رجل الأمن مواطن عادي تحول إلى مواطن غير عادي، صارت علاقته مع المواطنين العاديين ومع الوطن ملتبسة متشابكة مربكة ومرتبكة.
وبعد 25 ثورة يناير طالب الناس جميعاً بضرورة فحص العلاقة بين رجل الأمن وبين الناس جميعاً، ليس فقط سبباً ما شاب تلك العلاقة من تشوه صارخ وصريح، خاصةً في جناحي (الأمن المركزي) و(مباحث أمن الدولة) وبالطبع القيادة الأمنية والسياسية اللتان لم تنفصلا أبداً وكان كل منهما يغذي الآخر بالذخيرة والضغينة والإفساد والمال.
وبدون تعميم.. نحن أمام حالة خطيرة محتقنة لم يكن لرجل الأمن ـ بصفته الشخصية ـ أي عذر فيها لكن ما يمكن قولة انه منهج وسياسة دولة بوليسية، وفكر وشخصية رجال أمن من المفروض أن تكون وظيفتهم الأولى الحفاظ علي أمن الوطن والمواطن، بمعنى أن ما حدث في الحقبة الماضية لم يكن مجرد تجاوزات، لكنه كان سياسة مؤسسة لها منهج محدد تبدأ في أكاديمية الشرطة وتنتهي في أقسام الشرطة، في الشارع والميدان، وفي مكتب وزير الداخلية وفي جهاز أمن الدولة مُتضمنةً كافة العوامل والاعتبارات.
ولأن الموضوع جدّ خطير وله انعكاسات كبرى علي حياة الناس في ترحالهم ومعاشهم، نومهم ويقظتهم، عملهم وصحتهم، وفي حقهم الطبيعي في الاعتراض والتحدي، وأهم من كل ذلك في الحفاظ علي كرامتهم وإنسانيتهم التي أهدرت أيما إهدار، لهذا فسوف نحلل الأمر ونتناوله من كل اتجاه ومن كل زاوية حتى نفيد ونستفيد، ونفعل كل هذا لخير هذه الأمة.
رجل الأمن إما (أمن عام) أو (أمن دولة) أو (أمن مركزي) أو جهاز الرقابة علي الانترنت، جهاز مكافحة الإرهاب والمخدرات، أو في مصلحة السجون، أو الفروع الأخرى كالجوازات والمرور والمرافق وغيرها (وعموماً كله يصُب في بعضه البعض، سلباً وإيجاباً).
كلٌ حسب رتبته وشخصيته، ثقافته العامة والخاصة، تدرجه الوظيفي، وضعه النفسي والعائلي والمادي، احتياجاته، وكذلك زيِِِّه الرسمي.
الأمن العام يستمد كثيراً من سلطته من رتبته، فالنجوم لها صفة، حتى لو كانت مختفية تحت البذلة المدني ـ في حلات المباحث العامة، وأمن الدولة.. (محاولة إثبات الذات حتى درجة النقيب)، وبعد أن يبدأ النسر في الظهور تبدأ محاولات تأكيد الذات، صوتاً جهوراً، ألفاظاً نابية وكذلك مدّ اليد باللطم على الوجه والقفا، الركل، الشخط (بسبب وبدون)، وذلك لمرؤوسيهم وبالطبع للناس جميعا، تحديداً ضحاياهم، والبقال والفكهاني، سواق التاكسي وأي عابر طريق، بالتطاوس ورفع الكاب ووضعه علي مقدمة السيارة، بحمل السلاح، بإطلاق النار (رصاص حيّ أو خرطوش أو مطاطي، حسب الموقف وحسب الأمر المُطاع) أو بالهراوة الحديدية على الرأس أو الجسم بالترويع بالتهديد والترغيب، كلٌ حسب نفسيته وحسب الموقف، حسب رتبته وتربيته، أدبه وفهمه لحقوق الإنسان.
غير أن أخطر تلك الأمور قاطبةً، هو ذلك التحالف المُريب وغير الشريف ـ إطلاقاً ـ والغريب جداً بين رجل الأمن (المواطن غير العادي)، والمواطن المُجرم (المسجّل خطر، البلطجي، الفتوة، الصايع، وكذلك تاجر المخدرات صغيراً كان أم كبيراً).
