العلاقات بين البشر هي أحد أهم عوامل السعادة في حالة صحتها وتناغمها، وهي أيضا أحد عوامل الشقاء في حالة اضطرابها وتعثرها، وهي تشكل أحد الاهتمامات الرئيسية الثلاث عند الناس (الإنجاز، العلاقات، القيم).
محاور العلاقات:
1 – المحور الداخلي (العلاقة بالنفس): فمن عرف نفسه وفهمها وأحبها وأحسن التعامل معها وإدارة جوانبها ومستوياتها وصراعاتها كان أقدر على فعل ذلك مع غيره، ومن فشل في ذلك فقدرته على معرفة الآخرين وحبهم وإدارة العلاقة معهم مشكوك فيها. ومعرفة النفس محفوفة بمخاطر كثيرة منها التحيز مع النفس بتضخيمها أكثر من اللازم والدوران حولها عشقا وهياما، أو بتحقيرها وسحقها وتسليم قيادها لآخر أو آخرين.
2 – المحور الأفقي (العلاقة بالناس): وهي علاقة ضرورية ونسبية، أما عن ضرورتها فلأن الإنسان كائن يعيش في وسط اجتماعي ولا غنى له إطلاقا عن علاقات مع هذا الوسط تضمن له تدبير معيشته وتحقيق احتياجاته النفسية والاجتماعية، وأما عن نسبيتها فهي تعني أن الناس متفاوتون في درجة تفاعلهم مع الوسط الاجتماعي كما وكيف، وهذا يعتمد على طبيعة الشخصية (انطواءا وانبساطا) وعلى درجة الاحتياج للآخرين ومدى العائد المتلقى من العلاقة بالآخر. والعلاقة بالناس على الرغم من أهميتها وإشباعها لاحتياجات إنسانية كثيرة إلا أنها محفوفة بمخاطر الغيرة والمنافسة والحقد والحسد من ناحية ومخاطر الحب الجارف والافتتان والاعتماد والابتلاع من ناحية أخرى، ولهذا تحتاج تلك العلاقات لضبط وتهذيب حتى لا تنجرف إلى دوائر الصراع المدمر أو دوائر الحب الخانق.
3 – المحور الرأسي (العلاقة بالله): تلك العلاقة التي تؤثر في سائر علاقات الإنسان فضلا عن كونها في حد ذاتها علاقة شديدة الأهمية، فالإنسان مخلوق ويحتاج في كل لحظة لخالقه فهو يتعلق به حبا واحتياجا ورغبة ورهبة. والإنسان حين يعي ويستوعب صفات الجمال وصفات الجلال في الذات الإلهية تتوازن مكونات ذاته وتنتظم علاقاته بنفسه وبالآخرين فهو وإياهم مخلوقات لإله واحد وقد كرمهم الله على سائر خلقه واختصهم بأمانة التكليف بعد أن أعطاهم حرية الاختيار ونظم حياتهم بأديان متتالية ترسم حدود العلاقات وتهذب الأخلاق وتردع دوافع الطغيان وتنمي نزعات الخير والحب والسلام. والعلاقة بالله على الرغم من عظمتها وقدسيتها إلا أنها لا تسلم من التحريف أو الغلو بناءا على تصور الإنسان للإله وبناءا على المنهج الذي وصل الإنسان وهل هو صادر عن الله بالكلية أو منسوب إليه وموضوع بواسطة البشر وملبيا لأهوائهم. وكم من نزاعات وحروب قامت بين البشر باسم الإله وهي في الحقيقة مدفوعة بأهواء البشر وأطماعهم.
قوانين تحكم العلاقات:
ثمة قوانين عديدة تحكم العلاقات الإنسانية، ولكن يمكن إيجازها للتبسيط في قانونين أساسيين هما:
1 – قانون الحب: وهو أول قانون في العلاقات نشأ حين أحب آدم حواء وأحبته ومازال هذا الحب يسري في ذريتهما ويجمع المحبين لتعمر بهم الحياة وتنمو وتتطور. وقانون الحب يكتسبه الإنسان في مراحل نموه الأولى حين تحوطه الأم بالرعاية وتلبي احتياجاته فينشأ لديه إحساس بأن الحياة آمنة وأن الآخرين يوثق بهم وبعطائهم وأنهم يستحقون منه المشاعر الطيبة.
