التنشئة الأسرية الموجهة نحو الصلاح الإنساني1
مفهوم الصحة النفسية للطفل:
تراكمت في السنوات الأخيرة معلومات مفيدة حول أفضل الوسائل للوصول إلى الصحة النفسية للطفل وعلاج الاضطرابات النفسية لديه, ولقد توصل العلماء إلى أن الصحة النفسية هي مفهوم إيجابي متعدد المستويات يكون فيه الإنسان صحيحاً على المستوى الجسدي ثم على المستوى النفسي ثم على المستوى الاجتماعي، ثم على المستوى الروحي، إذاً فهو مفهوم متعدد المستويات لابد أن يكون في حالة توازن ما بين إشباع هذه المستويات وتنشيطها، فلو بالغ أحدهم في إشباع الجانب الجسماني على حساب الجانب النفسي أو على حساب الجانب الروحي، فبالتالي يكون قد أخل بالتوازن، ويصبح غير صحيح نفسياً.
قواعد الصحة النفسية للطفل:
وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص وحاولنا الإجابة على تساؤل أحد الأمهات (أو الآباء): كيف أتعامل مع ابني لكي يصبح صحيح نفسيا؟
والإجابة على هذا التساؤل الهام تتمثل في اتباع القواعد التالية:
1- التوازن بين التطور والتكيف:
هناك قاعدة تربوية هامة يمكننا اعتبارها قاعدة ذهبية في هذا المجال، وهي أن الطفل كائن نامي، ينمو كل يوم، ينمو في جسده وفي تفكيره وفي طاقاته وفي إدراكه وفي كل شيء، فهذا الطفل النامي يتغير من لحظة لأخرى ومن يوم لآخر، وفي ذات الوقت يحتاج مع هذا التغيير المستمر وهذا النمو المطرد أن يكون في حالة تكيف وانضباط وسلام مع البيئة والمجتمع المحيط به، وبهذا سنقول أن هذا الطفل لكي يكون صحيح نفسياً ونطمئن عليه، فلابد أن يكون هناك توازن بين متطلبات نموه وتطوره ومتطلبات تكيفه مع المجتمع والحياة.
ولكي نرى هذا المفهوم بشكل أوضح، سنفترض أن هناك كفتين، الأولى كفة التطور والثانية كفة التكيف، ولكي يكون الطفل صحيح نفسياً، لابد من حدوث توازن ما بين هاتين الكفتين، فلو تخيلنا أن كفة التطور زائدة عن كفة التكيف أو أصبحت هي الحائزة على الاهتمام فسيتطور الطفل وينمو بسرعة في جسمه وفي ذكائه وفي تفكيره وفي كل شيء يخصه، ولكن – وبالمقابل – ليست له علاقة بالمجتمع الذي يعيش فيه ولا يتكيف معه، فهو في حالة تطور مطلق بدون قيود، وإذا ترك بهذا الشكل سيصبح أنانياً ولديه حالة نرجسية شديدة ولا يفكر إلا في نفسه ونموه وتطوره، وفي النهاية سيكون مدمرا لمن حوله ولنفسه أيضاً وفي حالة صراع دائم مع البيئة التي يعيش فيها، برغم كونه متطورا وناميا ومبدعا.
وعلى العكس، إذا كان هناك طفل آخر متكيف بدون تطور، بمعنى أنه مطيع جداً، هادئ جداً، ولا يفعل شيء إلا بأمر من الأب أو الأم، ويحتاج لأمر آخر ليوقف هذا الفعل، فهو مطيع تماماً لكل ما يأتي إليه من أوامر وتوجيهات وليست له أي حركة تطور أو نمو أو تفكير أو إبداع أو أي شيء.
هذا الطفل في معيار الأب والأم وهو صغير طفل مريح جداً لأنه (بيسمع الكلام) وهذا هو هدف كل أب وأم, ولكن عندما يكبر سيدرك الأبوين أن هذا الطفل عبء شديد جداً عليهم لأنه لا يمتلك أي مبادرة ولا يمتلك أي ملكات أو قدرات ولا يستطيع عمل أي شيء بمفرده، شخصية اعتمادية سلبية مملة.
إذاً فلكي تتحقق الصحة النفسية لأطفالنا لابد من مساعدتهم حتى يتطوروا وينموا وفي نفس الوقت نساعدهم على التكيف مع البيئة التي يعيشون فيها، وهذا التوازن ليس توازناً جامداً أو ساكناً بحيث نزيد هذه الكفة وننقص الأخرى مرة واحدة وتنتهي المهمة، لكن طالما كانت حركة النمو والتطور سريعة ومتغيرة فلابد من أن يواكبها تغير في حركة التكيف، فالتوازن هنا توازن ديناميكي بمعنى أنه يتطلب قدر عالي من المرونة، كلما زادت كفة نزيد الأخرى بمقدار مناسب وهكذا.