بمعني أن رجل الأمن (الذي من المفروض أن كل وظيفته حفظ الأمن)، يستخدم ويستغل المجرم (للعفو عنه)، بإعطائه صلاحيات (تزيد من إجرامه ومن سطوته وسلطته لترويع المواطنين)، إما بشكل مباشر في الهجوم علي المعارضين، أو بإحداث بلبلة وسط المظاهرات، بالإرباك ونشر الفوضى والذعر، بشدّ الانتباه بعيداً عن الشأن السياسي (مثلما حدث من فتح مفاجئ للسجون وإطلاق سراح السجناء بمن فيهم اللصوص والبلطجية وقطاع الطرق وقادة البغال والجمال)، في محاولة لإجهاض ثورة يناير 2011 بترويع الآمنين في بيوتهم وإقصاء الشباب عن نضالهم المشروع، لكن هذا المشروع فشل فشلاً ذريعاً، ببساطة لأن الحاكم كان غبياً قصير النظر لا يعرف شعبه ولا يفهمه؛ ومن ثم فان رجل الأمن (عبد المأمور) الذي هو (عبد الرئيس والوزير) في تحالفه مع (رجال الأعمال) ومع (بلطجية) كانوا وجوهاً لعملات مختلفة سقطت في بالوعات الطريق، وتشرذمت كأسراب الجراد الخائف من الصوت والهتاف، الإصرار والعناد.
رجل الأمن مواطن عادي ابن مواطن عادي، إلاّ إذا كان كما هو الحال لدى الكثيرين ابن لواء سابق أو حالي (أي ربما أباً عن جد سليل مواطنين غير عاديين)، بدون تعميم يتعامل مع المواطنين بأسلوب واحد يتسم بالفظاظة والفجاجة وأحيانا سوء الخلق، إلاّ إذا كان المواطن العادي بنت أو امرأة أو شاب له ظهر، أو أن هاتفه المحمول يمكنه مع الحديث مع العم أو الخال والمثل الشعبي خير دالّ علي ذلك (يابخت من كان النقيب خاله).. أحياناً ما تكون هناك علاقة نفعية بين رجل الأمن وبين المواطن (ينتفع فيها رجل الأمن بقضاء مصلحة، بالحصول علي تسهيلات، بالتميز في العثور علي شقة رخيصة أو مجاناً، أو بالعلاج لدى أفضل الأطباء دون أن يدفع، أو بتلقي الهدايا، إلى آخر القائمة التي تنتهي بعشرين جنيهاً ـ كحد أدنى ـ في اليد للعسكري أو الأمين، والنكتة تقول أن أمين الشرطة المفترض كان له والدان رسبا في الامتحان فعاقب أحدهما بالضرب والسب والإهانة وترك الثاني قائلاً له، المرة القادمة لازم تذاكر، ولما سأل الأول أخيه الثاني المضروب عن سر التفرقة في المعاملة، ضحك وقال ساخراً (ببساطة أعطيت أبي ـ أمين الشرطة ـ الشهادة الراسبة وداخلها ورقة بعشرين جنية).
ويتعدى الأمر كل ذلك من فساد إلى حدّ اقتسام المخدرات (عادة الحشيش)، مع المضبوطين على قارعة الطريق أو (سرقة نصف الحرز قبل وصوله للنيابة، بيعه، أو استخدامه، مما يفسد القضية) أو إرسال سائق التاكسي في مهمات للزوجة مجاناً، وفي أحوال أخرى يمشي الحال بكروت شحن تختلف فئتها حسب الموقف والمكان والمتهم المسكين (كثير من الخبثاء يدعون أن العساكر وأمناء الشرطة في كمائن المرور يقتسمون الغنائم مع الباشا الجالس على الكرسي هناك يتظاهر بتفحص الأوراق)، ناهيك عن معاكساتهم المفضوحة للبنات والنساء على الطرق السريعة والبطيئة وتوقيفهم دونما سبب، التمحك فيهم لتبادل أرقام الهواتف معهن حتى يكون هناك مجال لتبادل الخدمات، مرةً أخرى ـ حسب الموقف والمكان والمكانة ـ وبالطبع الحُسن والوسامة.
