عندما بدأت الإضرابات الفئوية تلتحق بجموع الثورة في بدايات الأسبوع الثاني من فبراير، استقر عندي أن مبارك قد حانت ساعته، وحاولت أن أسابق الزمن، لأقنع من أعرفهم بأن اختيار قيادة مدنية للفترة الانتقالية هو واجب عاجل وأساسي لتتويج تضحيات وصمود المصريين، ولكن سبقني العقل الجمعي المصري حينذاك، حين رأى أن الأسهل والأسلم، ربما بحسابات وقتها، أن يستدعي الجيش ليكون الضامن الوطني للانتقال من نظام منهار وفاسد وعميل اتفق أغلب المصريين على إزاحته، ودفع بعضهم الثمن، إلى نظام آخر أفضل، يطمحون إليه، ويعملون على تشكيل ملامحه التفصيلية خطوة بخطوة.
وعقب تنحي مبارك مباشرة جمعني لقاء ببعض شباب الثورة، وقلت يومها بوضوح: أن العلاقة بين الشعب والجيش، الآن، وفيما بعد، تحتاج إلى عمق تفكير، وتناول وحوار، وبحث ومدارسة، فتحمس أحدهم: وقال: معك يا دكتور، وفتحت معه نقاشا سريعا عن تصوري، ثم لم أره حتى كتابة هذه السطور!!!! وكنت، وما زلت، أتمنى أن أستعيد معه، ومع من يهتم كتابات مهمة منها ما حرره أخي الدكتور الراحل أحمد عبد الله رزة تحت عنوان: الجيش والديمقراطية في مصر، وغير ذلك من جهود رصينة تثري التفكير والنقاش حول صياغة ناضجة لعلاقة الشعب بالجيش، ودور الجيش في الحياة السياسية، والعامة، ومن ثم رسم خريطة ملامح واضحة لدوره في المرحلة الانتقالية
وترون معي.. إلى أين يوصلنا غياب التصورات والرؤى، والخرائط والخطط، والاستسهال، وعدم التركيز، والاندفاع في المعالجات لشئون تحتاج إلى غير ذلك.
وحتى يتم ما أطمح وأسعى إليه من بحث معمق، ورسم تصورات، وبناء هياكل، أقول أنه من الخطورة بمكان أن نترك الثورة للجيش ليكون مسئولا وحده عن تنفيذ مطالبها، وأداء مهامها، وإنجاز طموحاتها، ومن العجز المذموم أيضا أن نكتفي بلومه على التقصير، أو التأخير، فلم يكن الاتفاق مع الجيش أن يحل مكان الإرادة الشعبية الثورية، ولكن ربما أن يكون مجرد ظهير لها، وحين نتقاعس في تحويل الإرادة والشرعية الثورية إلى خطط ومجموعات وأجهزة عمل تقترح، وترصد، وتراقب، وتبادر، وتعاون أحيانا، الجهود الرسمية للأجهزة البيروقراطية مدنية كانت أو عسكرية، حين نترك ساحة المعركة ضد بقايا النظام الفاسد لنفس أجهزته البيروقراطية، دون تدخل شعبي واضح ونافذ وفعال ومنظم.. ونحن ندرك العلل المزمنة لهذه الأجهزة، ونعرف أن علاج هذه العلل سيحتاج إلى قيادات جديدة وجسارة، ربما توفرها حكومات ما بعد الانتخاب الديمقراطي المنتظر، وحتى إشعار آخر فإن البيروقراطية الرسمية لن تكون الأداة الأمينة على الثورة وأهدافها، بحكم التكوين والفساد الإداري، والعقليات القديمة التي أوردتنا المهالك.