2 - الدوائر المتسعة : صحة الطفل - صحة الأم - صحة الأسرة - صحة المجتمع:
وهذا التوازن (المذكور أعلاه) ليس فقط في دائرة الطفل ولكن هناك دوائر أخرى متتالية تحتاج للتوازن فلن ننظر للطفل على أنه كائن وحيد، لكن سننظر إليه باعتباره دائرة تحوطها دائرة الأم تحوطها دائرة الأسرة تحوطها دائرة المجتمع، ولهذا يجب أن تكون هناك حالة توازن بين هذه الدوائر فننظر لصحة الطفل وصحة الأم وصحة الأسرة وصحة المجتمع، فالأم هي الحضن الأقرب للطفل، فلا نتصور وجود ابن صحيح نفسياً وله أم مضطربة نفسياً، والأسرة هي الحضن الأكبر الذي يحتضن الطفل والأم معاً، فلا نتصور كون الطفل والأم صحيحين معاً في حين أن الأسرة مضطربة، والطفل والأم والأسرة يحتضنهم المجتمع وهو الدائرة الأكبر فلا نتصور أن يبقى هؤلاء في صحة في حين أن المجتمع في حالة اضطراب.
وعندما نقوم كمعالجين بتقييم حالة طفل ننظر لهذه الدوائر ونحدد موضع الخلل, فأحياناً يأتي الطفل باضطراب معين، وحينما نفحصه نجد أن هناك خلل في أحد هذه الدوائر أو في أكثر من دائرة، فلابد من التفكير في إصلاح هذا الخلل، ولا نتوقف عند الطفل فقط، لأن الطفل هو ممثل هذا الاضطراب، فالطفل أكثر صدقاً وأكثر براءة وأكثر شفافية، فيظهر فيه الاضطراب بوضوح لكن لا يكون هو أصل الاضطراب فقد يكون هذا الاضطراب من أم مكتئبة أو مجهدة أو مدمنة أو الأسرة أو المجتمع فننظر إلى أصل هذا الاضطراب. أحياناً نتجه مباشرة لعلاج الأم أو لعلاج الأسرة، أو يكون هناك خلل اجتماعي معين ولو تم تصحيح هذا الخلل يكون هذا الطفل في حالة أفضل.
3- الصحة النفسية بين المطلق والنسبي:
وفي الواقع، مفهوم الصحة النفسية لكل هؤلاء (الطفل - الأم - الأسرة - المجتمع) مفهوم نسبي وليس مفهوماً مطلقاً، بمعنى أنه يختلف من بيئة لأخرى ومن مجتمع لمجتمع ومن أسرة لأسرة وما يمكن اعتباره صحياً في مكان، يمكن اعتباره اضطراباً في مكان آخر.
ولتقريب الفكرة، سنحكي حكاية صغيرة عن شيخ قبيلة أناني جداً، هذا الشيخ عرف بطريقة سرية أن البئر الذي تشرب منه القبيلة كلها، سيسمم في يوم من الأيام، ونظراً لأنانيته وحبه لنفسه، أخذ يخزن مياه كافية من هذا البئر في منزله حتى إذا تسمم البئر، يجد ما يشربه، فجاء اليوم وتسمم البئر فعلا وأصيب أهل القبيلة كلهم بالجنون ولكنهم لم يموتوا، فظل هو العاقل الوحيد بينهم، طبعاً استغرب أهل القبيلة تصرفاته في وسطهم ولم يحتملوه بينهم وفي النهاية قتلوه. فعلى الرغم من أنه العاقل الوحيد بينهم إلا أن اختلافه جعله في أزمة معهم، وحدث عدم تناسب بين تفكيره وتفكيرهم. إذن فلابد من أخذ هذا العامل في الاعتبار, لأن هناك اضطرابات كثيرة في الأطفال تكون مشكلتها النسبية في الصحة والزمان والمكان، فلابد من وضع اعتبار للزمان والمكان والظروف عند تقييم هذا الطفل.