همس أحد لواءات الشرطة الذين طلعوا معاش مبكر إلى صديق له بأنه تعب للغاية حتى أقنع ابنه بدخول أكاديمية الشرطة، دخلها وتخرج منها وتوسط له حتى لا يحتك بالشارع الذي فيه زملاؤه الضباط والأمناء والناس العاديين، لكن الولد كان متمرداً فخلق مشاكل أدت إلى نقله من مكانه المُرّفه إلى وسط البلد حيث الغوغاء وحيث زملاءه من رجال الأمن (رؤساء ومرءوسين)، كان الابن ساعتها نقيباً (يعني ثلاثة نجوم)، أصابه الاكتئاب الشديد ورفض الذهاب إلى الخدمة ورفض لبس البذلة الميري (رمز العزة والسطوة والسلطة)، وكان يخفيها في كيس بلاستيك ذاهباً القسم في ملابسه المدنية، يبدّلها هناك ويمضى خجولاً من كونه ضابط شرطة!! كان أحياناً يبصق على الزي ويلعن المهنة ويخجل أشدّ الخجل من سلوكيات زملائه (استنطاع، شرب شاي وقهوة وعصائر مجاناً، أكل ساندوشات على حساب صاحب المحل، شتيمة وتهزيئ في الناس).. كل ليلة بعد ذهابه لعمله الذي يتصور الناس أنه محسودٌ عليه، كان يبكي ويلعن اليوم الذي صار فيه ضابطاً في وطن أسيئ فيه لرجل الأمن وللأمن بشكل عام فأصبح الزي وصارت المهنة مكروهة من رجالها ـ ناهيك عمن لحقوا أنفسهم وخرجوا بدري ليعملوا في سلك المحاماة، النيابة والقضاء الإداري، (في نفس الإطار رفض لواء بالخدمة أن يزوج ابنته لأي أحد يرتدى تلك البذلة المُرصعة بالنجوم أو حتى إذا زادها النسر، وقال لأخيه هو أنا مجنون أزوج بنتي من ضابط، أنا أدرى الناس بهم، وقال آخر في المقهى لصديقه المدني إني ألعن نفسي كل يوم وألعن كل لحظة التصق فيها اسمي بجهاز أمن الدولة!!).
إذن هي ثقافة جهاز الأمن، التي تستقي ثقافتها من ذلك الخوف الشديد من الرئيس (صرّح أحد أعضاء مجلس الشورى السابقين، أنه يوم يلتقي بهم الرئيس السابق، يكون نهاراً أسود بمعنى أنهم ينتظرون في القاعة قبل مجيئه بساعتين على الأقل، ثم يتم تفتيشهم ذاتياً، وعند دخول الرئيس يحلّ بالكل رعبٌ شديد، وإذا طرفت عين ضابط الحرس الجمهوري؛ فإن هذا يعني مصيبة شديدة، تلك الثقافة التي تخاف وتُخيف، يتدوّر الخوف ككرة ثلج تتدحرج على أرض الوطن، تصغر وتكبر بالأحداث، بالظرف بالوضع السياسي، بالتحالف مع رأس المال القذر، بالفساد وهكذا تكون الدولة الفاسدة الخائفة ضعيفة يسهـُل حكمها؛
وهكذا فإن رجل الأمن يصبح رجل الخوف (البعبع، الفزّاعة، عصا السلطان وصولجانه)، ويصبح المواطن العادي عادياً لا حول له ولا قوة، قد يموت مثل (خالد سعيد)، وقد يعيش منتهك النفس أو العرض أو كليهما، وتصبح وجوه رجال الأمن كلها شبه بعضها، مع اختلاف بزّاتهم الرسمية ويصبح أسلوبهم تقريباً واحد حتى في الكلام، أسلوبٌ فيه استعلاء (إحنا أسيادكم) (من يتطاول على سيده نقطع له إيده، كنتم تولولون من غيرنا، نحن حماة الوطن ـ من بعض تصريحات مدير أمن البحيرة السابق في لقطة فيديو (شكراً للتكنولوجيا)، بثتها قنوات (اليوتيوب) و(الفيس بوك)، في كل مكان بالصوت والصورة، له وهو يقف وسط أعوانه يدخن سيجارة. وفي الحقيقة أن ذلك الفيديو كليب معبر للغاية فهو يصور رجل أمن، مدير أمن ضعيف الحُجة، قليل الحيلة، كما يقول العامة (جعجاع) (بُق فقط)، يحاول جاهداً أن يستعيد شأنه مندداً بأي محاكمات ستكون مع قيادات الداخلية السابقة التي قتلت المتظاهرين بالرصاص الحي، وجاء الردّ من الجماهير معبراً راقياً حضارياً للغاية، تجمعوا حول مقر عمله (مديرية أمن البحيرة) من شتى الطوائف وبكافة الأزياء، رجال ونساء، شباب وكهول، صاحوا وصرخوا ضد الفساد ثم غنوا في صوت واحد النشيد القومي للوطن (بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي).