إنما في أية ثورة يحصل اصطفاف شعبي فوري، منظم ومكون من متطوعين وأصحاب خبرات من أجيال وخلفيات مختلفة يتوزع على الملفات المطلوب إنجازها، لأن الثورة في جوهرها تقتضي بالتعريف أن يتمكن الناس من إدارة شئونهم، ورعاية مصالحهم، واسترداد حقوقهم، وتنفيذ مطالبهم، لا أن يكتفوا بالمطالبة، وذم التباطؤ والتواطؤ في التنفيذ!!! وكما يصطف الناس في تشكيل أحزاب جديدة، فإن الأدوات الأكثر فاعلية تظل هي الجهود المدنية، والمجموعات الثورية المنظمة التي تعالج ملفات محددة، وتراقب المحاكمات بتدقيق وتوثيق مثلا، وتحقق وتراقب في التهم الموجهة، والإجراءات المتبعة، لا أن تكتفي بالمتابعة والفرجة، ثم الاستحسان أو الاستقباح!!! ولا يكتفي من الناس (نحن) في حالة الثورة المصرية أن يضغطوا من أجل تحقيق المطالب، والتذكير بالتباطؤ، والتظاهر من حين لآخر، ولا حتى أن يعتصم البعض مطالبا بالإسراع.
إذ ليست الثورة الحقيقية في جوهرها تعني استبدال نخب سياسية قديمة بأخرى جديدة، ولا تنحية قيادات حكومية قديمة، وتصدير قيادات جديدة، ولكن الثورة الحقيقية تكمن في تمكين الناس لإدارة حياتهم عبر جهاز دولة يعمل بهم، وتحت مراقبتهم، وعبر مجتمع قوي بمؤسساته المدنية العملاقة اليقظة التي تتعاون مع جهاز الدولة، وتراقبه.. في آن واحد.. كما في كل الدنيا.
الآن.. يبدو أن الواجب المتأخر، والفريضة الغائبة ما تزال تنتظرنا لنقوم بها، وتشكيل مجموعات العمل النوعية هذه، يبدو حتميا لمواصلة الثورة ونجاحها، وإنجاز مهام التحول الذي ننشده، ونسعى لتحقيقه، إن واجبات المراقبة والرصد، والتدقيق والتوثيق، وتأكيد وتجويد الملاحقة والمحاسبة، والمشاركة في الإشراف والتطوير، بإصلاح ودعم للجهود الرسمية أحيانا، وبالاستقلال عنها أحيانا أخرى، هذه بعض المهام، الشعبية التي ما تزال مفتقدة، أو غير منظمة بالقدر المطلوب، وربما نحتاج لبعض تدريب ورفع كفاءة واكتساب مهارات نوعية لنقوم بهكذا أعمال، وربما أقوم بجهد في هذا السبيل قريبا، بمشيئة الله.
الأمثلة التوضيحية كثيرة من بلدان سبقتنا،وأسعدني من أيام أن أعرف بتشكيل نواة لمجموعة مدنية ستعمل على ملاحقة الأموال المنهوبة، وستعمل هذه المجموعة مستقلة، وأيضا بالتنسيق مع إدارة مشابهة في وزارة الخارجية المصرية تأسست لنفس الغرض، وهناك جهود مدنية، تصلح كبدايات لما أدعو إليه من عمل شعبي منظم في معالجة الملفات المختلفة العاجل منها، والمزمن.
إذا كنا قد أعطينا الجيش تفويضا كاملا، أو توكيلا عاما، أو شيكا على بياض، فلا ينبغي أن نحاسبه، أو نعاتبه، أو نراقبه، وإذا كان الحال غير ذلك، فإن اصطفاف وبلورة وتوزيع وإنضاج الجهود المدنية، لاستكمال إنجاز أهداف الثورة يبدو الأولوية المسكوت عنها، أو الضائعة وسط أنين الشكوى من الإحباط أحيانا، أو زغاريد الاحتفالات بإجراءات لا يشارك الشعب فيها، ولا يطلع الناس على تفاصيل وحقائق جديتها، كما يحصل في أيامنا هذه، ويحتاج الإنجاز إلى أكثر من هذا وذاك، كما حاولت أن أشرح، أما الاكتفاء بتأييد الجيش، أو تخوينه، مدح الحكومة أو ذمها، الاحتشاد في ميدان التحرير، أو حتى الاعتصام فيه أحيانا، أو ذم من يحتشد أو يعتصم، أرى أن هذه كلها من أعمال الفرجة والاستسهال، مع الفارق في الدرجة، ولن تنجز ما نريده، والله أعلم.
واقرأ أيضاً:
تنظيف مصر من آثار الفرعون بالمقشات/ قلق ما بعد الثورة/ ثورة 25 يناير ومكامن الخطر/ الفاسدون وراثة أم تربية؟/ علاج الاستبداد