سنعطي مثالا آخر بسيط ليوضح هذه النقطة: لو أن هناك طفل تشتكي أمه من كونه كثير الحركة ويقفز فوق الشبابيك وعلى البلكونات ويكسر الكراسي والأشياء، وهم يعيشون في شقة غرفتين وصالة، فهذا الطفل لو تخيلنا أنه انتقل من هذه الشقة الضيقة المحدودة الممتلئة بأشياء زجاجية وقابلة للكسر، ووضعناه في بيت واسع حوله ساحة كبيرة وشجر، وعاش الطفل في هذا المكان الجديد يجري في الساحة الخضراء ويقفز فوق الأشجار كما يريد، وقتها لن تحس الأم أي شقاوة منه أو أي حركة زائدة، وفي نهاية اليوم يعود بعد هذا الجهد المضني لينام والأم راضية وهو راض، هنا اعتبار المكان والظروف مهم جداً.
4 - الاستقطاب بين النقيضين مقابل الحوار والتعايش
هناك أسر تكون في حالة استقطاب ما بين نقيضين، بمعنى أنها أسرة أحادية النظرة وأحادية التفكير، فلا ترى الأشياء إلا بلونين، أبيض أو أسود، ولا تستطيع رؤية درجات الألوان البينية ما بين الأبيض والأسود، يرون أن ما يفعلوه هو الصحيح المطلق وكل ما عداه خطأ ولا يقبل النظر ولا التفكير ولا الحوار، فينشأ الطفل في هذا الجو وهو مستقطب استقطابا شديدا في ناحية واحدة أو اتجاه واحد، أحادي التفكير، لا يستطيع رؤية سوى احتمال واحد في كل شيء ولون واحد من كل الألوان.
من هنا عندما يكون الاستقطاب في اتجاه، لابد أن يتصارع مع الاتجاه الآخر أو يضاده، ويفقد هذا الطفل القدرة على التحاور والتعايش مع الآخرين المختلفين عنه، وبهذا الشكل يصبح الطفل دائماً في صراع مع أصحابه، ومع الجيران، ومع المجتمع، وعندما يكبر، يظهر موضوع الاستقطاب وأحادية التفكير مع الأب والأم، لأنه تعود أن الحقيقة واحدة فقط، الدنيا بها لون واحد، عندما يكبر ويدخل فترة المراهقة، يختلف عن الأب والأم، ولا يحتمل هذا الاختلاف فيبدأ بالعدوان على الأب والأم، لأنهم لم يعودوه الاختلاف مع الآخرين، والتحاور والتعايش معهم، فيدفع الأب والأم ثمن هذا الاستقطاب الذي أعطوه للطفل من خلال الجو الأسري القائم على فكرة الاستقطاب أو أحادية التفكير.
5- الإحتياجات بين الإشباع والحرمان:
للإنسان عدد كبير من الاحتياجات، وهناك عالم نفس شهير هو أبراهام ماسلو، قام بعمل ما يسمى "هرم الاحتياجات"، فقال إن الإنسان له احتياجات جسمانية بيولوجية عبارة عن الأكل والشرب والمسكن والملبس، هذه الاحتياجات لابد أن تشبع أولاً، وتمثل قاعدة الهرم، يليها احتياج للأمن والاستقرار، يليه احتياج للانتماء، الانتماء لأسرة ولبلد وللإنسانية، يليه احتياج للحب، أن يكون الإنسان قادراً على أن يحب ويحب، يليه احتياج للتقدير، أن يحس بأن الناس يقدرونه كشخص، ويقدرون ما يفعله، وسعيدون به، وانتهى ماسلو في آخر الهرم بالاحتياج لتحقيق الذات، أن يحقق الإنسان ذاته في هذه الحياة، وتوقف عند هذه النقطة، لأنه كان يتبع المدرسة الإنسانية، التي كانت تنظر للإنسان على أنه هو نهاية المطاف, لكننا نضيف إلى هذه الاحتياجات احتياج مهم جداً هو التواصل الروحي، فالإنسان لديه احتياج للتواصل الروحي مع الله، مع الكون، مع السماء، مع الغيب، وهذا الاحتياج يمكن فهمه بشكل عملي وعلمي موضوعي من المعابد المنتشرة في كل أنحاء العالم تمثل مراحل التاريخ المختلفة، وكيف أن الإنسان كان محتاجا لأن يكون على علاقة بالسماء وبالله سبحانه وتعالى, فأنشئت المعابد في كل الحضارات لتمثل هذا الاحتياج الحيوي المهم عند الإنسان.