إذن سيبقى الوضع على ما عليه، أضيف إليه بعد الثورة أن كثير من الناس (خاصة الذين عانوا قهر الشرطة).
لابد من إعادة تفكير رجال الأمن من تغير أسلوبهم ومحاولة إبعاد الخوف الذي اعتراهم من المواطنين العُزّل، اللذين يحملون رصيداً من الكراهية والبغضاء والإحساس بالعنف والقسوة تمتلئ به صدورهم.
لن يتخلى رجال الأمن عن شكل تعودوا عليه بسهولة، واستمر لفترة طويلة من الممكن اختصارها ما بين الفعل ورد الفعل بين الطرفين، لابد من ردم الهوة وتضييق الفجوة بين رجال الأمن (المواطنون غير العاديين) بأن يصبحوا (مواطنين عاديين)، وظيفتهم حفظ الأمن، زيهم الرسمي (رسمي)، فقط لا غير، سلاحهم (للمجرمين والقتلة وأعداء الوطن وليس أعداء أي نظام أو أي حزب).
علينا أن نجتمع سوياً في مجموعات صغيرة، تكبر وتصغر، مجموعات تسمح بالرأي والرأي الآخر، بإخراج الطاقة الانفعالية، بالبوْح الحرّ والتداعي الطليق، بإطلاق شحنة الغضب، برفع الظلم، بأن يلعب كل منا دور الآخر، يلبس حذاءه ويضع نفسه مكانه.
إن إصلاح الأمر ليس بمستحيل، وتغيير أحوال الشرطة بكافة فروعها ليس بمعجزة، لكن لا بدّ من الصدق والأمانة وإثبات حسن النية وتقديم المعتدي والظالم للعدالة، لا بدّ لجمعيات حقوق الإنسان وللمحامين أن يتواجدوا في أقسام الشرطة، لا بدّ من رقابة وزارة العدل علي الأقسام وأماكن الحجز، ولابدّ أيضاً للمواطن غير العادي (في زي النيابة) أن يبتعد قدر إمكانه عن الأهواء الشخصية، ولا أن يخلع جاكت بذلته وهو مسافر بالقطار حتى يرى الجميع (طبنجته) فهو سيف الحق وميزان العدالة بدون سلاح.
لا بد من صفاء الجو، الشفافية في سرد الحقيقة، أن تكون أول الأمور في العلاج النفسي للوطن المجروح، للمواطن العادي في زى الشرطة وفي لباسه العادي وفي حياته اليومية، للطفل للجيل القادم وبالطبع لمصر (الجديدة) التي أشاد بها العالم.
واقرأ أيضاً:
ثورة 25 يناير ومكامن الخطر/ الفاسدون وراثة أم تربية؟/ علاج الاستبداد/ دروس الانتصار/ كنت في التحرير.. لستُ أمّك!!/ صحيح مبارك كان كابوس وانزاح