صدر هذا الفرمان "لا إقالة ولا استقالة" عن الحكومة ليضع الجامعات المصرية في أزمة طاحنة وتحدث انقسامات وعداوات وتجاوزات أخلاقية بين أعضاء هيئة التدريس يتطاير شررها إلى الطلاب الذين يستخدمون كأذرع في المعركة الدائرة بلا هوادة لينهار ما تبقى من القيم الجامعية.
والقصة باختصار أنه حين قامت الثورة تغيرت المفاهيم والتوجهات والعقليات، وأصبح من الصعب التعامل مع القيادات الجامعية القديمة (رؤساء الجامعات ونوابهم وعمداء الكليات ووكلائهم)، والسبب بسيط جدا ومهم جد، وهو أن هذه القيادات تم اختيارها بمعايير ومزاج الحزب الوطني وجهاز مباحث أمن الدولة المنحل، ولأغلبهم تاريخ سيء في التنكيل بزملائهم غير الموالين للنظام السابق والتعسف مع الطلاب وفصلهم حين ينادون بانتخابات اتحاد طلاب نظيفة، وكانوا بمثابة عصا لأمن الدولة داخل الجامعة، وفي سبيل إرضاء رموز النظام البائد الفاسد ضيعوا التقاليد الجامعية وأهدروا حرمة وقدسية الجامعة وجعلوا المستوى العلمي في الحضيض. وهذه القيادات الجامعية لها اتصالات مريبة بالنظام القديم ولطالما تغنت بإنجازاته وروجت لأباطيله ودعمت فساده، ولهذا فهي بمثابة طابور خامس يهدد مبادئ الثورة وتوجهاته، وبقاء هذه القيادات بلا مبرر مفهوم يشكك في نية النظام الحاكم في التغيير والتطهير. ويظهر هؤلاء في الصورة بشكل مستفز يتحدون الجميع ويواصلون رحلة التخريب في عقول الشباب.
ولهذا كان من المنطقي أن يرحلوا مع رحيل النظام الذي انتقاهم على عينه فهم يشكلون امتدادا لعقلية مبارك وابنه وعقلية صفوت الشريف وأحمد فتحي سرور وزكريا عزمي وأحمد عز وضباط مباحث أمن الدولة، ولهذا يتشبثون بمواقعهم في بلادة وتبجح وسماجة ويرفضون الرحيل على الرغم من التظاهرات والاحتجاجات التي خرجت في الجامعة تنادي بسقوطهم. وموقفهم هذا مفهوم فهو نفس موقف مبارك وعصابته في محاولة التشبث بالسلطة بأي ثمن وبأي طريقة، ولكن ما هو غير منطقي أن يمكنوا من ذلك بواسطة قرار حكومي خاطئ يقطع الأمل أمام إقالتهم أو استقالتهم، وبهذا جعلهم يجلسون على كراسيهم ويخرجون لسانهم للثورة ورموزها وللمجتمع بأسره، وتحدث انشقاقات خطيرة بين أعضاء هيئة التدريس ويتم تبادل الاتهامات والسباب وأحيانا الاشتباك بالأيدي، وتحدث الاعتصامات الطلابية والإضراب عن الطعام ثم يتدخل الأمن داخل حرم الجامعة ليفض تلك الاعتصامات بالعصي والكهرباء في سابقة خطيرة لم تحدث حتى في عصر مبارك الكئيب.
ثم يحاول بعض المسئولين التدخل لتهدئة الأوضاع فيقترحون أن يظل رئيس الجامعة أو عميد الكلية في منصبه بشكل صوري على أن يشكل مجلس أمناء من بعض الشخصيات تدير الأمور بشكل مؤقت، وهذا أمر عبثي يضع الجميع في صورة سيئة، إذ كيف يمشي المسئول الجامعي في الجامعة وكيف يجلس على مكتبه والجميع أو الغالبية يرفضونه ويهينونه؟... وكيف يرضى لنفسه أن يكون أشبه بالطرطور بينما تدار الأمور بواسطة مجلس أمناء، وكيف تسير الأمور في ظل هذه الإذدواجية العبثية؟.
للأسف كل هذا يحدث بسبب قرار متسرع ومتعسف وغير موضوعي يقضي بأنه "لا إقالة ولا استقالة"، وهي بالضبط نفس طريقة تفكير مبارك حين كان يعاند إرادة الناس، وكلما كره الناس مسئولا تمسك به لسنوات طويلة، وكلما انتقد الناس سياسة تمسك بها إلى آخر مدى، هي هي نفس العقلية لم تتغير حتى بعد قيام الثورة، فمبارك مازال يحكم الجامعة بعد الثورة.
وربما يقول البعض: دعونا نكمل العام الدراسي بهذه القيادات القديمة حتى لا تتأثر العملية التعليمية خاصة وأننا على أبواب امتحانات، وهذا يحافظ على استقرار الجامعة في مثل هذه الظروف!!... والحقيقة أن هذا لم يحدث بل حدث اضطراب شديد في البيئة الجامعية، وصراعات لا تنتهي وانهيارات في المنظومة الإدارية والتعليمية. والذي لا يعرفه من أصدروا القرار الخاطئ أن العملية التعليمية والعملية الامتحانية لا تتأثر بتغيير رئيس الجامعة أو العميد فهي مرتبطة أكثر بالأقسام وببنية إدارية ثابتة لا تتغير بتغير رئيس الجامعة أو العميد، كما أن هناك مئات الأشخاص في الجامعات يستطيعون القيام بمهام المقالين فورا وبكفاءة أفضل.
لذلك نرجو أن يراجع أولو الأمر هذه القضية كي يعود الوئام والاحترام إلى المجتمع الجامعي فهو من الحصون المتبقية نسبيا والتي لا نريد لها أن تنهار، والرجوع إلى الحق فضيلة، والثورة تعني التغيير على كل المستويات ومن أهمها مستوى الجامعة التي كانت وما زالت محتلة بمرتزقة الأمن والحزب الوطني.
واقرأ أيضا:
الانشطار الديني وخطر المواجهة الطائفية / نجح العقل القطري وفشلت الفهلوة المصرية / ضبط إيقاع العلاقات الإنسانية / ليسوا مشايخ بل مجرمين