2 – قانون الصراع: وقد ظهر متأخرا بعد قانون الحب، وتجسد في أوضح صوره فيما نشأ بين قابيل وهابيل من مشاعر غيرة وحسد وتنافس انتهت بأن قتل قابيل أخاه هابيل، واستمر ذلك القانون يعمل بين البشر ويصدر عنه النزاعات والخلافات والحروب في كل زمان ومكان. وقانون الصراع يتولد عند الإنسان إذا نشأ في بيئة مهددة لا تعطيه احتياجاته الأساسية لذلك ينمو لديه الإحساس بأن الحياة غير آمنة وأن الآخرين لا يوثق بهم وأن عليه أن يأخذ حقه بذراعه عنوة وأن يتصارع طول الوقت مع الآخرين الذين يحاولون –في نظره– أن يسلبوه ذلك الحق.
ومن حكمة الله ورحمته أن قانون الحب نشأ قبل قانون الصراع، وأنه يظل أقوى وأكثر امتدادا وتغلغلا منه، والدليل على ذلك استمرار الحياة على الأرض وتطورها ونموها على الرغم من الخلافات والصراعات والحروب.
وهناك توازن بين القانونين يسمح باستمرار الحياة والتفاعل بين الناس، ولكل من هذين القانونين وظيفة يؤديها لا غنى للناس عنها فقانون الحب يكمن وراء كل المشاعر الجميلة بين البشر ويكمن وراء كل عوامل البناء في الحياة، وقانون الصراع يربض وراء المنافسة والمغالبة وتطوير أدوات الحياة وتسخين درجات التفاعل بين البشر وتنشيط الحواس والعقل للعمل وتنقية الأرض مما يلحق بها من فساد (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض). فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بأحد القانونين منفردا، ولكن صحة الحياة وصحة العلاقات تتوقف على مدى نسبية ومساحة كل من القانونين في النفس البشرية، ومتى يعمل كل قانون منها وفي أي الظروف يعمل وفي أيها يتوقف، وما هي ضوابط العمل والتوقف لكل قانون.
أسباب اضطراب العلاقات:
وتأتي مشاكل العلاقات من مصادر كثيرة متصلة بطبيعة النفس البشرية واختلاف توجهاتها واحتياجاتها وأطماعها ودوافعها ومخاوفها وظنونها وصراعاتها الداخلية والخارجية. إذن فالاختلاف يكاد يكون هو أهم مصدر للمشاكل في العلاقات فلا شك أننا كبشر مختلفون بدرجات متفاوتة، وبعضنا يتحمل هذا الاختلاف ويتقبله والبعض الآخر لا يتحمل ويدخل معنا في صراع. وبعض الناس لديهم توقعات بأن يكون الآخرين مثلهم في طريقة التفكير وفي السلوك، وأن من يختلف عنهم يصبح عدوا لهم أو على الأقل مهددا لاستقرارهم. والصراع بين البشر على مستوى العلاقات لا يتوقف على الغرباء بل قد يكون بين الأقربين أشد، وأول وأشهر صراع واضطراب في العلاقات في التاريخ الإنساني كان بين قابيل وهابيل وانتهى بأن قتل قابيل أخاه هابيل وكانت أول جريمة قتل في التاريخ الإنساني بسبب الغيرة والتنافس.
مفاتيح استراتيجية لصحة العلاقات:
0 قبول حقيقة أن البشر مختلفين، وأن الله خلقهم كذلك لحكمة، ولا يصح ولا يصلح أن يكونوا جميعا متشابهين أو متطابقين، فالخلاف تنوع وثراء وهو مصدر تفاعل وحركة تعمر بهما الحياة، يقول الله تعالى: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ (119)...." (هود118، 119). وقبول الاختلاف والتعددية هو البداية الحقيقية للتعامل الصحي مع البشر.
0 المرونة، بمعنى أن كل إنسان وكل موقف يحتاج لرؤية معينة ولأسلوب معين ولتعامل معين بحيث نضع في الاعتبار التركيبة النفسية لهذا الشخص وظروفه كما نضع في الاعتبار الحالة التي هو عليها في لحظة التعامل والسياق الذي نتعامل معه فيه. ويخطئ كثير من الناس حين يحاولون تثبيت طريقة التعامل مع كل الناس وفي كل الظروف، وربما يعتقدون أن في هذا نوع من الثبات على المبدأ أو الاتساق في السلوك، والمرونة لا تعني تغيير المبادئ الأساسية في التعامل ولا تعني التعامل بوجهين أو بعدة أوجه، ولكنها تضع لكل حالة إنسانية ما يناسبها من الاستجابات الصحية، فالشخص المرن أشبه بطبيب حكيم وماهر ينتقي لكل مريض ما يناسبه من الأدوية واضعا في الاعتبار السن والجنس والحالة المرضية والقدرة المادية وكل الظروف المحيطة.
