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، أم في قصة سيدنا موسى عليه السلام أم غيرها
أنا أنتمي إلى نظرية وضعتُ خطوطها من واقع خبرتي وتاريخي العلمي، محورها الأساسي هو ما يسمى "الإيقاع الحيوي"، وهي تؤسس وتفسر كل مظاهر الحياة، من أول التفاعل الكيميائي، حتى مسار التيار العصبي في الأعصاب إلى اختلاف الليل والنهار إلى تبادل الفصول إلى وجه الله تعالى مرورا بدقات القلب ودورات حالات الذات في الحياة النفسية، تنطبق نفس النظرية على دورات الحضارة، وتبادل الشرعية الثورية مع الشرعية الدستورية، أي أنها تتناول تبادل الانتفاضات الثورية مع بناء الحضارة حتى السقف المتاح، ثم الثورة، ثم الاستيعاب الحضاري، وهكذا.
كنت أنوي أن أتحدث في هذا المقال عن هذه الدورات الطبيعية الحتمية التي لو اختلت مات جسد الدولة (وهو لم يتخلق بعد) وهلك الناس شبابا وشيوخا، حاضرا مستقبلا، تماما مثلما يموت الجسد لو استمر انقباض عضلة القلب تدفع الدم طول الوقت، بلا استرخاء ليمتلئ من جديد بدم يحتاج دفعا جديدا،
وهذا ما سأعود إليه تفصيلا في مقالِ قادم.
يا أحبائي وحبيباتي من الشباب والصبايا:
ألم يئن الأوان أن تسترخي عضلات الثورة، لا كسلا، لكن لتمتلئ بدم جديد، فنبض جديد؟
ألم يئن الأوان أن تنقلب تفجيرات طاقات الغضب إلى قدرات بناء ما تتوجون به ثورتكم؟ ثورتنا؟
ألم يئن الأوان لننتقل من التركيز على سقف المطالب إلا البحث عن مقاييس متابعة الأداء؟
ألم يئن الأوان أن ننشئ معا دولة لها بوليس يحمي أهلها، وجيش يحمي حدودها، واقتصاد يحمي استقلالها، وإبداع يبرز دورها
ألم يئن الأوان أن يقود الشباب، المسيرة باستيعابها قبل أن يقودنا ويقودهم غيرهم، إلى مصالحهم دوننا؟
لو سمحتم، لو سمحتم: ما ذا وإلا فالبدائل أفدح وأقسى من كل تصور
لو سمحتم: بفضلكم ، ونحن معكم، يا رب سترك
لو سمحتم: نحن نحتاج إلى أثنا عشر شهرا –على الأقل- مليئة باليقظة والنقد والمتابعة والبناء،
أثنا عشر شهرا على الأقل بدون ميدان التحرير إلا رمزا وذكرى جميلة حافزة واعدة
لا تشوهوا الميدان الجميل: ربنا يخليكم لمصر، ويخليها بكم
لو سمحتم
ونكمل الأسبوع القادم تفاصيل أكثر ارتباطا بالعنوان.
ويتبع >>>>>>>>: أسئلة ووصايا إلى الشبان والصبايا (25 يناير: 5 من ؟)
واقرأ أيضاً:
دروس في الحرب النفسية / كيف تخلص المصريون من الخوف من الحميمية