وهذه الاحتياجات لابد من أن تشبع بتوازن، بمعنى أن نبدأ أولاً بالاحتياجات الأساسية، الأكل والشرب والمسكن والملبس، ثم الأمان، والانتماء، ثم الحب، وهكذا.. كل حاجة من هذه الحاجات تشبع وتأخذ حقها، ولا تطغى إحداها على الأخرى، ومع هذا هناك قاعدة مهمة وهي أن إشباع الاحتياجات لدرجة التخمة يؤدي إلى حالة من الترهل والضعف والمرض، فلابد من وجود توازن بين درجة الإشباع ودرجة الحرمان، فالإنسان محتاج أن يشبع وفي نفس الوقت أن يحرم من بعض الحاجات.. لماذا؟ لأن الحرمان ينشط الدوافع، ويجعل الإنسان يتحرك ويعمل ويكون عنده أمل، ويسعى وراء هدف..... لو أشبعت كل حاجة، فسيتوقف الإنسان عن السعي والحركة والتفكير والإبداع..... إذن لابد من وجود أشياء يحتاجها.. أشياء يحرم منها ويسعى إليها ويحلم بها.
إذن فهناك توازن ما بين الإشباع والحرمان، فالطفل لو أخذ كل احتياجاته فلن يكون صحيحا، ولو حرم حرماناً شديداً، ستصبح عنده مشاعر حقد وكراهية وحرمان وكره لمن حوله، لأن كل الذي يحتاجه لا يجده. وقد وضع علماء النفس معادلة يمكن تجربتها، وهي في الحقيقة مفيدة، قالوا أنه يكفى تلبية 70% من احتياجات الطفل، بمعني: لو أن الطفل طلب مائة حاجة، يلبى له منها 70 فقط، حتى لو كان ال 100 حاجة منطقيين وهو يحتاجهم فعلاً، لكن تلبية ال 100 حاجة لن تؤدي إلى سلامة هذا الطفل، فلابد من وجود شيء ينقصه.. يسعى إليه ويحلم به، ويكون عنده الأمل أن يحصل عليها في وقت من الأوقات، ونشجعه أن يعمل ويسعى للحصول عليه.
6 - مواكبة مراحل النمو:
غالباً ما تأتي الأم وتقول أن أولادها عندما كانوا صغاراً كانت تحبهم وتحس بأنهم جزء منها، وكانوا منسجمين جداً معها، لكن عندما كبروا، أصبحت تحس بغربة معهم، كأنهم لم يعودوا أولادها، ولم تعد منسجمة معهم كما كانت، فهي عاجزة عن فهمهم، وهم بالمثل غير قادرين على فهمها، لا تعرف بالضبط من المخطئ هي أم هم..... هذه الأم نقول لها أنها كانت متفقة مع أولادها في مرحلة معينة وهم أطفال، لكن أولادها يكبرون ويتطورون في تفكيرهم وفي عاداتهم وفي تقاليدهم وفي تطلعاتهم, لكن للأسف هي لم تتمكن من مواكبة هذه المراحل، وقفت عند مرحلة معينة وثبتت عندها في حين أن أولادها مستمرين في النمو والتطور، فهنا نشأت فجوة ما بين الاثنين، فتكون الغربة واختلاف اللغة، فهي لا تفهم دنياهم ولا حياتهم ولا طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه، وطريقة التعامل بينهم.....
وهكذا نقول لها أنها هي والأب لابد وأن يواكبوا مراحل النمو، بمعنى أن يعيشوا معهم مرحلة مرحلة. وهذه المواكبة مفيدة ليس فقط للأبناء، بل للأب والأم لأنهما أيضاً محتاجين لأن يعيدوا هذه المراحل مرة أخرى لأنفسهم، فمثلاً هناك أب لم يعش مرحلة طفولته جيداً، ولم يعش مرحلة مراهقته جيداً، لأي سبب من الأسباب، فيعيد التجربة مرة أخرى مع أولاده في هذه المرحلة، وكأنه يعيش المرحلة التي فقدها أو التي أفلتت منه بدون ذنب منه، أو لأي ظروف حدثت، هذا يفيد نفسياً، لأن الأشياء التي لم يتمكن من فعلها، سيعود لمعايشتها مرة أخرى، فيكمل النقص أو المساحات التي كانت مؤلمة نتيجة للحرمان في مرحلة معينة، وفي نفس الوقت سيكون على نفس الموجة مع أبنائه ، فتعطي فائدة مزدوجة للطرفين، وتجدد دائماً طفولة ومراهقة وشباب الأب والأم وتقوم بعمل حالة من التكامل في شخصيتهما.
ويتبع >>>>>: التنشئة الأسرية الموجهة نحو الصلاح الإنساني3
واقرأ أيضاً:
رعاية أبناء المطلقين / الآثار النفسية والاجتماعية لضرب الأطفال في المدارس