0 القبول لأخطاء البشر على اعتبار أن الطبيعة البشرية مجبولة على القابلية للخير والشر وأن الناس جميعا في حالة مجاهدة لأنفسهم بين هذين القطبين، والنجاح في ذلك أمر نسبي ومتفاوت، لذلك لا نستغرب حين نجد أحدا يتورط في خطأ أو أخطاء، فطبيعته تحتم ذلك، وطبيعتنا مثل طبيعته، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وطوبى لمن انشغل بإصلاح نفسه أولا ثم ساعد الناس على الصلاح ثانيا. والقبول هنا لا يعني الموافقة على الأخطاء ولكن يعني التماس الأعذار وتقدير الظروف التي دفعت لذلك ثم محاولة الإصلاح انطلاقا من قاعدة الحب للشخص على الرغم من رفض الفعل الخطأ الذي تورط فيه.
0 التكيف مع الناس وخاصة أولئك الذين نضطر للتعامل معهم ونحن لا نستريح لصفاتهم وأفعالهم، فنحاول أن نتعامل مع الجزء أو الأجزاء المريحة فيهم وأن نبتعد قدر الإمكان عن مناطق الصراع في نفوسهم أو نفوسنا، وبمعنى آخر أن نتجنب الضغط على "الزراير الحمراء" في الشخص الذي نتعامل معه بل نبقى في حدود التعامل الآمن معه الذي لا يمس مناطق الحساسية أو عقد النقص. ويفيد في هذا أن نتجنب الشخصنة في التعامل ونركز على الجوانب الموضوعية المحايدة في التعامل. وربما مع الوقت نكتشف في الشخص الذي أمامنا نقاط جيدة تسمح بمزيد من التعاون والتفاعل على الرغم مما لديه من نقاط ومساحات غير مريحة لنا. والمثال الواضح لهذه الطريقة في أماكن العمل بين مرؤوس ورئيسه أو بين شخص وزميله.
0 الاسترضاء، وهي طريقة تصلح مع من نحتاج للتعامل معهم على الرغم من وجود مشاعر سلبية لديهم تجاهنا، فمثلا إذا كانت زوجة تجد صعوبة في التعامل مع حماتها (أم زوجها) نظرا لعوامل الغيرة لديها أو شعورها بأنها خطفت منها ابنها الذي قامت على تربيته ورعايته سنين طويلة، فيمكن للزوجة هنا أن تسترضي هذه الحماة الغيورة أو المتحاملة بأن تهدي إليها بعض الهدايا التي تحبها وأن تطيعها في بعض توجيهاتها قدر الإمكان فيما يخص معاملة الزوج أو إدارة البيت وأن تعطيها الإحساس بالاحترام والتقدير لخبرتها وحكمتها.
0 فهم مفاتيح البشر، فلكل شخصية مفتاح أو عدة مفاتيح تتصل بالمحور أو المحاور الأساسية للشخصية، فذاك شخص عملي يحتاج إلى التواصل المباشر والسريع للوصول إلى الإنجاز، وهذا شخص رومانسي هادئ يولي المشاعر أهمية كبيرة، وثالث يهتم بالعلاقات الاجتماعية والقيادة، ورابع يهتم اهتماما شديدا بالمال، وخامس يولي القيم والمبادئ عناية خاصة، وسادس يبحث عن المتع والملذات، وسابع تحلق روحه إلى السماء عشقا للإله...... وهكذا أنماط متباينة من البشر ومن المفاتيح التي نحتاجها لفتح مغاليق النفوس. ومعرفة المفاتيح قد تكون لدى بعض الناس بالفطرة والتجربة الحياتية، وقد يكتسبها البعض الآخر بالدراسة والمعرفة لأنماط الشخصيات وتوجهات الناس.
0 إجادة قراءة اللغة غير اللفظية في التواصل، فكثير من الناس قد يغفلون عن لغة الجسد أثناء التعامل مع الآخرين فيفقدون الكثير من الدلالات في محتوى التواصل، إذ تفيد الكثير من الدراسات أن اللغة اللفظية (الكلام) تعطينا 30% فقط من محتوى التواصل، بينما اللغة غير اللفظية تعطينا حوالي 70% من ذلك المحتوى. واللغة غير اللفظية تتمثل في أشياء كثيرة منها نظرة العين، تعبيرات الوجه، حركة الرأس والرقبة، حركة اليدين والرجلين، طريقة الجلوس، المسافة بين المرسل والمستقبل، نبرة الصوت.... الخ، وكثير من الذين تفشل علاقاتهم مع الناس يكونون غير قادرين على قراءة تلك اللغة غير اللفظية فلا يفهمون الآخرين بشكل جيد وبالتالي تكون استجاباتهم في المواقف خاطئة.
