هذا المقال كُتب بتاريخ 14/نيسان/2003 ، ولم يُعجب القيادة السورية في حينه، لكن الزمن يُثبت تفوق الأكاديميين على السياسيين!!
يدخل الوطن العربي الآن مرحلة تاريخية جديدة ستنبثق معالمها تدريجياً مع الأيام وحسب الجهود التوجيهية التي تبذلها القوى المعنية. قوى متعددة ستتنافس على صياغة مستقبل العرب تقع على رأسها قوتان وهما القوة الأمريكو ـ إسرائيلية بذيلها الإنكليزي، وقوة الإرادة الشعبية العربية. تمتلك الأولى مقومات الهيمنة والصياغة لما لديها من قدرات عسكرية ووضوح في الرؤية ورغبة في التنفيذ، ولما لديها من عملاء ومتعاونين عرب على المستويين الرسمي وغير الرسمي. أما القوة الثانية فعبارة عن طاقة وضعية إلى حد كبير تنتظر من يُفجرها ويقودها نحو رؤية واضحة تُخرج الأمة من التيه والضياع ومن والإذلال الذي يسحق كيانها ليل نهار.
لا تُخفي القوة الأمريكو ـ إسرائيلية نواياها ولا تخجل من أفعالها أمام العالم، ولا تتوقف القوة الثانية عن التحرق غير قادرة على الحيلولة بين قلوبها ومرارة الهزائم. تبحث الجماهير العربيـة عن قيادة تسـتثمر طاقاتها من أجل الأمـة ومسـتقبلها ورفعتها، لكنها لا تجد سـوى بعض مثقفين ومفكرين يُعبرون عن مآسـيها وأحزانها على شـاشـات التلفاز أو على صفحات الجرائد. حتى أن هؤلاء المفكرين والمثقفين لم يرتقوا حتى الآن إلى درجة التعاون فيما بينهم من أجل تشكيل عنوان يستقطب الناس ويشحذ إرادتهم وعزائمهم. دور الجماهير لا يقتصر على التظاهر المتواضع والموسمي دفاعاً عن قضية أو رفضاً لقضية، وإنما يرتقي ليكون الحِصن الحقيقي للأمة الذي لا يمكن اختراق تماسكه وصلابة مقاومته لمختلف الأخطار. فمن المرشح الآن لهذا الدور القيادي؟
سوريا هي المرشحة! إنها مرشحة للغزو أو للضغوط المتنوعة لما تتمسك به من مواقف وسياسات ومرشحة للقيادة لذات الأسباب. من الصعب أن تقوم أي من الدول العربية الأخرى بالمهمة لأنها لا تملك المقومات القيادية ولا المواقف التي يمكن أن تلتف حولها الجماهير، ومن الصعب أيضاً أن يستقطب حزب أو حركة أو تجمع الجماهير لأسباب تتعلق بظروف التجزئة العربية والاستبداد والتنافر بين الأنظمة. تُشكل لبنان قاعدة عربية متقدمة بسبب نظام الحريات السائد لديها ولما أثبته الشعب اللبناني من إصرار على طرد الاحتلال الإسرائيلي والالتزام بالقضايا العربية، لكنها لا تمتلك تلك المقومات الجغرافية والسكانية والعسكرية للقيادة. علما أنني أشك فيما إذا كانت للبنان تطلعات لقيادة الجماهير العربية.
هناك ارتياح كبير في الشارع العربي، وكما ألمس عبر مختلف النشرات والمقالات واللقاءات التي أطلع عليها لمواقف سوريا السياسية ولما تُبديه من ثبات في مواجهة (إسرائيل) ومن حِرص على المصالح العربية. لكن وبدون دبلوماسية لا توجد قناعة بأن نظام الحكم القائم في سوريا يُشكل البيئة المناسبة لقيادة الجماهير وتوجيه جهودها نحو مواجهة القوة الأمريكو ـ إسرائيلية ونحو رفعة الأمة وتقدمها ووحدتها. إنه نظام صاحب مواقف لكنه ليس صاحب تآلف. ولا أعتقد أن من يقولون هذا يهدفون إلى التجريح وإنما إلى التحديث الذي بدونه لا يمكن الانطلاق.
