أثارت تصرفات معمّر القذافي وخطاباته واستخدامه العنف مع المتظاهرين في الأسبوع الأول لانتفاضة (17فبراير) تحليلا لأطباء نفسيين خلص معظمها إلى أن الرجل مصاب بالبارانويا والوساوس والهوس. ولأن هذا الحكم صادر من اختصاصيين فان الناس تصدّق بهذا التشخيص تصديقهم لطبيب مختص بأمراض الجسم يشخّص مريضه بأنه مصاب بالسرطان مثلا.
وإذا كان التشخيص صحيحا، أعني أن القذافي (وحكّاما عرب آخرين) مصاب بأمراض بعضها عقلية تدخل ضمن الذهان، فإن المنطق يطرح هذا السؤال:
*هل يمكن لرئيس دولة بهذا الخلل العقلي والمرض النفسي أن يحكم شعبا أربعين سنة حظي فيها باحترام رؤساء دول في عالم عاقل؟
وبما أنه من غير المعقول أن يحكم مجنون ملايّنا أربعين سنة، فأن المنطق لا يستقيم إلا بأن يكون الحاكم والناس كلاهما مصاب بأمراض نفسية بصيغة خلقت معادلة توافقية ضمنت ديمومة العلاقة بينهما بطريقة مشابهة للعلاقة بين (سي السيد) وزوجته المصابين كليهما بعصابي التسلط والخضوع.
لكن ما حصل أن المعنيين بـ"الطب النفسي" و"علم النفس التحليلي (الفرويدي)" من العرب والأجانب، غالوا في تحليل شخصيات المستبدين والطغاة العرب منذ سقوط أولهم، صدام حسين، إلى زين العابدين وحسني مبارك.. ثم القذافي، وشخّصوهم بأنهم مصابون بأمراض نفسية وعقلية بضمنها الذهان.. وهذا غير منطقي لأن الذهان (الجنون بالتعبير الدارج) اضطراب عقلي حاد يفقد فيه الفرد صلته بالواقع ويكون غير مسؤولا عن أفعاله بما فيها السلوك الإجرامي.
إن التحليل الصحيح هو أن "الشعـــوب" في عالمنا العربي مصابة بـ"اضطرابات عصابية" تعني تحديدا اللاواقعية في تقييم الأحداث وتجنب مواجهة الضغوط والمشكلات، والاستمرار في هذا السلوك بالرغم من طبيعته غير التكيفية والمفضية إلى الشعور باليأس والاستسلام لواقع ضاغط، فيما الحكّام مصابون بـ"اضطرابات الشخصية" التي تعني نمطا ثابتا من السلوك غير المرن والمستمر طويلا وسمات شخصية مفرطة ومتصلبة، تتمحور في أعراض من ثلاثة أنواع منها: النرجسية والسيكوباثية والبارانوية.
إن المعادلة النفسية التي كانت سائدة على مدى ألف وأربعمائة سنة في عالمنا العربي هي "سادية الراعي" مقابل "مازوشية الرعية". وعلّة الحاكم العربي المعاصر انه محكوم بـ (سيكولوجيا الخليفة).. يرى نفسه امتدادا له بسلطة موروث كامن في اللاوعي الجمعي للناس بأن الخليفة هو وكيل الله في الأرض، وسلطة حدّثها هو ووعّاظه بما يساير المفاهيم الحديثة (ديمقراطية، حرية..) شكلا لا مضمونا، وتفننا عصريا في إقامة نظام يستند على ثلاثة ركائز:السلطـة والثـروة والأمـن.
إن انتفاضات الشعوب العربية هي صحــوة من إدمان على تكيّف حياتي سلبي يتمثل في خضوع واستكانة ويأس وقدرية وقبول بمقولة حيثما تكونون يولّى عليكم.. وكلها أعراض عصابية.. وأن هذه الصحوة ما كانت لتستيقظ لولا تكنولوجيا الاتصالات عبر القارات وانتشار ثقافة جديدة لجيل يكبر وينمو، وتعاظم قوة عالمية من شعوب تغريه بحياة معتبرة تعيشها وأنظمة إنسانية تشجعه وتسنده أمام ثقافة جيل شاخ وصار خارج عصره..تراجع مهزوما في أول جولة.
ومع كل ذلك فإن (سيكولوجيا الخليفة) ما تزال تتحكم في كل الحكّام العرب الذين أدمنوا على السلطة.ومع أن بينهم من تلقى صفعة أسقطته وآخر أيقظته، فإن بينهم من لا يزال ينطبق عليه قول نزار قباني: (.. فأنا حادثة ما حدثت آلاف القرون!)، ويعتقد في علاقته بالناس بأنه: (كلما فكرت أن أتركهم فاضت دموعي كغمامة.. فتوكلت على الله وقررت أن أركب الشعب من الآن إلى يوم القيامة!).
واقرأ أيضاً:
النرجسية المميتة أحد أهم سمات الديكتاتور / اعتذار إلى أساتذتي المرضى الطيبين / القذافي مجنون أم مجرم أم ذا وذا؟