عندما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أقر أوضاعا جديدة تقوم على قيم وأخلاقيات جديدة، منها التآلف والتآخي بين مكونات الدولة الجديدة، قام بتسوية الصراع التاريخي بين الأوس والخزرج، فتوحد الأنصار، وتآخوا مع المهاجرين، واندمجوا جميعا مع يهود المدينة ليكون المجتمع المدني المديني، ثم بعد وقت قصير حصلت حادثة حين تجلى إبليس في صورة رجل دخل في مجلس عام، وبدأ في التذكير بأساليب أيام الجاهلية وصراعاتها، وأخذ يعدد جراح الماضي فيما شجر بين الأوس والخزرج، فهاج هؤلاء وأولئك، وقام الناس إلى أسلحتهم، وهموا بقتال جديد على أساس التعصب القبلي العنصري، فخرج عليهم الرسول مسرعا من بيته، وصاح فيهم: أبدعوى الجاهلية، وأنا بين ظهرانيكم؟؟ دعوها.. فهي منتنة
حادثة مهمة وملهمة قد يكتفي بعضنا بروايتها على منبر، أو في مجلس، أو قبل النوم للصغار، لكن المغزى أن الأوضاع الجديدة في أية أمة إنما تستند إلى روح جديدة، وأخلاقيات جديدة، وأساليب تفكير وعمل جديدة، وأخطر وأكبر خيانة لأي تغيير، وخاصة التغيير الثوري، أن نعود لنفس الأوضاع القديمة، والأساليب القديمة، والأخلاقيات، والتقسيمات القديمة، لأن هذا يكون بمثابة انقلاب داخلي عميق على الثورة، أو التغيير، والأداء السياسي والتنافسي للمصريين في التحضير للاستفتاء المزمع غدا يكشف في جوانب منه أنهم مدربين أكثر، ومستعدين أكثر، وجاهزين أكثر، وممارسين أكثر، للأساليب القديمة، والتقاسيم القديمة.
والجاهلية القديمة التي دفعنا ثمنا كبيرا لنتخلص منها، وذهبت دماء الشهداء في سبيل مصر جديدة أخرى مختلفة، ليس لأجل العودة لنفس الجاهلية والخناقات، والتحزبات، والصراعات، وقلة التدقيق، وحشد القطعان، وهذه الجاهلية حين تعود تصبح أخطر من أي تحرك لما يسمى ثورة مضادة، لأنه من داخل البيت، ولأن أعداء الثورة ظاهرون ومعروفون بتاريخهم وسخائمهم، أما أنصارها الغافلون عن روحها، المتورطون بوعي، وغالبا بغير وعي، في نفس الممارسات القديمة، ويجرون الشباب الخارج المتجاوز لهذه الروح الجاهلية أصلا، ليكون هامشا على متن الجاهليات القديمة أو وقودا في صراعاتها.
هذه هي أكبر خيانة للثورة، وعلى من ينتسبون للثورة كمرجعية جديدة لمصر جديدة أن ينتبهوا لهذا، وأن ينبهوا له، ويحاربوه، كأولوية قصوى تتعلق بروح الثورة ومسارها، ومستقبلها، الجهد الرائع الذي لعبه الإخوان المسلمون في إنجاح الثورة ننتظر منهم بعده تحولا كبيرا في طريقتهم وأساليبهم ومناهجهم وخطط حركتهم، ولا أرى هذا يحدث، إلا قليلا، ونفس الجهد ينبغي أن ينعكس إيجابا في موقف الآخرين منهم، ولا أسمع في هذا غير الهمس، يطغى عليه نفس الخطاب العدائي المزمن، لا خطاب النقد العميق المبصر، بل خطاب الكراهية العمياء، اللاعقلاني، واللا وطني في سب الإخوان، بمناسبة وبغير، ولا أنفي أن هناك محاولات لتغيير مسلك الإخوان، ومحاولات لضبط نقدهم من قبل خصومهم، لكن الصوت الأعلى ما زال للجاهلية والسفاهة وخطاب الكراهية المتبادل، وهذه الروح المتخلفة هي مقتل، وفخ، ومصيدة لاصطياد ثورة عظيمة لشعب عظيم.