الحريـة أسـاس الإبداع، والمشـاركة أسـاس الإنجاز. هاتان قاعدتان بسـيطتان في العلم السـياسـي ولا تحتاجان إلى فلاسـفـة أو منظرين للوقوف عندهما من أجل التطبيق. لكنهما قاعدتان في غايـة التعقيد في علم التسـلط. العبيد لا يُحررون، والأدوات لا تسـتطيع حمل مسـؤوليات مالكها. تُعاني سوريا من غياب الحريات التي تفتح الباب أمام العمل الجماعي والتعاون المتبادل وأمام التنظيم الحزبي والمدني والمشاركة الشعبية على أوسع نطاق. هذا لا يعني أن الدول العربية الأخرى تستظل بالحريات لكنها ليست هي المعنية بالخطاب.
إذا فتح النظام السوري أبوابه أمام المشاركة الجماهيرية فإن في ذلك فرجاً ليس للشعب العربي السوري فقط وإنما لكل الجماهير العربية. وهذه دعوة لا تأتي بسبب الدعوات الأمريكية نحو "دمقرطة" الوطن العربي، وإنما بدوافع عربية يحرص عليها الجمهور العربي في كل مكان. أمريكا لا تريد أن تُقيم ديمقراطية في الوطن العربي ولا ترغب في أن ترى عربياً حراً، إنما هي تبحث عن "ديمقراطية" مفصلـة حسـب مصالحها وأهوائها. نحن أبناء العرب الذين نبحث عن الحرية ونريد أن نرى أنفسنا أحرارا في أوطاننا نحمل أنظمة الحكم كما تحملنا ونُدافع عنها كما تُدافع عنا وتحمي أوطاننا كما نحميها بدمائنا. نحن مشتاقون إلى يوم يقول فيه المرء كلمته دون وجل أو خوف وبدون أجهزة مخابرات ورصد وعيون وجواسيس، وإلى اليوم الذي يحمل فيه فأسه في بناء الوطن وبندقيته لدى ساعده يتناولها عندما يحل الخطر.
المأسـاة تحل على رأس العربي ولا يكاد يصحو من وطأة الهزائم التي تُحيط به داخلياً وخارجياً. أجهزة المخابرات العربيـة تخنقـه وحذاء (إسـرائيل) وأمريكا يُفتت شـرايين رقبتـه. هكذا عربي لا يصلُح للحرب ولا للسـلام، ولا يصلُح للبناء أو التقدم؛ إنه فقط مؤهل للهزيمـة! وإذا كان هناك من يظن أن الجيـش هو الذي يبني ويُدافع فإن عليـه ألا ينسـى أن الجنود هم أبناء هذه الشـعوب المقموعـة التي لم تسـتطب يوماً طعم الانتماء الحقيقي الفاعل الذي يرتكز على المبادرة والتعاون مع الآخرين.
قوة الأمم ليسـت في قوة جيشـها أولاً، وإنما بقوة شـعوبها التي يأتي منها عناصر الجيـش! لا أشـك أن الدبابـة مهمـة وكذلك الطائرة، لكن من المحتمل أن يتخلى الجندي عن أداتـه العسـكريـة إذا رأى أن حياتـه أهم من القضيـة التي يُقاتل من أجلها! ولهذا تحرص الأمم الناجحـة أن يكون ولاء أبنائها للأمـة ككل ولقضاياها العامـة التي تُشـكل بؤر اسـتقطاب. أما الأمم الفاشلة فتحرص على شخصنة القضايا مما يسلب الأبناء رغبتهم في الإخلاص والحرص على ما هو عام. وقد ثبت في حالات تاريخية عديدة أن انتصرت الأمم ذات الإرادة على الأقوى منها عسكرياً، وأن هزمت أمم ضخمة خاوية الإرادة أمام قوى صغيرة.
ما هو مطلوب من سوريا الآن هو تحويل مشاعر الانتماء العربية والرغبة في رصِّ الصفوف إلى واقع وذلك بتأميم النظام السياسي وإخراجه من البوتقة التقليدية العربية الضيقة التي تعتمد الشخصنة أو الحزبنة القبلية. من الممكن إجراء تغييرات سياسية واسعة بحيث يتسع النظام السياسي لكل الشعب السوري بأفراده وفئاته وأحزابه، ويتسع أيضاً لمختلف الطاقات العربية الراغبة في المساهمة في بناء القوة العربية على مختلف أوجهها.