0 ضبط المسافات، وهي طريقة من أفضل الطرق وأنجحها في العلاقات الإنسانية، وتتلخص في أننا نقترب أو نبتعد من الشخص الذي نتعامل معه حسب ظروفه وظروفنا ودرجة قبوله وقبولنا واحتياجاته واحتياجاتنا، بحيث تكون هناك حالة من التوازن الدينامي في العلاقة فلا نبتعد إلى الدرجة التي تنقطع فيها العلاقة ولا نقترب للدرجة التي تؤدي إلى الحساسية أو الاختناق. وهذه الإستراتيجية تحتاج لحسن تقدير لحالتنا وحالة الشخص الذي نتعامل معه لحظة بلحظة ثم ضبط المسافة قربا أو بعدا بناءا على هذه الحالة. ويمكن رؤية هذه الطريقة في العلاقة بين زوجين، فنرى أنهما يقتربان في بعض اللحظات إلى درجة الذوبان في بعضهما، ولكنهما مع ذلك يحتاجان للابتعاد من وقت لآخر كي يشعر كل منهما باستقلاله وخصوصيته وتفرده وحريته، وبين هذا وذاك درجات بينية من القرب والبعد تتحدد بحالة الطرفين وتستجيب لاحتياجاتهما المتغيرة والمتقلبة.
ويخطئ كثير من الأزواج والزوجات حين يعتقدون أن الحياة الزوجية تعني القرب دائما والحميمية طول الوقت على المستوى الجسدي والعاطفي، فترى أحدهما يحيط بالآخر ويقترب منه حتى يشعره بالاختناق أو النفور، والبعض الآخر يبتعد بشكل دائم حتى تنقطع العلاقة أو تكاد. وهناك بعض الأزواج كانت حياتهما الزوجية مهددة بالطلاق حين كانا معا في بيت واحد، وحين جاءت فرصة لأحدهما للسفر بعيدا من أجل الدراسة أو العمل ضعفت فكرة الطلاق واستمرت العلاقة بينهما وكانت أفضل على البعد.
والأمثلة الشعبية تؤكد هذه المعاني ونذكر منها:
"البعد جفا".... "البعيد عن العين بعيد عن القلب".... وهنا تحذير من البعد المؤدي للقطيعة، ثم يدعو إلى درجة من البعد تؤدي إلى تنشيط المحبة: "ابعدوا تتحبوا"..... "ابعد حبّه تزيد محبه"..... "إن كان حبيبك عسل ما تلحسوش كله".
وقد تزداد محبتنا لإنسان بعد أن يموت كما يقول المثل الشعبي "اللي ماتوا صاروا أحباب"... وكأن حياته وقربه وحضوره كان عائقا للحب أو مهددا لنا فلما اطمأننا لموته كنا قادرين على الإحساس بحبه أو بحب جوانب فيه كانت تحجبها جوانب أخرى تظهر في حياته. وهذا ليس فقط على مستوى الأفراد بل على مستوى الجماعات، فكثير من المبدعين والمفكرين والمصلحين لم ينالوا التكريم والاعتراف بفضلهم وريادتهم إلا بعد وفاتهم أو دخولهم في حالات مرضية شديدة، وبعضهم نال الجوائز الرفيعة وهو على فراش الموت.
0 التجنب، وهو تحاشي التعامل قدر الإمكان مع الشخص الذي فشلت معه كل استراتيجياتنا السابقة، ودائما يحدث فشل في تعاملنا معه يؤدي إلي إيذائنا أو إيذائه، ويؤدي إلى تراكم مشاعر سلبية تجعل العلاقة تؤل إلى مستويات أدنى، هنا يتوجب التجنب المؤقت على الأقل لمحاولة إعادة الفهم وقراءة واقعنا وواقع الشخص الذي نجد صعوبة في التعامل معه أو العثور على مفاتيح لشخصيته تسهل الولوج إلى عالمه بشكل هادئ، فإذا نجحنا في ذلك فلا ضير في أن نعاود التعامل مستعينين بالمعطيات الجديدة، أما إذا فشلنا فليكن التجنب وسيلة لتفادي الصراع لحين إشعار آخر.
متطلبات العلاقة السوية:
العلاقة السوية تضمن الحرية لكلا الطرفين فلا يطغي أحدهما على الآخر ولا يسلبه خياراته.
والعلاقة السوية تضمن أن يظل لكل طرف كيانه المستقل فلا يلغي أحدهما الآخر أو يبتلعه مهما كانت الدوافع والنوايا.