لو كان أمر المرحلة بيدي.. لكان صوتي غدا، هو لالالالالا، لهذه الروح الجاهلية المتخلفة، ونعم لكل جهد يحاول مراقبتها، وضبطها، والاعتراض عليها، بصوت عالٍ، هو صوت المعركة لأن هذه هي المعركة، وليست الاستفتاء، هذه هي المعركة، معركة روح الثورة، ومستقبل الثورة، ونجاح الثورة، وأعداء الثورة، الحقيقيين، أي نحن، حين نستسلم للأساليب القديمة، والجاهلية القديمة، والروح القديمة.
دولة العواجيز، ليست أشخاصا فقط، بل هي أساليب منتهية الصلاحية، وألفاظ وأنماط، وحيل، وأخطاء، أحيانا تكون شديدة البراءة، ولكنها قاتلة، وأعجبني اعتذار المرشد عن الأخطاء الإعلامية الإخوانية في الدعاية قبل الاستفتاء، لكنني أريد تقريرا، واعترافا تفصيليا علنيا بها، يتوجه به لعموم الإخوان والشعب، لضمان عدم تكرارها، ولعل على الآخرين أن يقوموا بواجبهم، ويعترفوا بأخطائهم، ويرصدوها، ويعتذروا عنها، ولا يغني هذا وذاك عن بدء الدور الشعبي الغائب، في مراقبة الأداء الثوري، وضبطه، ورفع الصوت عاليا لمصلحة الثورة وروحها، لا لمصلحة حزب أو فصيل، أو جماعة، فما مات شهداؤنا ليصل الإخوان إلى الحكم، ولا ليكون البرادعي رئيسا، ولا غير ذلك، إنما كنا في مرمى القناصة في ميدان التحرير، من أجل مصر الثورة، مصر الجديدة، بأخلاق وقيم وأساليب تنافس وتداول جديدة، ومن لديه القدرة على ذلك، أهلا به، ومن ليست لديه القدرة فليتعلم معنى وروح ثورتنا، أو يتنحى مشكورا، كما تنحى سلفه، لأنه سيصبح عبئا على ثورة تسابق الزمن، لتهدم نظام الفرعون الذي طغى وجنوده في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وتبني نظاما عادلا حرا لجميع المصريين سواسية كأسنان المشط، أحرارا كما ولدتهم أمهاتهم، لا فارق بين سلفي وكاثوليكي، ولا بين إخواني وبهائي إلا بالعمل الوطني الصالح وهذا هو ميدان التنافس، أما الاستفتاء، بعد ذلك، فأمره هين، لو كانت إرادة الشعب هي النافذة الآمرة، كما كانت في الميدان، وستظل هكذا قوية ومتحكمة بفضل الله، ما حافظت على أخلاق الميدان، وقيم الميدان، وإبداع الميدان.
يا مصريون.... اختاروا من فضلكم، إما الثورة، أو الجاهلية.... ولا يجتمع كلاهما في عقل، ولا قلب، إلا وكان فيه من الجاهلية دخن ومرض يحتاج إلى علاج. ويا أيها المصريون... لا أخشى عليكم الدنيا بأسرها.. ولو اجتمعت عليكم، ولكن أخشى أن تنسوا الله، فيكلكم إلى أنفسكم، أو تنسوا أخوتكم، وروح ثورتكم، فيصبح بأسكم بينكم شديدا، كما كان دوما، أيام الجاهلية....
ألا هل بلغت، اللهم فاشهد
ترجمان الثورة
18/3/2011
واقرأ أيضاً:
هنا والآن.. الثورة تكون إزاي؟؟/ كشف الطيش.. في مسألة الجيش/ حكاوي القهاوي