ستكسب سوريا إن أقدمت على خطوة جريئة من هذا القبيل وستكسب الجماهير العربية. ستنهض سوريا ثقافياً وعلمياً لأنها ستستقطب المثقفين والمفكرين والعلماء والأدباء، وستتحول المدن السورية إلى مراكز للنشاط العلمي والأدبي وستُصبح الجامعات السورية قادرة على استقطاب أكثر العلماء العرب كفاءة وقدرة علمية وإدارية. وستستقطب كذلك رؤوس الأموال العربية المنتمية لقضايا الأمة لتصنع واقعاً اقتصادياً متقدماً قادراً على المنافسة ودعم الخزانة السورية. ومن الناحية العسكرية ستجد سوريا أن جيشاً من رجال المقاومة الشعبية الراغبين في الجهاد يتطور تدريجياً لديها ليردف الجيش السوري النظامي.
هناك مشاكل ستُواجهها سوريا بالتأكيد إذا اختارت طريقاً جديداً عملياً يُجسد التآلف ويحترم حرية الإنسان العربي بخاصة من قِبل الولايات المتحدة وعدد من الأنظمة العربية. أمريكا تعتبر الحريـة العربيـة خطراً على مصالحها وعلى المصالح والأمن الإسـرائيلي. سـيُصبح العربي مع الحريـة أكثر شـجاعـة وأكثر قدرة على التنظيم والتفاعل مع مصالح الأمـة ككل، وبالتالي سـيُصبح مبادراً ومسـتعداً لتقديم التضحيات في مواجهـة الاعتداءات والضغوطات. أمريكا تريد إنسـاناً عربياً طيّعاً على نمط ذلك الإنسـان الذي تصنعـه المؤسـسـات غير الحكوميـة المدعومـة أمريكياً؛ إنها تريده "حراً" بمعنى البحث عن الملذات والمصالح الشـخصيـة، ولا تريده حراً بمعنى الالتزام بقضايا الأمـة والتضحيـة من أجلها. حريتـه، بالنسـبـة لأمريكا، تتمثل مثلاً في الطلاق بينـه وبين الإسـلام، وحتى بينـه وبين التاريخ الإسـلامي؛ وفي الاغتراب عن قضايا الأمـة لصالح قيم العولمـة ومسـتجدات التقنيـة الأمريكيـة..!!!
أما الأنظمة العربية الأخرى فلن تكون مرتاحة لأن سوريا تكون قد خرجت عن السرب والتقاليد القمعية. لكن هذا من الممكن التقليل من أخطاره بوسيلتين: تفادي التصادم وترك الأمور على عواهنها الشعبية لتؤثر تدريجياً على وضع الأنظمة أمام شعوبها.
أما من الناحية الأمنية فهناك بالتأكيد تحفظات لأن أجهزة المخابرات المختلفة ستُحاول النفاذ واستغلال أجواء الحريات لزرع عناصرها. يتطلب هذا بالطبع إعادة صياغة المعايير الأمنية والإجراءات والأدوات، لكن الأهم هو أن أجواء القهر تُعتبر تاريخياً مناخاً أكثر خصوبـة للجواسـيـس من أجواء الحريـة. القهر يهزم الإنسـان فيدفعـه إلى السـقوط، أما الحريـة فترفع من قيمـة الإنسـان فتدفعـه إلى المحافظـة على احترامـه...
ما أطرحه هنا هو ليس عملاً تكتيكياً مؤقتاً لمواجهة المرحلة، وإنما من المفروض أن يكون جزءاً من استراتيجية لبناء الأمة على أُسس جديدة ونحو أهداف واضحة. وهو ليس مجرد رد فعل على ما جرى في العراق وإنما عبارة عن رؤية تم نقلها على مدى سنوات إلى سوريا من قِبل العديد من المثقفين العرب عبر المقالات والمؤتمرات وجلسات الحوار... إلخ. لقد كبحت سوريا رغبتها في التحول عبر السنين السابقة إلى درجة كبيرة، لكن الأمل يبقى في استئناف التحول بوتيرة أكثر شجاعةً وعمقاً.
اقرأ أيضاً:
الحذاء العظيم/ الماسونية تغزو فلسطين/ لا سيادة لمصر/ عكا ووحدة الشعب الفلسطيني/ انتصارات إسرائيل قد ولّت/ الانقلاب الثقافي الفلسطيني