والعلاقة السوية تعطي للآخر فرصة أو فرصا للتنفس والتنفيس الحر بمعنى أن لا تكون علاقة خانقة ومعوقة للحركة قربا وبعدا.
والعلاقة السوية هي علاقة مرنة تناوبية نابضة أي تقوى أحيانا وتهدأ أحيانا أخرى، وبمعنى آخر فهي ليست علاقة مشتعلة طول الوقت أو فاترة طول الوقت. ونستطيع أن نتخيلها في صورة دوائر تتباعد وتتقارب بدرجات متفاوتة وبسرعات متفاوتة طول الوقت.
والعلاقة السوية هي علاقة اعتماد متبادل فكل طرف يأخذ ويعطي في هذه العلاقة، وبمعنى آخر هي ليست علاقة اعتمادية يتكئ فيها طرف على الآخر طول الوقت.
والعلاقة السوية تتميز بأنها علاقة دينامية حركية وليست استاتيكية جامدة بمعنى أن كل طرف يراعي ويحترم احتياجات الطرف الآخر في الأوقات المختلفة ويكون جاهزا للتعامل معها بالقدر المطلوب وبشكل يقظ ونشط. فكثير من الناس يخطئون حين يحاولن إقامة العلاقات مع الآخرين بشكل ثابت أو بأسلوب لا يتغير على الرغم من أن الإنسان بطبيعته كائن متغير وحاجاته بالتالي متغيرة، لذلك فتثبيت الصورة أو تثبيت الأسلوب والطريقة ضد الصحة النفسية. ولدينا نموذج في رعاية النباتات، فلو أن لديك في منزلك نباتات للزينة فأنت تسقيها بالماء على فترات تختلف حسب نوع النبات، وإذا حاولت أن تغمرها بالماء كل يوم لماتت، ولكنك تناوب بين الارتواء والعطش كي يظل النبات في حالة جيدة، والإنسان كذلك يحتاج للتناوب بين الإشباع والحرمان.
والعلاقة السوية ليس فيها ذلك التداخل الاعتمادي أو الابتلاع الذي يحدث بين الجوعى للحب بشكل مرضي.
وفي كتاب "النبي" كتب الشاعر جبران خليل جبران يصور العلاقة الزوجية المتوازنة بين القرب والبعد، بين التوحد والاستقلال، بين الامتزاج والتحرر:
لقد ولدتما معا تظلان إلى الأبد
ومعا تكونان حينما تبدد أيامكما أجنحة الموت الشهباء
نعم تظلان معا حتى في ذاكرة الله الكتوم
ولكن دعا الفسحات تفصل بين التصاكما
ودعا رياح السماوات ترقص بينكما
وليحب أحدكما الآخر، ولكن لا تجعلا من الحب قيدا
وليكن حبكما بحر يتهادى بين شاطئي روحيكما
وليملأ أحدكما كأس رفيقه.. وحذارِ أن تشربا من كأس واحدة
وليعط أحدكما الآخر من رغيفه.. وحذارِ أن تأكلا من رغيف واحد
غنيا.. وارقصا.. واطربا.. معا.. ولكن ليحتفظ كل منكما باستقلاله
فأوتار القيثارة يمتد كل منها مستقلا عن الآخر، وإن كانت تنبض جميعها بلحن واحد
ولتقفا معا ولا تتلاصقا
فإن أعمدة المعبد تقوم كل منها مستقلة عن الأخرى
ويقول الله تعالى في وصف العلاقة السوية بين الزوجين: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"(الروم:21)....... فالسكن إليها يعني أنه كانت هناك حركة سابقة بعيدة عنها.... والمودة تعبر عن كل معاني الحب والقرب في حالة الرضا.... والرحمة تعبر عن الرفق والتسامح والتغاضي عن الزلات وتقدير الضعف الإنساني ويغلب أن يكون ذلك في حالات الاختلاف.
والقرب الشديد قد ينتهي بالبعد الشديد، والحب الشديد قد ينتهي ببغض شديد ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم موجها نظرنا إلى التوسط في العلاقات والسيطرة الواعية عليها: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما".... وعلى الرغم مما قام به عمرو بن هشام (أبو جهل) وعمر بين الخطاب من إيذاء النبي والمسلمين إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحتفظ في نفسه بقدر من العلاقة يسمح له أن يدعو بأن يعز الله الإسلام بأحد العمرين فيستجيب الله لدعائه ويسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويعز به الإسلام.
والعلاقة السوية في النهاية لها جناحان: جناح قلبي ينبض وجناح عقلي يضبط.
واقرأ أيضا:
نجح العقل القطري وفشلت الفهلوة المصرية / فتنة الجامعة... لا إقالة ولا استقالة